التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب الأكفاء في المال وتزويج المقل المثرية

          ░16▒ (بَابُ: الأَكْفَاءِ في المَالِ، ونكاح المُقِلِّ المُثْرِيَةَ).
          5092- ذكر فيه عن عائشة ♦: ({وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى} [النساء:3]) السَّالف في تفسير سورة النِّساء [خ¦4573].
          و(المُثْرِيَة) الكثيرة المال، يُقال: ثَرِيَ القومُ إذا كَثُروا، وأَثْرَوا: إذا كثُرت أموالهم.
          ووجه التَّرجمة أنَّ الرَّجل إذا كانت قرابته مليَّة وهو غير مليٍّ فيجوز أن يتزوَّجها إذا أقسط في صداقها وعدل، فصحَّ بهذا أنَّ الكُفُؤ في المال هو تبعٌ للدِّين على ما سلف، فإن رأى وليُّ اليتيمة تزويجها مِنْ رجلٍ يقصر ماله عن مالها، وكان صالحًا يعدل فيها وفي صداقها، فلا بأس بذلك أيضًا.
          وحديث عائشة دالٌّ على أنَّه يجوز للوليِّ أن يتزوَّج يتيمتَه إذا رضيت / به دون السُّلطان، وقد أجازه الحسن البصريُّ وربيعة ومالكٌ واللَّيث والأوزاعيُّ والثَّوْريُّ وأبو حنيفة وأبو ثَوْرٍ وابن حَزْمٍ، وَقَالَ زُفَرُ والشَّافعيُّ: لا يجوز أن يتزوَّجها إلَّا بالسُّلطان أو يزوِّجها منه وليٌّ هو أقعدُ بها منه أو مثله في القعود، وقاله أيضًا داود بن عليٍّ، واحتجُّوا بأنَّ الولاية مِنْ شرط العقد، وكما لا يكون الشَّاهد ناكحًا ولا منكحًا، كذلك لا يكون النَّاكح منكحًا، ويفسخ النِّكاح عند مالكٍ قبل الدُّخول وبعده.
          وفيه قولٌ آخر، وهو أن تجعل أمرها إلى رجلٍ يزوِّجها منه، قَالَ ابن بَطَّالٍ: ورُوي هذا عن المغيرة بن شعبة وبه قَالَ أحمد، ذكره ابن المُنْذرِ، وسيأتي في البُخاريِّ [خ¦67/37-7603]: أنَّ المغيرة خطب امرأةً هو أولى النَّاس بها فأمر رجلًا فزوَّجه، وسيأتي مسندًا، واحتجَّ الأوَّلون بالهبة لها حيث يتَّحد العاقد والقابض، وكذلك النِّكاح، ألا ترى أنَّه ◙ زوَّج المرأة مِنَ الرَّجل بما معه مِنَ القرآن، فكذلك أن يزوِّجها مِنْ نفسه _لو قَبِلَها_ كما فعل في خبر صفيَّة حين جعل عِتقَها صداقها، وجُوَيْرية كما سلف.
          وكذا حديث الباب أيضًا، فإنَّ الله تعالى لمَّا عاتب الأولياء أن يتزوَّجوهنَّ إن كنَّ مِنْ أهل المال والجمال إلَّا على سنَّتهنَّ مِنَ الصَّداق، وعاتبهم على ترك نكاحهنَّ إذا كنَّ قليلات الأموال، فاستحال أن يكون ذلك منه تعالى فيما لا يجوز نكاحه لأنَّه لا يجوز أن يعاتب أحدًا على ترك ما هو حرامٌ عليه، ألا ترى أنَّه أمر وليَّها أن يقسط لها في صداقها، ولو أراد بذلك بالغًا لما كان في ذكره أعلى سُنَّتها في الصَّداق، يعني: إذا كان له أن يراضيها على ما يشاء، ثُمَّ يتزوَّجها على ذلك، فثبت أنَّ الَّذي أمر أن يبلغ بها أعلى سنتها في الصَّداق هي الَّتي لا أمر لها في صداقها المولى عليها وهي غير بالغٍ، وما أسلفناه مِنْ عند البُخاريِّ عن المغيرة قد أسنده أبو عُبيدٍ بن سلَّامٍ بإسنادٍ صحيحٍ عن قَبِيصة عن سفيان عن عبد الملك بن عُميرٍ قَالَ: أراد المغيرة أن يتزوَّج امرأةً هو وليُّها، فأمر وليَّها مِنْ غير ثقيفٍ فزوَّجها إيَّاه. وحَدَّثنا هُشيمٌ، حَدَّثنا مُحمَّد بن سالمٍ عن الشَّعْبيِّ: أراد المغيرة أن يتزوَّج بنت عمِّه عروة بن مسعودٍ، فأرسل إلى عبد الله بن أبي عَقيلٍ، فقال له: زوِّجنيها، فقال: ما كنت لأفعل، أنت أمير البلد وابن عمِّها، فأرسل إلى عثمان بن أبي العاصي فزوَّجها إيَّاه.
          وَقَالَ البُخاريُّ: وَقَالَ عبد الرَّحْمَن بن عوفٍ لأمٍّ حَكيمٍ بنت قارظٍ: أَتَجْعَلينَ أمرك إليَّ؟ فقالت: نعم، فقال: قد تزوَّجتُك، وَقَالَ عطاءٌ: ليُشهِدَ أنِّي قد نكحْتُك، أو ليأمُرْ رجلًا مِنْ عشيرتها.
          والأوَّل رواه ابن سعدٍ عن ابن أبي فُدَيكٍ عن ابن أبي ذئبٍ عن سعيد بن خالدٍ: أنَّ أمَّ حَكيمٍ قالت... الحديث، والثَّاني رواه ابن أبي خَيْثَمة عن أبيه عن سفيان عنه، قَالَ ابن المُنْذرِ: كان عطاءٌ يجيز للمرأة أن تزوِّج نفسها إذا كان بشهادةٍ. وذكر أبو الفرج الأمويُّ في «تاريخه» بإسنادٍ جيِّدٍ: أنَّ النَّوَار جعلت أمرها بيد ابن عمِّها همَّام بن غالبٍ، فزوَّجها مِنْ نفسه فلم يُنكر عليه مَنْ كان في عصره مِنَ الصَّحابة والتَّابعين.
          وأمَّا فعل المغيرة فهو مِنْ باب الأدب في النِّكاح أن يأمر الوليُّ رجلًا بعقد نكاحه مع وليَّته، ولو تولَّى هو عقدَه إذا رضيت به لكان حسنًا، قَالَ أبو عُبيدٍ: وجدنا سُنَّتين في هذا الباب:
          الأُولى: أن يكون الوليُّ هو الَّذي يزوِّجُها مِنْ نفسه مِنْ غير أن يولِّي ذلك أحدًا سواه كما فعل ◙ بصفيَّة وجُوَيرية، إذ تزوَّجهما مِنْ غير أن تتولَّيا ذلك غيرَه لأنَّه كان هو المعتق والسُّلطان، ولم يكن هناك وليٌّ بنسبٍ مِنْ أهل الإسلام، وكان الشَّارع أولى النَّاس بهما.
          الثَّانية: أن يأمر رجلًا فيكون هو الَّذي يخاطب الوليَّ بالنِّكاح، كفعل ميمونة إذ جعلت أمرها إلى العبَّاس، وكفعل أمِّ سَلَمة إذ زوَّجَها ولدُها، وقد كان بعضهم يتأوَّل في هذِه الأحاديث أنَّها مرخِّصةٌ، والمرأة تولِّي أمرها لرجلٍ فيزوِّجها، ولا رخصة في ذلك لأنَّ الزَّوج هنا وليٌّ، فلو زوَّجها مِنْ نفسه كان جائزًا، وكذلك إذا أذن لمعرفته فهذا على كلِّ حالٍ نكاح وليٍّ، ولو أنَّ هذا الوليَّ جعل أمرَها إلى غريبٍ فزوَّجها منه كان جائزًا لأنَّه لا بدَّ مِنْ أن يكون للمُنكِح ولايةٌ عليها، وإن كان الزَّوج أقرب إليها منه.
          وَقَالَ أبو حنيفة في قوله: {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى} [النساء:3] وفي قوله: {فِي يَتَامَى النِّسَاءِ} [النساء:127]: إنَّ اليتيمة لا تكون إلَّا غير بالغةٍ، فدلُّ على أنَّ لوليِّها أن ينكحها قبل البلوغ، وهو أحد أقوال مالكٍ وليس بالمشهور، والآخر: لا ينكحها، والآخر: يتزوَّجها إذا احتاجت، وقد يُقال: إنَّ مَنْ لم تبلغ لم تؤت شيئًا إلَّا أن يقول الوليُّ واليتامى مجازٌ كقوله: {وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ} [النساء:2] سمَّاهم يتامى وقد بلغوا.
          وفيه أنَّ للوليِّ حقًّا في الولاية، ومعنى الآية: أنَّ الله تعالى خاطب الأولياء إن خفتم ألَّا تقوموا بالعدل فتزوَّجوا غيرهنَّ ممَّن طاب لكم مِنَ النِّساء، ثُمَّ ذكر العدد، وهو قول عائشة، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: معناها قصر الرِّجال على أربعٍ لأجل أموال اليتامى، نزلت جوابًا لتحرُّجهم على القيام بإصلاح أموال اليتامى، وفسَّر عِكرمة قولَ مولاه هذا بألَّا تكثروا مِنَ النِّساء فتحتاجوا إلى أخذ أموال اليتامى، وَقَالَ السُّدِّيُّ وقَتَادة: معناه إن خفتم الجور في أموالهم فخافوا مثله في النِّساء، فإنَّهنَّ كاليتامى في الضَّعف، ولا تَنكِحوا أكثرَ ممَّا يمكنكم إمساكهنَّ بالمعروف.