التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب: هل يعفى عن الذمي إذا سحر؟

          ░14▒ باب: هَلْ يُعْفَى عَن الذِّمِّيِّ إِذَا سَحَرَ؟ وَقَالَ ابن وَهبٍ أَخْبَرَنِي يُونُسُ عَن ابن شِهابٍ سُئِلَ أَعَلَى مَنْ سَحَرَ مِنْ أَهْلِ العَهْدِ قَتْلٌ؟ قَالَ: بَلَغَنَا أَنَّ رَسُولَ الله صلعم قَدْ صُنِعَ لَهُ ذَلِكَ فَلَمْ يَقْتُلْ مَنْ صَنَعَهُ وَكَانَ مِنْ أَهْلِ الكِتَابِ.
          3175- وهذا ذكره ابن وَهبٍ في «جامعه».
          وذكر حديث عَائِشَةَ (أَنَّ النَّبِيَّ صلعم سُحِرَ حتَّى كَانَ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ أَنَّهُ صَنَعَ شَيْئًا وَلَمْ يَصْنَعْهُ). وذكره في موضعٍ آخر مطوَّلًا [خ¦5763]، وفيه: (حتَّى كان ذاتَ يومٍ دَعا ودَعا، ثُمَّ قال: أَشَعَرْتِ أَنَّ اللهَ أَفْتَانِي فِيمَا فِيهِ شِفَائِي، أَتَانِي رَجُلاَنِ: فَقَعَدَ أَحَدُهُمَا عِنْدَ رَأْسِي وَالآخَرُ عِنْدَ رِجْلَيَّ، فَقَالَ أَحَدُهُمَا لِلْآخَرِ مَا وَجَعُ الرَّجُلِ؟ قَالَ: مَطْبُوبٌ، قَالَ: وَمَنْ طَبَّهُ؟ قَالَ لَبِيدُ بْنُ الأَعْصَمِ، فِي مُشُطٍ وَمُشَاطَةٍ وَجُفِّ طَلْعَةٍ ذَكَرٍ، قَالَ فَأَيْنَ هُوَ؟ قَالَ: فِي بِئْرِ ذَرْوَانَ) فَقَالَتْ: هلَّا اسْتَخْرَجْتَهُ؟ فقال: (أمَّا أَنَا فَقَدْ شَفَانِي اللهُ، وَخَشِيتُ أَنْ يُثَوِّرَ ذَلِكَ عَلَى النَّاس شَرًّا، ثُمَّ دُفِنَتِ البِئْرُ).
          أمَّا حكمُ الباب فلا يُقتل ساحرُ أهل الكتاب عند مالكٍ لقول ابن شِهابٍ ولكن يُعاقب إلَّا أن يَقتل بسحره فيُقتل، أو يُحدِثَ حَدثًا فيُؤخذ منه بقدر ذلك، وهو قول أبي حَنيفةَ والشَّافعيِّ.
          وروى ابن وَهبٍ وابن القاسم عن مالكٍ أيضًا أنَّه لا يُقتل ساحر أهل العهد إلَّا أن يُدخل بسحره ضررًا على مسلمٍ لم يعاهد عليه، فإذا فعلوا ذلك فقد نقضوا العهد، فحلَّ بذلك قتلهم.
          وعلى هذا القول لا حجَّة لابن شِهابٍ في أنَّه ◙ لم يقتل اليهوديَّ الَّذي سحَره لوجوهٍ:
          منها أنَّه قد ثبت عنه أنَّه كان لا ينتقم لنفسه، ولو عاقبه لكان حاكمًا لنفسه.
          ومنها كما قال المهلَّب أنَّ ذلك السِّحر لم يضرَّه، لأنَّه لم يُفقده شيئًا مِنَ الوحي، ولا دخلت عليه داخلةٌ في الشَّريعة، وإنَّما اعتراه شيءٌ مِنَ التَّخيُّل والتَّوهُّم، ثُمَّ لم يتركه الله على ذلك، بل تداركه وعصمه، وأعلمه بموضع السِّحر وأمره باستخراجه وحلِّه عنه، فعصمه الله مِنَ النَّاس ومِنْ شرِّهم كما وعده، وكما دفع عنه أيضًا ضرَّ السُّمِّ بعد أن أطلعه الله على المكيدة فيه بآيةٍ أظهرها إليه معجزةٍ مِنْ كلام الذِّراع.
          وقد اعترض بعضُ الملحدين بحديث عائشة، وقالوا: / وكيف يجوز السِّحر على رسول الله صلعم والسِّحر كفرٌ وعملٌ مِنْ أعمال الشَّياطين، فكيف يصل ضرُّه إلى رسول الله صلعم مع حياطة الله له وتسديده إيَّاه بملائكته، وصون الوحي عن الشَّياطين؟
          وهذا اعتراضٌ فاسدٌ دالٌّ على جهل قائله وغباوته وعنادٌ للقرآن، لأنَّ الله قال لرسوله: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الفَلَقِ} [الفلق:1]، إلى قوله: {فِي العُقَدِ} [الفلق:4].
          والنَّفَّاثاتُ: السَّواحر تَنْفُثُ في العُقَد كما يَنْفُثُ الرَّاقي في الرُّقية، فإن كانوا أنكروا ذلك، لأنَّ الله لا يجعل للشَّيطان سبيلًا على نبيِّه فقد قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى ألقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ} [الحج:52] يريد إذا تلا ألقى الشَّيطان.
          وقد رُوي عن رسول الله صلعم أنَّ عِفريتًا تفلَّتَ عليه ليقطع عليه الصَّلاة حتَّى همَّ أن يربطه إلى ساريةٍ مِنْ سواري المسجد، فذكر قول سليمان: {قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ} [ص:35] فردَّه خاسئًا، وليس في جوازِ ذلك عليه ما يدلُّ أنَّ ذلك يلزمه أبدًا أو يُدخل عليه داخلةً في شيءٍ مِنْ حاله أو شريعته، وإنَّما ناله مِنْ ضرِّ السِّحر ما ينال المريض مِنْ ضرِّ الحمى والبِرْسام بغير سحرٍ مِنَ الضَّعف عن الكلام وسوء التَّخييل، ثُمَّ زال ذلك عنه وأفاق منه، وأبطل اللهُ كيدَ السِّحر، وقد قام الإجماع على عصمته في الرِّسالة، فسقط هذا الاعتراضُ.
          قلت: أخبرني عاليًا جمال الدِّين يوسف الدِّلَاصيُّ، أخبرنا ابن تامَنِّيت أخبرنا ابن الصَّائغ، أنبأنا القاضي عِياضٌ في «الشِّفا»: فإن قلت: فقد جاءت الأخبار الصَّحيحة أنَّه ◙ سُحِر، وذكر حديث الباب ثُمَّ قال: وفي روايةٍ أخرى: ((حتَّى كان يخيَّل إليه أنَّه كان يأتي النِّساء ولا يأتيهن)) وإذا كان هذا مِنِ التباس الأمر على المسحور، فكيف حاله في ذلك، وكيف جاز عليه وهو معصومٌ؟ فاعلم أنَّ هذا الحديث صحيحٌ متَّفقٌ عليه، وقد طعنت فيه المُلْحِدَةُ وتذرَّعت به _لسُخف عقولها وتلبيسها على أمثالها_ إلى التَّشكيك في الشَّرع، وقد نزَّهه الله تعالى عمَّا يدخل في أمره لَبسًا، وإنَّما السِّحر مرضٌ مِنَ الأمراض وعارضٌ مِنَ العلل يجوز عليه كأنواع الأمراض ممَّا لا ينكر ولا يقدح في نبوَّته. وأمَّا ما ورد أنَّه كان يُخيَّل إليه أنَّه فعل الشَّيء ولا يفعله، فليس في هذا ما يدخل عليه داخلةً في شيءٍ مِنْ تبليغه أو شريعته، أو يقدح في شيءٍ مِنْ صدقه، لقيام الدَّليل والإجماع على عصمته مِنْ هذا، وإنَّما هذا ممَّا يجوز طروءُه عليه في أمر دنياه الَّتي لم يُبعث بسببها، ولا فُضِّل مِنْ أجلها، وهو فيها عُرضةٌ للآفات كسائر البشر، فغير بعيدٍ أن يخيَّل إليه مِنْ أمورها ما لا حقيقة له ثُمَّ ينجلي عنه كما كان، وأيضًا فقد فسَّر هذا الفصل الحديث الآخَر مِنْ قوله: ((حَتَّى يُخَيَّلَ إِلَيْهِ أنَّهُ يَأْتِي أَهْلَهُ وَلَا يَأْتِيهِنَّ)). وقد قال سفيان: وهذا أشدُّ ما يكون مِنَ السِّحر، ولم يأت في خبرٍ منها أنَّه نُقل عنه في ذلك قولٌ بخلاف ما كان أخبر أنَّه فعله ولم يفعله، وإنَّما كانت خواطر وتخيُّلات.
          وقد قيل: إنَّ المراد بالحديث أنَّه كان يتخيَّل الشَّيء أنَّه فعله وما فعله، لكنَّه تخيُّلٌ لا يعتقد صحَّته، فتكون اعتقاداته كلُّها على السَّداد وأحواله على الصِّحة، هذا ما وقفتُ عليه لأئمَّتنا مِنَ الأجوبة عن هذا الحديث، وقد ظهر لي في الحديث تأويلٌ أجلى وأبعدُ عن مطاعن ذوي الأضاليل يُستفاد مِنْ نفس الحديث، وهو أنَّ عبد الرَّزَّاق قد روى هذا الحديث عن ابن المسيِّب وعروة وقال فيه: ((سَحَر يهودُ بني زُرَيقٍ رسول الله صلعم فجعلوه في بئرٍ حتى كاد رسول الله صلعم أن ينكر بصره، ثُمَّ دلَّه الله ╡ على ما صنعوا فاستخرجه مِنَ البئر)). وذُكِر عن عَطاءٍ الخُراسانيِّ عن يحيى بن يَعمُرَ قال: حُبس رسول الله صلعم عن عائشة سنةً، فبينما هو نائمٌ أتاه ملكان فقعد أحدهما عند رأسه والآخر عند رِجليه...)) الحديث. قال عبد الرَّزَّاق: حُبس رسول الله صلعم عن عائشة _خاصَّةً_ سنةً حتَّى أنكر بصره.
          فقد استبان لك مِنْ مضمون هذه الرِّوايات أنَّ السِّحر إنَّما تسلَّط على ظاهره وجوارحه، لا على قلبه واعتقاده وعقله، وأنَّه إنَّما أثَّر في بصره وحبسه عن وطء نسائه، ويكون معنى قوله: (يُخَيَّلَ إِلَيْهِ أنَّهُ يَأْتِي أَهْلَهُ وَلَا يَأْتِيهِنَّ) أي: يظهر له مِنْ نشاطه ومُتقدِّم عادته القدرة على النِّساء، فإذا دنا منهنَّ أصابته أَخذة السِّحر، فلم يقدر على إتيانهنَّ كما يعتري مَنْ أُخذ واعترض، ولعلَّه لمثل هذا أشار سفيانُ بقوله: وهذا أشدُّ ما يكون مِنَ السِّحر، ويكون قول عائشة: ((إِنَّهُ لَيُخَيَّلُ إِلَيْهِ...)) إلى آخره، مِنْ باب ما اختلَّ من بصره، كما ذكر في الحديث، فيظنُّ أنَّه رأى شخصًا مِنْ بعض أزواجه أو شاهد فعلًا مِنْ غيره، ولكن على ما يخيَّل إليه لِما أصابه في بصره وضعف نظره، لا لشيءٍ طرأ عليه في مَيْزِه، وإذا كان لم يكن فيما ذُكر مِنْ إصابة السِّحر له وتأثيرِه فيه ما يدخل لبسًا ولا يجد المعترض الملحد أنسًا.
          فصلٌ: قوله: (مَطْبُوبٌ) فيما قدَّمناه أي: مسحور، يُقال منه: طُبَّ الرَّجلُ، والاسم الطِّبُّ بالكسر، وفي الحديث: ((فلعل طِبًّا أصابه، ثُمَّ نشره بـ{قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ} [النَّاس:1])).
          والمُشاطة: ما سقط مِنَ الشَّعر عند المَشْط.
          فصلٌ: ذكر ابن قُتيبة في «مختلف الحديث» أنَّ عليًّا استخرج السِّحر، فكلَّما حلَّ عقدةً وجد ◙ خفَّةً، فلما انتهى قام كأنَّما نشط مِنْ عقال.
          فصلٌ: قولها في روايةٍ: ((أفلا أحرقته)) يعني: السِّحر أو لَبيدًا.
          وفيه حجَّةٌ لمالكٍ، ومَنْ قال بقوله أنَّ السَّاحر يقتل إذا عمل بسحره وإنَّما تركه، لأنَّ اليهود كانوا في عهدٍ منه وذمَّةٍ. قلت: أو تركه لما سلف في المنافقين [خ¦6922].
          خاتمةٌ: قال ابن التِّيْنِ: قول ابن شِهابٍ هذا خلاف مذهب الفقهاء أنَّه يُقتل وإن كان مسلمًا، فكيف إذا كان مِنْ أهل الكتاب؟! واختُلف هل تُقبل توبتُه إذا قال: تبتُ؟
          فقال مالكٌ: لا تُقبل، وقال الشَّافعيُّ: تُقبل.
          وفيه أنَّ السِّحر له حقيقةٌ خلافًا لِمَنْ نفاه، قال الدَّاوُديُّ: وليس في الحديث أنَّ الَّذي سحرَه كان مِنْ أهل العهد.