التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب إذا غدر المشركون بالمسلمين هل يعفى عنهم؟

          ░7▒ باب: إذا غدر المشركون بالمسلمين هل يُعفى عنهم؟
          3169- ذكر فيه حديث أبي سعيدٍ _وهو المَقْبُريُّ_ عن أبي هريرة ☺: لمَّا فتحت خيبر أُهديتْ إلى رسول الله صلعم شَاةٌ فِيهَا سُمٌّ فَقَالَ: (اجْمَعُوا عَلَيَّ مَنْ كَانَ هُنَا مِنْ يَهُودَ فَجُمِعُوا لَهُ فَقَالَ: إِنِّي سَائِلُكُمْ...) الحديثَ، وفي آخره: وَإِنْ كُنْتَ نَبِيًّا لَمْ يَضُرَّكَ. ويأتي في المغازي والطِّبِّ [خ¦4249] [خ¦5777].
          وأخرجه مسلمٌ وقال: ((ما كان اللهُ ليسلِّطك على ذلك)).
          وأخرجه أبو داود مِنْ حديث ابن شِهابٍ عن جابرٍ ولم يسمع منه.
          وفي آخر المغازي: قال البُخَاريُّ: قال يونس: عن عُروة قالت عائشة: كان النَّبيُّ صلعم يقول في مرضه الَّذي مات فيه: ((يا عائشة ما زلتُ أجد ألم الطَّعام الَّذي أكلتُ بخيبرَ، فهذا أوانُ انقطاع أَبْهَري مِنْ ذلك السُّمِّ)) وهو تعليقٌ أسنده الإسماعيليُّ مِنْ حديث عَنْبَسة بن خالدٍ عن يونس به، والحاكم في «إكليله» أخرجه مِنْ حديث عَنْبَسة أيضًا.
          وروى البُخَاريُّ مِنْ حديث أنسٍ، قِيلَ: ألا نقتُلها؟ يعني: الَّتي سمَّتْه قال: ((لا)) قال: فما زلت أعرفها في لَهَواتِه. ولابن إسحاقَ: ((فدعا بالَّتي سمَّته فاعترفَتْ)) ولأحمدَ مِنْ حديث ابن مسعودٍ: ((كنَّا نرى أنَّه ◙ سُمَّ في ذراع الشَّاة، وأنَّ اليهود سمُّوه)) وعن ابن عبَّاسٍ: ((أنَّه ◙ احتجم وهو مُحْرِمٌ مِنْ أكلةٍ أكلها مِنْ شاةٍ مسمومةٍ)) وعن عبد الرَّحمن بن عبد الله بن كعب بن مالكٍ أنَّ أمَّ بشرٍ دخلت على رسول الله في وجعه الَّذي قُبض فيه فقالت: ما تتَّهمُ على نفسك؟ قال: ((الطَّعام الَّذي أكله ابنك بخيبرَ وهذا أوان قطعِ أبْهَري)).
          وللواقِديِّ عن الزُّهْريِّ أنَّ زينب الَّتي سمَّته هي ابنة أخي مَرْحَبٍ، وأنَّه ◙ قال لها: ((ما حملك على هذا؟)) قالت: قتلتَ أبي وعمِّي وزوجي وأخي.
          قال محمَّدٌ: فسألت إبراهيم بن جعفرٍ عن هذا فقال: أبوها الحارث وعمُّها يَسارٌ وكان أجبنَ النَّاس وهو الَّذي أُنزل مِنَ الرَّفِّ، وأخوها زُبَيرٌ وزوجها سلام بن مِشْكَمٍ.
          وأمَّا السُّهَيليُّ فقال: هي أخت مَرْحَبٍ، قال محمَّد بن عمرَ: والثَّبت عندنا أنَّ رسول الله صلعم قتلها ببشر بن البراء بن مَعرورٍ: يعني الآكل معه منها، وأمر بلحم الشَّاة فأُحرق.
          وهذه المسألة سأل عنها مالكٌ الإمامَ الواقِديَّ، قال المنْتَجاليُّ: وذلك أنَّ مالكًا سُئل عنها، ولم يكن عنده فيها شيءٌ، فرأى الواقِديَّ _وهو شابٌّ إذ ذاك_ فسأله عنها، فقال: الَّذي عندنا أنَّه قتلها، فخرج مالكٌ إلى النَّاس فقال: سألنا أهل العلم فأخبرونا أنَّه قتلها.
          وعن الزُّهْريِّ قال: قال جابرٌ: ((احتجمَ رسولُ الله يومئذٍ على الكاهل حجمَه أبو طيبة بالقَرْن والشَّفرة))، وقيل: بل حجمه أبو هندٍ واسمه عبد الله.
          ولأبي نُعَيْمٍ في «طبِّه» عن عبد الرَّحمن بن عثمانَ: ((احتجم ◙ تحت كتفه اليسرى مِنَ الشَّاة الَّتي أكل بخيبر))، وعن عبد الله بن جعفرٍ: ((احتجم على قرنه بعدما سُمَّ)) وفي إسنادهما ضعفٌ.
          قال الواقديُّ: وأُلقي مِنْ شحم تلك الشَّاة لكلبٍ، فما تبعت يدٌ رِجلًا حتَّى مات.
          ولأبي داود: ((أمرَ بها فقُتلت)) وفي لفظٍ: ((قتلها وصلبها)).
          وفي «جامع مَعْمرٍ» عن الزُّهْريِّ: ((لمَّا أسلمت تركها)) قال معمرٌ: كذا قال الزُّهْريُّ: أسلمت، والنَّاس يقولون قتلها، وأنَّها لم تُسلم، وكانت أهدت الشَّاة المَصليَّة لصفيَّة.
          قال السُّهَيليُّ: قيل: إنَّه صفح عنها، والجمع بين القولين أنَّه ◙ كانت عادتُه أنَّه لا ينتقم لنفسه، فلمَّا مات بشرُ بن البراء بعد ذلك بحولٍ، فيما ذكره البَيْهَقيُّ، وعند القُرْطُبيِّ: لم يبرح مِنْ مكانه حتَّى مات قتلها به.
          وعن ابن عبَّاسٍ: دفعها إلى أولياءُ بِشرٍ فقتلوها.
          ومِنْ ذلك الحين لم يأكل ◙ مِنْ هديَّةٍ تُهدى له حتَّى يأمر صاحبها أن يأكل منها، جاء ذلك في حديثٍ أخرجه ابن مُطَيرٍ في «معجمه» عن أحمد بن حنبلٍ حدَّثنا سعيد بن أحمد حدَّثنا أبو تُمَيْلَة حدَّثنا محمَّد بن إسحاق حدَّثنا عبد الملك بن أبي بكرٍ عن محمَّد بن عبد الرَّحمن مولى آل طلحة عن ابن الحَوْتَكِيَّة، يعني يزيد عن عمَّار بن ياسر... فذكره.
          وأخرجه الطَّبَرانيُّ في «أكبر معاجمه» عن عبد الله بن أحمد حدَّثنا سعيد بن محمَّدٍ، فذكره إلى عمَّارٍ قال: ((كان رسول الله لا يأكل مِنْ هديَّةٍ حتَّى يأمر صاحبها أن يأكل منها للشَّاة الَّتي أُهديت له)).
          وذكره ابن عساكر في «تاريخه» في ترجمة مسلمِ بن قُتيبة: حدَّثني أبي حدَّثنا يحيى بن الحُصَين بن المُنْذرِ عن أبيه أبي ساسانَ قال: سمعت عمَّارًا به، ذكره عن أبي نصرٍ القُشَيريِّ أخبرنا البَيْهَقيُّ، أخبرنا الحاكم، أخبرنا عليٌّ الحُبيبيِّ، أخبرنا خالد بن أحمد حدَّثني أبي حدَّثني سعيد بن سلم بن قُتيبة به، ولفظه: / ((كان رسول الله صلعم لا يأكل الهديَّة حتَّى يأكل منها مَنْ أهداها إليه بعدما أهدت إليه المرأةُ الشَّاةَ المسمومة بخيبر)).
          فصلٌ: في هذا الحديث أنَّ القتل بالسُّمِّ كالقتل بالسِّلاح الَّذي يوجب القِصاص، وهو قول مالكٍ.
          وقال الكوفيُّون: لا قِصاص فيه، وفيه الدِّية على العاقلة، قالوا: ولو دسَّه في طعامٍ أو شرابٍ لم يكن عليه شيءٌ ولا على عاقلته.
          وقال الشَّافعيُّ: إذا فعل ذلك وهو مكرهٌ، ففيه قولان في وجوب القَوَد، أصحُّهما: لا.
          فصلٌ: وفيه أيضًا مِنْ علامات النُّبوَّة ما هو ظاهرٌ مِنْ كلام الجماد، وأنَّ السُّمَّ لم يؤثِّر فيه حتَّى كان عند وفاته، لتجتمع له النُّبوَّة مع الشَّهادة، مبالغةً في كرامته ورفع درجته.
          وفيه أنَّ السُّموم لا تُؤثِّر بذاتها بل بإذن الرَّبِّ جلَّ جلالُه ومشيئتِه، ألا ترى أنَّ السُّمَّ أثَّر في بِشرٍ ولم يؤثِّر في رسول الله صلعم، فلو كان يؤثِّر بذاته لأثَّر فيهما في الحال.
          فصلٌ: فيه العفو عن المشركين إذا غدروا بشيءٍ يستدرك إصلاحُه وجبره ويعصم الله منه، إذا رأى الإمام ذلك، وإنْ رأى عقوبتَهم عاقبهم بما يؤدِّيه إليه اجتهاده، وأمَّا إذا غَدروا بالقتل أو بما لا يستدرك جبرُه وما لا يعتصم مِنْ شرِّه، فلا سبيلَ إلى العفو كما فعل الشَّارع في العُرَنِيِّين عاقبهم بالقتل، وإن كان ◙ قال لعائشةَ: ((ما زالت أكلة خيبرَ تعاهدني، فهذا أوانُ انقطاع أَبهَري)) لكنَّه عفا عنهم حين لم يعلم أنَّه يقضي عليه، لأنَّ الله تعالى دفع عنه ضرَّ السُّمِّ بعد أن أطلعه على المكيدة فيه بآيةٍ معجزةٍ أظهرها له مِنْ كلام الذِّراع، ثُمَّ عصمه الله مِنْ ضرِّه مدَّة حياته، حتَّى إذا دنا أجله بغى عليه السُّمُّ، فوجد ألمه، وأراد الله تعالى له الشَّهادة بتلك الأكلة ولذلك لم يعاقبهم.
          وأيضًا فإنَّ اليهود قالوا: أردنا أن نختبر بذلك نبوَّتك وصدقك، فإن كنت نبيًّا لم يضرَّك، فقد يمكن أن يعذرهم بتأويلهم، وأيضًا فإنَّه كان لا ينتقم لنفسه، تواضعًا لله كما مرَّ، وكان لا يقتل أحدًا مِنَ المنافقين المناصبين له بالعداوة والغوائل، لأنَّه كان على خُلقٍ عظيمٍ مِنَ الصُّلح والإغضاء والصَّبر، وأصل هذا كلِّه أنَّ الإمام فيه بالخيار، إن شاء عفا عنه وإن شاء عاقبه.
          فصلٌ: ترجمة البُخَاريِّ: (هل يُعفى عنهم) ولم يذكر في الحديث العفو ولا عدمه، وليس فيه أنَّ ذلك كان بعد عهدٍ، فإن يكن عفا فهو بفضلٍ منه لوجهٍ يرجوه مِنْ إسلامهم أو لاستئلاف حلفائهم مِنَ المسلمين وإن يكن عاقب بقتلٍ أو سبيٍ فهو جزاؤهم، قاله الدَّاوُديُّ.
          وقد أسلفنا رواية قتلِها، ثُمَّ قال: والَّذي يدلُّ عليه ظاهر الأمر أنَّه أبقاهم لحاجته إليهم في عمل الأرض.
          قال: وفيه دليلٌ أنَّه أُخبر بالسُّمِّ، ولم يذكر قبل أنْ أكلَ ولا بعد، وفي الحديث الآخر: ((أنَّ امرأةً جعلت له سُمًّا في شاةٍ)) فإمَّا أن يكون الأمران جميعًا أو في إحدى الرِّوايتين وهمٌ.
          وقوله: لم يذكُر هل كان قبل أن يأكل أو بعدُ يُبيِّنه الحديث أنَّه كان بعد أن أكل لأنَّه قال: ((ما زالت أكلة خيبرَ تُعادُّني، فهذا أوان انقطاع أبهَري)).