التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب إخراج اليهود من جزيرة العرب

          ░6▒ باب: إخراج اليهود مِنْ جزيرة العرب.
          وقال عمر ☺ عن رسول الله صلعم: (أُقِرُّكُمْ مَا أَقَرَّكُم اللهُ) [انظر:2285]
          3167- وهذا سلف في المزارعة مسندًا [خ¦2338].
          ثُمَّ أسند فيه حديث أبي هريرة ☺: بينما نحن في المسجد خرج النَّبيُّ صلعم فقال: (انْطَلِقُوا إِلَى يَهُودَ) فَخَرَجْنَا حتَّى جِئْنَا بَيْتَ المِدْرَاسِ فَقَالَ: ((أَسْلِمُوا تَسْلَمُوا وَاعْلَمُوا أَنَّ الأَرْضَ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ، وَإِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُجْلِيَكُمْ مِنْ هَذِهِ الأَرْضِ فَمَنْ يَجِدْ مِنْكُمْ بِمَالِهِ شَيْئًا فَلْيَبِعْهُ وَإِلَّا فَاعْلَمُوا أَنَّ الأَرْضَ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ)).
          ويأتي في الاعتصام والإكراه [خ¦6944] [خ¦7348]، وأخرجه مسلمٌ أيضًا.
          3168- حدَّثنا محمَّدٌ حدَّثنا ابن عُيَينة عن سليمان الأحول سمع سعيد بن جُبَيْرٍ سمع ابن عبَّاسٍ ☻ يقول: (يَوْمُ الخَمِيسِ وَمَا يَوْمُ الخَمِيسِ!...) الحديث. ويأتي في المغازي [خ¦4431] وأخرجه مسلمٌ أيضًا، وقد سلف أيضًا في باب: جوائز الوفد [خ¦3053].
          وقال في آخره: وَالثَّالِثَةُ إِمَّا أَنْ سَكَتَ عَنْهَا، وَإِمَّا أَنْ قَالَهَا فَنَسِيتُهَا، قَالَ سُفْيَانُ: هَذَا مِنْ قَوْلِ سُلَيْمَانَ. أي: ابن أبي مُسلمٍ المكيِّ الأحول خال ابن أبي نَجيحٍ.
          قال الجَيَّانيٌّ: ومحمَّدٌ هذا لم ينسبه أحدٌ مِنَ الرُّواة، وقد ذكر البُخَاريُّ في الوضوء: حدَّثنا ابن سَلَام حدَّثنا ابن عُيَينة، وقال في عدَّة مواضعَ: عن محمَّد بن يوسف البِيْكَنديِّ عن ابن عُيَينة.
          وروى الإسماعيليُّ حديث الباب عن الحسن بن سفيانَ عن محمَّد بن خَلَّاد الباهليِّ عن ابن عُيَينة.
          فصلٌ: أمَّا الحديث فمعناه أنَّه كان يكره أن يكون بأرض العرب غير المسلمين، لأنَّه امتُحن في استقبال القبلة حتَّى نزل: {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ} الآية [البقرة:144]، وامتُحن مع بني النَّضير حين أرادوا الغدر به وأن يُلقُوا عليه حجرًا، فأمره الله بإجلائهم وإخراجهم وترك سائر اليهود، وكان لا يتقدَّم في شيءٍ إلَّا بوحي الله، وكان يرجو أن يحقِّق اللهُ رغبته في إبعاد اليهود عن جواره، فقال ليهود خَيبرَ: ((أُقرُّكم ما أَقرَّكم الله)) منتظرًا للقضاء فيهم، فلم يُوحَ إليه في ذلك بشيءٍ إلى أنْ حضرته الوفاة، فأُوحي إليه فيه فقال: ((لا يبقينَّ دينان بأرض العرب)) وأوصى بذلك عند موته فلمَّا كان في خلافة عُمرَ، وعدَوا على ابنه وفَدَعوه، فحص عن قوله صلعم فيهم، فأُخبر أنَّه أوصى عند موته بإخراجهم مِنْ جزيرة العرب فقال: مَنْ كان عنده عهدٌ مِنْ رسول الله فليأتِ به وإلَّا فإنِّي مُجليكم، فأجلاهم.
          قال المهلَّب: وإنَّما أمر بإخراجهم خوف التَّدليس منهم، وأنَّهم متى رأَوا عدوًّا قويًّا صاروا معه كما فعلوا برسول الله صلعم يوم الأحزاب.
          قال الطَّبَريُّ: وفيه مِنَ الفقه أنَّ الشَّارع سَنَّ لأمَّته المؤمنين إخراجَ كلِّ مَنْ دان بغير دين الإسلام مِنْ كلِّ بلدةٍ للمسلمين، سواءٌ كانت تلك البلدة مِنَ البلاد الَّتي أسلم أهلها عليها، أو مِنْ بلاد العَنوة إذا لم يكن بالمسلمين ضرورةٌ إليهم، ولم يكن الإسلام يومئذٍ ظهرَ في غير جزيرة العرب ظهور قهرٍ، فبان بذلك أنَّ سبيل كلِّ بلدةٍ قَهَر فيها المسلمون أهل الكفر، ولم يكن تقدَّم قبل ذلك مِنْ إمام المسلمين لهم عقد صلحٍ على إقرارهم فيها، أنَّ على الإمام إخراجَهم منها ومنعهم القرار بها، إلَّا أنْ يكون المسلمون إليهم ضرورةً إلَّا قرار مسافر ومُقام ظَعْنٍ، وأكثر ذلك ثلاثة أيَّامٍ بلياليها كالَّذي فعل الأئمَّةُ الأبرار عمرُ وغيره، فإنْ ظنَّ ظانٌّ أنَّ فعل عمر في ذلك إنَّما هو خاصٌّ بمدينة رسول الله صلعم وسائر جزيرة العرب، لأمرِه ◙ بإخراجهم منها دون سائر بلاد الإسلام، وقال: لو كان حكم غير جزيرة العرب كحكمها في التَّسوية بينهما جميعًا في إخراج أهل الكفر منها، لما كان عمرُ يقرُّ النَّصارى النَّبَط في سواد العراق، وقد قهرهم الإسلام وعلاهم، ولكان قد أجلى نصارى الشَّام ويهودها عنها وقد غلب الإسلام على بلادهم، ولما ترك مجوس فارسَ في أرضهم وقد غلبهم الإسلام وأهله.
          فإنَّ الأمر بخلاف ما ظنَّ، وذلك أنّ عمر لم يقرَّ أحدًا مِنْ أهل الشِّرك في أرضٍ قد قهر فيها الإسلامُ وغلب. لم يتقدَّم قبل ذلك _قهره إيَّاهم_ منه لهم أو مِنَ المؤمنين عقد صلحٍ على التَّرك فيها إلَّا لضرورة المسلمين إلى إقرارهم فيها، كإقراره نَبَط سواد العراق في السَّواد بعد غلبة المسلمين عليه، وكإقراره مَنْ أقرَّ مِنْ نصارى الشَّام فيها بعد غلبتهم على أرضها دون حصونها، فإنَّه أقرَّهم للضَّرورة إليهم في عمارة الأرض، إذ كان المسلمون في الحرب مشاغيل، ولو أُجْلُوا عنها لخربت الأرضُ وبقيت بغير عامرٍ، فكان فعلهم في ذلك نظير فعله ◙ وفعل الصِّدِّيق في يهود خَيبرَ ونصارى نَجْران، فإنَّه ◙ أقرَّ يهود خَيبرَ بعد قهر المسلمين لهم عمَّالًا وعمَّارًا، إذ كانت بالمسلمين ضرورةٌ لعمارة أرضهم لاشتغالهم بالحرب في مناوأة الأعداء، ثُمَّ أمر ◙ بإجلائهم عند استغنائهم عنهم، وقد كانوا سألوه عند قهرهم على الأرض إقرارهم فيها عمَّالًا لأهلها، فأجابهم إلى إقرارهم فيها ما أقرَّهم الله، وإجلائهم منها إذا رأى ذلك، وأقرَّهم الصِّدِّيق على نحو ذلك.
          فأمَّا إقرارُهم مع المسلمين في مصر لم يكن تقدَّم في ذلك قبل غلبة المسلمين عليه عقدُ صلحٍ بينهم وبين المسلمين، فيما لا نعلمه صحَّ به عنه ولا عن غيره مِنْ أئمَّة الهدى خبرٌ، ولا قامت بجواز ذلك حجَّةٌ، بل الحجَّة في ذلك عن الأئمَّة ما قلناه.
          ثُمَّ ساق بإسناده إلى قيس بن الرَّبيع: حدَّثنا أبانُ بن تَغْلِبَ عن رجلٍ قال: كان منادي عليٍّ ☺ ينادي كلَّ يوم: لا يبيتنَّ بالكوفة يهوديٌّ ولا نصرانيٌّ ولا مجوسيٌّ، الحقوا بالحيرة.
          وإلى ليثٍ عن طاوسٍ عن ابن عبَّاسٍ قال: لا يساكنكم أهل الكتاب في أمصاركم.
          قال يحيى بن آدم: هذا عندنا على كلِّ مصرٍ اختطَّه المسلمون، ولم يكن لأهل كتاب، فنزل عليهم المسلمون.
          قال الطَّبَريُّ: وهذا قولٌ لا معنى له، لأنَّ ابن عبَّاسٍ لم يخصِّص بقوله: لا يساكنكم أهل الكتاب مصرًا سكَّانه الإسلامُ دون غيرهم، بل عمَّ ذلك بقوله: جميع أمصاركم، وأنَّ دلالة أمره ◙ بإخراج اليهود مِنْ جزيرة العرب، يوضح عن صحَّة ما قال ابن عبَّاسٍ، وأنَّ الواجب على الإمام / إخراجُهم مِنْ كلٍّ مصرٍ غلب عليه الإسلام إذا لم يكن بالمسلمين إليهم ضرورةٌ، ولا كانت مِنْ بلاد الذِّمَّة الَّتي صُولحوا على الإقرار فيها، إلحاقًا لحكمه بجزيرة العرب، وذلك أنَّ خيبر لم تكن مِنَ البلاد الَّتي اختطَّها المسلمون، وكذلك نَجْرانُ بل كانت لأهل الكتاب، وهم كانوا عُمَّارَها وسكَّانَها، فأمر ◙ بإخراجهم حين غلب عليها الإسلامُ، ولم يكن بهم إليهم ضرورةٌ.
          ثُمَّ ساق مِنْ حديث جَريرٍ عن قابوس عن أبيه عن ابن عبَّاسٍ ☻ مرفوعًا: ((لا تصلح قِبلتان في أرضٍ)) فإذا صحَّ ما قلناه فالواجب على الإمام إذا أقرَّ بعض أهل الكتاب في بعض بلاد المسلمين، لحاجتهم إليهم لعِمارتها أو لغير ذلك ألَّا يدعَهم في مصرهم أكثر مِنْ ثلاثٍ، وأن يُسْكِنَهم خارجًا مِنْ مصرهم كالَّذي فعل عمرُ وعليٌّ، وأن يمنعهم مِنِ اتِّخاذ الدُّور والمساكن في أمصارهم، فإن اشترى منهم مشترٍ في مصرٍ مِنْ أمصار المسلمين دارًا أو ابتنى به مسكنًا، فالواجب على إمام المسلمين أخذُه ببيعها، كما يجب عليه لو اشترى مملوكًا مسلمًا أن يأخذه ببيعه، لأنَّه ليس للمسلمين إقرار مسلمٍ في ملك كافرٍ، فكذلك غير جائزٍ إقرار أرض المسلمين في غير ملكهم، قال غيره: وكذلك الحكم في الرَّجل المسلم الفاسق إذا شهد عليه أنَّه مؤذٍ لجيرانه بالسَّفه والتَّسليط، وتشكَّى به جيرانُه، وصحَّ ذلك عند الحاكم أنَّ له أن يخرجه مِنْ بين أظهرهم، وإن كانت له دارٌ أكْراهَا عليه، فإن لم يجد لها مكتريًا باعها عليه، ودفع الأذى عن جيرانه، وقال ابن القاسم: تُكرى ولا تُباع، وسيأتي هذا المعنى في كتاب الأحكام إن شاء الله تعالى.
          فصلٌ: في حديث ابن عبَّاسٍ _كما قال المهلَّب_ أنَّ جوائز الوفد سنَّةٌ.
          فصلٌ: قد أسلفنا الكلام على حدِّ جزيرة العرب واضحًا [خ¦3053]، ونقل ابن بَطَّالٍ هنا عن أبي عُبيدٍ عن الأصمعيِّ أنَّ جزيرة العرب ما بين أقصى عَدَن أَبْيَن إلى ريف العراق طولًا، ومِنْ جدَّة وما والاها مِنْ ساحل البحر إلى أطراف الشَّام عرضًا، وعن إسماعيل بن إسحاق: عَقَبَةُ تبوكَ هي الفرق بين جزيرة العرب وأهل الشَّام، وعن أبي عُبيدٍ أنَّ جزيرة العرب ما بين حفر أبي موسى إلى أقصى اليمن طولًا، وما بين رمل يَبْرِينَ إلى منقطع السَّماوة عرضًا. قال الطَّبَريُّ: وإنَّما قيل لها جزيرة العرب، وإنَّما هي: جزيرة البحر، تعريفًا لها وفرقًا بينها وبين سائر الجزائر، كما قيل لأَجَأ وسَلْمى وهما جبلان مِنْ نجدٍ: جبلا طيِّئٍ؛ تعريفًا لهما بطيِّئٍ وفرقًا بينهما وبين سائر جبال نجدٍ، وإنَّما قيل لها: جزيرةٌ لانقطاع ما كان فائضًا عليها مِنْ ماء البحر، وأصل الجَزْر في كلام العرب القَطْعُ، ومنه سُمِّي الجزَّار جزَّارًا، لقطعه أعضاء البهيمة.