التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب ما أقطع النبي من البحرين

          ░4▒ باب: مَا أَقْطَعَ النَّبِيُّ صلعم مِنَ البَحْرَيْنِ وَمَا وَعَدَ مِنْ مَالِ البَحْرَيْنِ وَالجِزْيَةِ وَلِمَنْ يُقْسَمُ الفَيْءُ وَالجِزْيَةُ؟
          ذكر فيه ثلاثةَ أحاديثَ:
          3163- أحدها: حديث أنسٍ: (دَعَا النَّبيُّ صلعم الأَنْصَارَ لِيَكْتُبَ لَهُمْ بِالبَحْرَيْنِ فَقَالُوا: لَا وَاللهِ حتَّى تَكْتُبَ لِإِخْوَانِنَا مِنْ قُرَيْشٍ مِثْلَهَا) الحديث سلف في كتابة القَطائع مِنَ الشُّرب، معلَّقًا عن اللَّيث عن يحيى بن سعيدٍ عن أنسٍ [خ¦2377]، وهنا أسنده عن أحمد بن يونس حدَّثنا زهيرٌ عن يحيى به، ويأتي في فضائل الأنصار [خ¦3794].
          3164- ثانيها: حديث جابرٍ قال: كان النَّبيُّ صلعم قال لي: (لَوْ قَدْ جَاءَنَا مَالُ البَحْرَيْنِ قَدْ أَعْطَيْتُكَ هَكَذَا وَهَكَذَا...) / الحديث سلف في الخُمس [خ¦3137].
          3165- ثالثها: حديث أنسٍ أيضًا علَّقه، فقال: وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ طَهْمَانَ عَنْ عَبْدِ العَزِيزِ بْنِ صُهَيْبٍ عَنْ أَنَسٍ أُتِيَ النَّبِيُّ صلعم بِمَالٍ مِنَ البَحْرَيْنِ فَقَالَ: (انْثُرُوهُ فِي المَسْجِدِ) وساق الحديث، وسلف في الصَّلاة [خ¦421].
          قال المهلَّب: إنَّما أراد النَّبيُّ صلعم أن يخصَّ الأنصار بهذا الإقطاع، لمَّا كانوا تفضَّلوا به على المهاجرين مِنْ مشاركتهم في أموالهم، فقالت الأنصار: لا والله حتَّى تكتب لإخواننا مِنْ قريشٍ، يعني: المهاجرين بمثلها إمضاءً لما وصفهم اللهُ به مِنَ الأَثَرَة على أنفسهم، وحُسن التَّمادي على الكرم.
          وفيه جواز التَّردُّد على الإنسان بالقول فيما يأباه المرَّة بعد المرَّة، وجواز التَّرداد بالإبانة عن الشَّيء، لما يكون في ذلك مِنَ الفخر والعزِّ، كما أبت الأنصارُ أن تقبل مال البحرين دون المهاجرين، فكان في ذلك فخرُهم وعزُّهم.
          وفيه لزوم الوعد للأمراء وأشراف النَّاس، وأنَّه ممَّا يُقضى عنهم على طريق التَّفضُّل لمشاكلة ذلك لأخلاقهم، وسلف في الهِبات ما يلزم مِنَ العِدَة وما لا يلزم، فراجعْه مِنْ ثَمَّ.
          وفيه تأديةُ الإمام ديونَ مَنْ كان قبله مِنَ الأئمَّة والخلفاء.
          وفيه أنَّ مَنْ كان أصله على سبيل التَّفضُّل أن يكون جزافًا بغير وزنٍ، بخلاف البيوع وما فيه معنى التَّشاحِّ.
          وأمَّا الفيء والجزية والخَراج فحكمُ ذلك واحدٌ، وهو ما اجتُبي مِنْ أموال أهل الذِّمَّة مَّما صُولحوا عليه مِنْ جزية رؤوسهم الَّتي بها حُقنت دماؤهم وحُرِّمت أموالهم، ومنها: وظيفة أرض الصُّلح الَّتي منعها أهلها حتَّى صُولحوا منها على خراج مسمًّى، ومنها: خراج الأَرَضين الَّتي فُتحت عَنوةً، ثُمَّ أقرَّها الإمام في أيدي أهل الذِّمَّة على الجزية يؤدُّونه، ومنها ما يأخذ العاشر مِنْ أموال أهل الذِّمَّة الَّتي يمرُّون بها لتجارتهم، ومنها ما يُؤخذ مِنْ أهل الحرب إذا دخلوا بلاد الإسلام للتِّجارة، فكلُّ هذا مِنَ الفيء الَّذي يعمُّ المسلمين غنيَّهم وفقيرَهم فيكون في أَعْطِيَة المقاتِلة وأرزاق الذُّرِّيَّة، وما ينوب الإمام مِنْ أمور النَّاس بحسن النَّظر للإسلام وأهله، قاله أبو عُبيدٍ.
          واختلف أصحابنا في قَسم الفيء فرُوي عن الصِّدِّيق التَّسويةُ بين الحرِّ والعبد، والشَّريف والوضيع، ورُوي عنه أنَّه كُلِّم في أنَّ يفضِّل بين النَّاس فقال: فضيلتهم عند الله، فأمَّا هذا المعاش فالتَّسوية فيه خيرٌ، وهو مذهب عليٍّ، وبه قال عطاءٌ والشَّافعيُّ.
          وأمَّا عمرُ فإنَّه كان يفضِّل أهل السَّوابق ومَنْ له مِنْ رسول الله قرابةٌ في العطاء، وفضَّل أمَّهاتِ المؤمنين فيه على النَّاس أجمعين، ففَرضَ لكلِّ واحدةٍ اثني عشر ألفًا، ولم يُلحِق بهنَّ أحدًا إلَّا العبَّاس، فإنَّه جعله في عشرة آلافٍ.
          وذهب عثمانُ في ذلك إلى التَّفضيل أيضًا، وبه قال مالكٌ، فلمَّا جاء عليٌّ سوَّى بين النَّاس، وقال: لم أعِبْ تدوين عمرَ الدَّواوين ولا تفضيله، ولكنِّي أفعل كما كان خليلي رسول الله صلعم يفعل.
          فكان يقسم ما جاءه بين المسلمين، ثُمَّ يأمر ببيت المال فيُنضح ويُصلَّى فيه.
          وأمَّا الكوفيُّون فالأمر عندهم في ذلك إلى اجتهاد الإمام، إنْ رأى التَّفضيل فضَّل، وإن رأى التَّسوية سوَّى.
          وأحاديث الباب دالَّةٌ على التَّفضيل، فهي حُجَّةٌ لِمَنْ قال به.
          فصلٌ: في حديث أنسٍ الثَّاني: في مال البحرين: (فَكَانَ أَكْثَرَ مَالٍ أُتِيَ بهِ رَسُولُ الله صلعم) قال الشَّيخ أبو محمَّدٍ: كان مئة ألفٍ وثمانين ألفًا.
          وقال الدَّاوُديُّ: كان ثمانين ألفًا، ولعلَّه سقط منه مِنَ الكاتب مئة ألفٍ، كما نبَّه عليه ابن التِّيْنِ.
          وقوله: (احْتَمَلَهُ عَلَى كَاهِلِهِ) الكاهل: ما بين الكتفين.