التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب ما ينهى عن إضاعة المال

          ░19▒ (بَابُ: مَا يُنْهَى مِنْ إِضَاعَةِ المَالِ
          وَقَوْلِ اللهِ _╡_: {وَاللهُ لاَ يُحِبُّ الفَسَادَ} [البقرة:205] و{إِنَّ اللَّهَ لاَ يُصْلِحُ عَمَلَ المُفْسِدِينَ} [يونس:81] وَقَالَ _تعالى_: {أَصَلَاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَو أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ} [هود:87] وَقَالَ _تعالى_: {وَلاَ تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ} [النساء:5] وَالحَجْرِ فِي ذَلِكَ، وَمَا يُنْهَى مِنَ الخِدَاعِ).
          2407- ثمَّ ساق حديثَ ابن عمر: (قَالَ رَجُلٌ لِلنَّبِيِّ _صلعم_: إِنِّي أُخْدَعُ فِي البُيُوعِ، فَقَالَ: إِذَا بَايَعْتَ فَقُلْ: لاَ خِلاَبَةَ، فَكَانَ الرَّجُلُ يَقُولُهُ).
          2408- وحديثَ المُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ: قَالَ: (قَالَ النَّبِيُّ _صلعم_: إِنَّ اللهَ حَرَّمَ عَلَيْكُمْ: عُقُوقَ الأُمَّهَاتِ، وَوَأْدَ البَنَاتِ، وَمَنعَ وَهَاتِ، وَكَرِهَ لَكُمْ قِيلَ وَقَالَ، وَكَثْرَةَ السُّؤَالِ، وَإِضَاعَةَ المَالِ).
          الشَّرح: الآية الأولى وقع في بعض النُّسخ، و«شرح ابن بَطَّالٍ»: <إنَّ الله لاَ يُحِبُّ الفَسَادَ و{لاَ يُصْلِحُ عَمَلَ المُفْسِدِينَ} [يونس:81]>، وفي كتاب ابن التِّيْنِ: {وَاللهُ لاَ يُحِبُّ الفَسَادَ} [البقرة:205] والتِّلاوة ما قدَّمناه وأصلحته.
          قال مقاتلٌ: نزلت الآية الأولى في الأخنس بن شَرِيقٍ وَكان يأتي النَّبِيَّ _صلعم_ فيخبرُه أنَّه يحبُّه ويَحلف له عَلى ذلك، فكان النَّبِيُّ _صلعم_ يعجبه ذلك في المجلس وفي قلبه غير ذلك، فأخبر الله نبيَّه بأنَّه إذا توارى عنك _وَكان رجلًا جريئًا على القتل_ يسعى في الأرض بالمعاصي ليفسد فيها، يعني: في الأرض.
          وقوله _تعالى_: ({وَلاَ تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ} [النساء:5]) قال: يعني: الجهَّال بموضع الحقِّ في الأموال، يعني: لا تعطوا نساءَكم ولا أولادَكم أموالَكم فإنَّهم سفهاء، وهو فيهم أكثر، وأصله: الخفَّة، يُقال: ثوبٌ سفيهٌ إذا كان خفيفًا فإذا أعطيتموهم فوق حاجتهم أفسدوه، جعل الله شرطَ دفع أموالهم إليهم وجودَ الرُّشد، وهذِه الآية محكمةٌ غير منسوخةٍ كما سيأتي.
          وقوله: ({أَو أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ} [هود:87]) قال زيدُ بن أسلمَ: كان ما نُهي عنه حذفَ الدَّراهم أي: كَسْرَها.
          وحديثُ ابن عمر سلف مع الخُلْفِ في بيان الرَّجل [خ¦2117]، وبوَّب عليه باب: الحَجر [خ¦2414]، وليس فيه ذلك، بل فيه أنَّه مطلقٌ لقوله: (إِذَا بَايَعْتَ فَقُلْ: لاَ خِلاَبَةَ) وحديث المُغيرة سلف في الزَّكاة في باب: قول الله _تعالى_: {لَا يَسْأَلُونَ النَّاس إِلْحَافًا} [البقرة:273] القطعة الثَّانية منه [خ¦1477].
          واختَلف العلماء في إضاعة المال، فقال سعيد بن جُبيرٍ: إضاعة المال أنْ يرزقَك الله رزقًا فتنفقَه فيما حرَّم الله عليك، وكذلك قال مالكٌ، وقيل: إضاعتُه السَّرفُ في إنفاقه وإن كان فيما يحلُّ، ألا ترى أنَّه _◙_ ردَّ تدبير المعدِم؛ لأنَّه أسرفَ على ماله فيما يحلُّ له ويؤجَر فيه، لكنَّه أضاع نفسه، وأجره في نفسه أوكد عليه مِنْ أجره في غيره.
          واختلف العلماء في وجوب الحَجر على البالغ المضيِّع لماله، فقال جمهور العلماء: يجب الحَجْرُ على كلِّ مضيِّعٍ لماله صغيرًا كان أو كبيرًا؛ رُوي ذلك عن عليٍّ وابن عَبَّاسٍ وابن الزُّبَير وعائشة، وهو قول مالكٍ والأوزاعيِّ وأبي يوسف ومحمَّدٍ والشَّافِعِيِّ وأحمد وإسحاق وأبي ثورٍ، وقالت طائفة: لا يُحجَر على الحرِّ البالغ، هذا قولُ النَّخَعيِّ وابن سِيرينَ وبه قال أبو حَنِيفةَ وزُفَر، قال أبو حَنِيفةَ: فإن حَجر عليه القاضي ثمَّ أقرَّ بدينٍ أو تصرَّف في ماله جاز ذلك كلُّه، واحتجَّ بحديث الَّذِي يُخدَع في البيوع فقال له _◙_: (إِذَا بَايَعْتَ فَقُلْ: لاَ خِلاَبَةَ)، قال: ففي هذا الحديث وقوفُ النَّبِيِّ _صلعم_ على أنَّه كان يُغبَن في البيوع، فلم يمنعْه مِنَ التَّصرُّف ولا حَجَرَ عليه.
          وحجَّة الجماعة الآية الَّتِي ذكرها البُخَاريُّ وهي قوله _تعالى_: {وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللهُ لَكُمْ قِيَامًا} [النساء:5] نهى عن دفع الأموال إلى السُّفهاء، وقال _تعالى_: {فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ} [النساء:6] فجعلَ شرطَ دفعِ أموالهم إليهم وجودَ الرُّشد، وهذِه الآية محكمةٌ غير منسوخةٍ، ومَنْ كان مبذِّرًا لماله فهو غير رشيدٍ، وقوله _تعالى_: ‍{أَو أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ} [هود:87]، وقال _تعالى_: {أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ} [الشعراء:128] فخبَّر _╡_ أنَّ أنبياءَ منعُوا قومهم مِنْ إضاعة الأموال والعَبث، والأنبياء لا تأمر إلَّا بأمر الله.
          واحتجَّوا بحديث المغيرة: ((إنَّ اللهَ كَرِهَ لكمْ قِيلَ وقالَ وإضاعةَ المال)) وما كَره الله لنا فمحرَّمٌ علينا فعله، وقوله: {إِنَّ اللهَ لَا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ} [يونس:81]، {وَاللهُ لاَ يُحِبُّ الفَسَادَ} [البقرة:205]، فالمبذِّر لماله داخلٌ في النَّهي ممنوعٌ منه.
          واحتجَّ الطَّحاويُّ على أبي حَنِيفةَ، فقال: لمَّا قال له _◙_: (إِذَا بَايَعْتَ فَقُلْ: لاَ خِلاَبَةَ) أي لا شيء عليَّ مِنْ خلابتك إيَّايَ، جعل بيوعه معتبرةً، فإنْ كان فيها خِلابةٌ لم يجزْ، وليس في هذا الحديث دفعُ الحَجر، إنَّما فيه اعتبارُ عقود المَحجور عليه. قال غيره: ويحتمل أن يكون الرَّجل يُغبَن بما لا تنفكُّ التِّجارة منه، فجعل له رَسُول الله _صلعم_ الخيارَ ثلاثًا ليستدركَ الغَبْن في مدَّة الخيار ولو أوجبتِ الضَّرورة الحجرَ عليه لفعل، ألا ترى أنَّه قد شعر لِما يُمكر به فسأله رَسُول الله _صلعم_ وليس مَنْ شكا مثلَ هذا مضيِّعًا لماله، وإنَّما هو حريصٌ على ضبطه والنَّظر فيه، فخصَّه _◙_ أنْ جعل له إذا بايع أنْ يقول: لا خِلابة، أي لا تخدعوني فإنَّ خديعتي لا تحلُّ، قال الطَّحاويُّ: ولم أجد عن أحدٍ مِنَ الصَّحابة والتَّابعين أنَّه قال: لا حَجر كما قال أبو حَنِيفةَ إلَّا عن النَّخَعيِّ وابنِ سِيرينَ.
          وأمَّا (عُقُوقَ الأُمَّهَاتِ) اقتصاره عليه لا أنَّ عقوق الآباء غير محرَّمٍ ولكنَّه دلَّ بأحدهما عن الآخر، واختَلف العلماءُ في تقديم حقِّ الأبوين فوقف مالكٌ في ذلك، وذُكر عنه أنَّ رجلًا قال له: أبي في بلاد السُّودان وكتب إليَّ أبي: أَنِ اقْدَمْ؛ وأمِّي تمنعُني، فقال له: أطعْ أباك ولا تعصِ أمَّك. وذكر أن اللَّيث أمره بطاعة الأمِّ؛ لأنَّ لها ثلثي البرِّ.
          وقال الخَطَّابِيُّ: بِرُّها مقدَّمٌ في باب النَّهي وبِرُّ الأب مقدَّمٌ في الطَّاعة وحسن البياعة لرأيه والنفوذ لأمره، وأصل العقوق القطع مِنْ قولهم: عقَّ الشَّيء: قطعَه، فكأنَّ العاقَّ لأمِّه قطع ما بينه وبينها / مِنْ أصل الرَّحم، وقيل: أصل العقِّ: الشَّقُّ، يُقال: شقَّ ثوبه وعقَّه.
          وقوله: (الأُمَّهَاتِ) جمع أُمَّهَةٍ، والفَرْقُ بين أُمَّهَةٍ وأمٍّ: أنَّ أُمَّهَةً إنَّما يقع غالبًا على مَنْ يَعقِلُ بخلاف أمٍّ، قال ابن فارسٍ: وجدت بخطِّ سَلَمة: أُمَّاتٌ للبهائم وأمَّهاتٌ للنَّاس، وخصَّ الأمَّهات بالذِّكر لما تقدَّم؛ ولأنَّ حقَّهنَّ مقدَّمٌّ على حقِّ الأب، كذا قاله ابن الجوزيِّ، أو لضعف الأمِّ وقوَّة الأب وشدَّته على الولد.
          وقوله: (وَوَأْدَ البَنَاتِ) هو مصدرُ وَأَدَت الوليدة ابنتَها: تَئِدُها إذا دَفَنَتْها حيَّةً، وَأْدًا: بإسكان الهمزة، وضبط عند ابن فارسٍ بفتحها، وهو مِنْ قوله _تعالى_: {وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ. بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ} [التكوير:8-9]، قال أبو عبيدٍ: كان أحدُهم في الجاهليَّة إذا جاءته البنتُ يَدْفِنُها حيَّةً حين تُولد، ويقولون: القبرُ صِهرٌ ونِعْمَ الصِّهرُ، وكانوا يفعلونه غِيرةً وأَنَفَةً، وبعضُهم يفعله تخفيفًا للمُؤْنة. قلتُ: وقد قال _تعالى_: {وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ} [الإسراء:31] ومنهم مَنْ خاف السَّبي والاسترقاقَ، وسُمِّيت موءودةً لِثِقَلِ ما عليها مِنَ التُّراب.
          وقوله: (وَمَنعَ وَهَاتِ) أي مَنْعَ الواجبِ مِنَ الحقوق وأَخْذَ ما لا يحلُّ، وقيل: الأخذ مطلقًا، وقال ابن بَطَّالٍ: أي يمنع النَّاس خيرَه ورِفْدَه ويأخذُ منهم رِفْدَه، قال ابن التِّيْنِ: وضُبط (مَنَعَ) بغير ألف، وصوابه مَنْعًا بالألف؛ لأنَّه مفعول (حَرَّمَ)، وقال إسحاقُ بن منصور: قلت لأحمد بن حَنبلٍ: ما معنى (مَنَعَ وَهَاتِ)؟ قال: أن تمنعَ ما عندك فلا تتصدَّقَ ولا تعطيَ، وتمدَّ يدَك فتأخذَ مِنَ النَّاس.
          وقد أسلفنا الكلام على: (قِيلَ وَقَالَ) إلى آخر الحديث، قال مالكٌ في (قِيلَ وَقَالَ): هو الإكثارُ في الكلام والإرجاف، نحوُ قول النَّاس: أعطى فلانٌ كذا ومنعَ كذا، والخَوض فيما لا يعني، وقال أبو عُبيدٍ: كنايةٌ عن قيلٍ وقولٍ، يُقال: قُلْتُ قَوْلًا وقِيْلًا وقَالًا، وقرأ ابن مسعودٍ: {ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَالَ الْحَقَّ} [الإسراء:31]يعني: قول الحقِّ. وقال ابن السِّكِّيت: هما اسمان له مصدران، وقيل: هما فعلان، وقال مالكٌ في (كَثْرَة السُّؤَالِ): لا أدري أهو ما أنهاكم عنه فقد كَره _◙_ المسائل وَعابَها، أمْ هو مسألةُ النَّاس أموالَهم.