التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب من استعاذ من الدين

          ░10▒ (بَابُ: مَنِ اسْتَعَاذَ مِنَ الدَّيْنِ)
          2397- ذَكر حديثَ عَائِشَةَ: (أَنَّ رَسُولَ اللهِ _صلعم_ كَانَ يَدْعُو فِي الصَّلاَةِ وَيَقُولُ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ المَأْثَمِ وَالمَغْرَمِ، فَقَالَ لَهُ قَائِلٌ: مَا أَكْثَرَ مَا تَسْتَعِيذُ مِنَ المَغْرَمِ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: إِنَّ الرَّجُلَ إِذَا غَرِمَ حَدَّثَ فَكَذَبَ، وَوَعَدَ فَأَخْلَفَ).
          فيه: الدُّعاءُ في الصَّلاة بما ليس في القرآن خلافًا لأبي حَنِيفةَ، واستعاذتُه مِنَ الدَّين الَّذِي لا يطيق قضاءَه، وقد توفِّي ودرعُه مرهونةٌ عند يهوديِّ.
          و(المَأْثَمِ) كلُّ إثمٍ، وخصَّ المَغرم لما يُخشى فيه مِنَ الإثم ممَّا ذكره مِنَ الكذب وإخلاف الوعد، وهما خصلتان مِنَ النِّفاق وما يُتَّقى أيضًا مِنْ ذلك، و(المَغْرَمِ) ما يُلزِمُ الإنسانُ نفسَه ويُلزِمُه غيرُه وليس بواجبٍ عليه وهو الغُرْمُ، والمغرَم: المثقَلُ دَينًا، ومنه: {فَهُم مِّن مَّغرَمٍ مُثْقَلُونَ} [القلم:46] وسُمِّي الغَريم لإلحاحه؛ لأنَّ الغَريم: الملازِم.
          وفيه: قطعُ الذَّرائع؛ لأنَّ استعاذته مِنَ الدَّين ذريعةٌ إلى ما أسلفناه مِنَ الكَذب والخُلف في الوعد مع ما يقع المِدْيانُ تحته مِنَ الذِّلة وما لصاحب الدَّين عليه مِنَ المقال.
          فإن قلتَ: فالأحاديث الَّتِي سقتَها في باب: مَنِ اشترى بالدَّين قريبًا [خ¦2385]، وَكذا حديثُ جعفر بن محمَّدٍ عن أبيه، عن عبد الله بن جعفرٍ مرفوعًا: ((إنَّ الله مع الدَّائنِ حتَّى يقضيَ دَينَه ما لم يكن فيه ما يَكره اللهُ)). وكان عبد الله بن جعفرٍ يَقول لجاره: اذهبْ فخذ لي بدَينٍ فأنا أكره أنْ أبيت اللَّيلة إلَّا والله معي. قلت: لا تنافيَ بينهما؛ فأحاديثُ النَّهي لِمَنِ استدانَ فيما يكره الرَّبُّ _جلَّ جلالُه_ ولا يريد قضاءه، والإباحة فيما يرضيه ويريد قضاءه، وعندَه في الأغلب ما يؤدِّيه منه، فالله _تعالى_ في عَونه على قضائه، والمَغرم الَّذِي استعاذ منه إمَّا لكونه فيما يَكره الرَّبُّ ولا يجد سبيلًا إلى قضائه، وإمَّا فيما لا يكرهه ولكنْ لا سبيل إلى قضائه فهو متعرِّضٌ لهلاك مَال أخيه ومتلِفٌ له، أو له يُسره ونوى تركَ قضائه وجحَده فهو عاصٍ لربِّه ظالمٌ لنفسه، فكلُّ هؤلاء لِوعدهم إن وَعدوا مَنِ استدانوا منه القضاءَ مُخلِفون، وفي حديثهم كاذبون لوعودهم، وقد صحَّت الأخبارُ عنه أنَّه استدان في بعض الأحوال كما أسلفناه، فكان معلومًا بذلك أنَّ الحالة الَّتِي كَره فيها غير الحال الَّتِي رخَّص لنفسه فيها.
          وقد استدان السَّلفُ؛ استدان عمرُ وهو خليفةٌ وقال لمَّا طُعن: انظروا كم عليَّ مِنَ الدَّين، فحسبوه فوجدوه ثمانين ألفًا وأكثر، وكان على الزُّبير دَينٌ عظيمٌ، ذكرهما البُخَاريُّ كما ستعلمُه في موضعه، فما ثبت عَن الشَّارع وأصحابه والسَّلف _مِنِ استدانتهم الدَّين مع تكريرهم له إلى غيرهم_ الدَّليلُ الواضح على أنَّ اختلاف الأمر في ذلك كان على قدر اختلاف حال المستدينين.