التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب أداء الديون

          ░3▒ (بَابُ: أَدَاءِ الدُّيُونِ
          وَقَوْلِ اللهِ _تعالى_: {إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} إلى قوله: {إِنَّ اللهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا} [النساء:58]).
          2388- ثمَّ ذَكر فيه حديثَ أَبِي ذَرٍّ: (كُنْتُ مَعَ النَّبِيِّ _صلعم_ فَلَمَّا أَبْصَرَ _يَعْنِي أُحُدًا_ قَالَ: مَا أُحِبُّ أَنْ تَحَوَّلَ لِي ذَهَبًا، يَمْكُثُ عِنْدِي مِنْهُ دِينَارٌ فَوْقَ ثَلاَثٍ، إِلَّا دِينَارًا أُرْصِدُهُ لِدَيْنٍ...) الحديثَ بطوله.
          2389- وحديثَ يُونُسَ، عن ابن شِهَابٍ، عن عُبَيْدِ اللهِ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُتْبَةَ قَالَ: (قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ _صلعم_: لَو كَانَ عِنْدِي مِثْلُ أُحُدٍ ذَهَبًا مَا يَسُرُّنِي أَنْ لَا يَمُرَّ عَلَيَّ ثَلاَثٌ، وَعِنْدِي مِنْهُ شَيْءٌ إِلَّا شَيْءٌ أُرْصِدُهُ لِدَيْنٍ، رَوَاهُ صَالِحٌ، وَعُقَيْلٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ).
          حديث أبي ذرٍّ سلف في الزَّكاة [خ¦1408]، والآية المذكورة أصلٌ في أداء الأمانات وحفظها، ألَا ترى أنَّه _◙_ لم يحبَّ أن يبقى عندَه مِنْ مثل أُحدٍ ذهبًا فوق ثلاثٍ إلَّا دينارًا يرصده لدينٍ؟ ونزلت في عثمانَ بن طَلحة الحَجَبِيِّ العَبْدَرِيِّ سادنِ الكعبة حين أخذَ عليٌّ منه المفتاح يوم الفتح، ذكره ابنُ سعدٍ وغيره، وقال ابن زيدٍ: هم الولاة أُمروا بأداء الأمانات إلى مَنْ وَلُوا أمرَهم. وقيل: نزلت في السُّلطان يعظ النِّساء، والحديث دالٌّ على ما دلَّت عليه الآية مِنْ تأكيد أمر الدَّين والحضِّ على أدائه.
          قال ابن عَبَّاسٍ: الآية عامَّةٌ. وقال شُريحٌ لأحد الخصمين: أعطِ حقَّه، فإنَّ الله _تعالى_ قال: {إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} [النساء:58]. قال شُريحٌ: {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} [البقرة:280] إنَّما هذا في الرِّبا خاصَّة، وربطَ المِدْيان إلى ساريةٍ. ومذهب الفقهاء أنَّ الآية عامَّةٌ في الرِّبا وغيره، واحتجَّ سيبويه بأنَّ القراءة: {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ} [البقرة:280] بمعنى: حضر ووقع. قال: ولو كان كما قال شُريحٌ لكان: ذا عسرةٍ. وقيل: يحتمل أن يكون شُريحٌ فعل ذلك بمَنْ تبيَّن لَدَدُهُ، وحَبس سُحْنون رجلًا التوى بدينٍ، فكان يخرجه في كلِّ يوم جمعةٍ يومًا إلى صحن المسجد فيضربه، فكان ذلك حتَّى مات في السِّجن، ذكره الدَّاوُديُّ.
          ومعنى (أُرْصِدُهُ) أُهيِّئه، مِنْ أَرْصَدَ يُرْصِدُ، وضُبط في بعض الأمَّهات بفتح الهمزة مِنْ رَصَدَ، قال الأصمعيُّ والكسائيُّ رَصَدْتُهُ: ترقَّبتُه، وأَرْصَدْتُهُ: أَعْدَدْتُ لَهُ.
          وفيه: الاستدانة بيسير الدَّين اقتداءً بالشَّارع في إرصاده دينارًا لِدَيْنِهِ، ولو كان عليه مئةُ دينارٍ أو أكثرُ لم يُرصِد لأدائها دينارًا؛ لأنَّه كان أحسنَ النَّاس قضاءً، وبان بهذا الحديثِ أنَّه ينبغي للمؤمن ألَّا يستغرقَ في كثير الدَّين خشيةَ الاهتمامِ به والعجزِ عن أدائه، وقد استعاذ الشَّارع مِنْ ضَلَعِ الدَّين، واستعاذَ مِنَ المأثَم والمَغْرَمِ وقال: ((إنَّ الرجلَ إذا غَرِمَ حدَّث فكذَب ووعَدَ فأَخلفَ)).
          وقد جاء في خيانة الأمانة مِنَ الوعيد ما رواه إسماعيلُ بْن إسحاق مِنْ حديثِ زَاذانَ عن عبد الله بن مسعودٍ قال: إنَّ القتلَ في سبيل الله يكفِّر كلَّ ذنبٍ إلَّا الدَّينَ والأمانة. قال: وأعظمُ ذلك الأمانةُ تكون عند الرَّجل فيخونها، فيُقال له يومَ القيامة: أدِّ أمانتك، فيقول: مِنْ أين وقد ذهبتِ الدُّنيا؟ فيقول له: نحن نُريكَها؛ فتُمثَّل له في قعر جهنَّم، فيُقال له: انزل فأخرجها، فينزل فيحملها على عنقه / حتَّى إذا كاد زلَّت، فهوت وهوى في إثرها أبدًا الأبد، قال: والأمانة في كلِّ شيءٍ حتَّى في الصَّلاة والصِّيام والوضوء والغُسل مِنَ الجنابة، والأمانة في الكيل والوزن. وقال الرَّبيع: الأمانة ما أُمروا به وما نُهوا عنه.
          فائدةٌ: في إسناد حديث أبي ذرٍّ (أَبُو شِهَابٍ) واسمه عبدُ ربِّه بنُ نافعٍ الحنَّاطُ.
          وقوله: (إِنَّ الأَكْثَرِينَ هُمُ الأَقَلُّونَ) أي في الحسنات والحظِّ.
          وقوله: (إِلَّا مَنْ قَالَ بِالْمَالِ هَكَذَا وَهَكَذَا) يعني أنفقَه في وجهه.
          وقوله: (وَقَلِيلٌ مَا هُمْ) أي قليلٌ فاعلُه مِنْ أهلِ الأموال، وفيه: ذمُّ الغنى، بيَّنه قوله: ((واللهِ ما الفقرَ أخشى عليكم..)) الحديثَ.
          وقوله: (مَنْ مَاتَ مِنْ أُمَّتِكَ لاَ يُشْرِكُ بِاللهِ شَيْئًا دَخَلَ الجَنَّةَ) أي وإن قُدِّر دخولُه النَّار بإصرارٍ على الكبائر.
          وقوله: (مِنْ أُمَّتِكَ) فيه تفضيلُها.