شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب قول الله تعالى: {وتجعلون رزقكم أنكم تكذبون}

          ░28▒ باب قَوْلِ اللهِ ╡: {وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ(1)}[الواقعة:82]قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: شُكْرَكُمْ.
          فيه: زَيْدُ بْنُ خَالِدٍ قَالَ(2): (صَلَّى لَنَا رَسُولُ اللهِ صلعم صَلاةَ الصُّبْحِ بِالْحُدَيْبِيَةِ على إِثْرِ سَمَاءٍ كَانَتْ مِنَ اللَّيْلَ، فَلَمَّا انْصَرَفَ النَّبيُّ صلعم أَقْبَلَ على النَّاسِ فقَالَ: هَلْ تَدْرُونَ مَاذَا(3) قَالَ رَبُّكُمْ؟ قَالُوا: اللهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ: أَصْبَحَ مِنْ عِبَادِي مُؤْمِنٌ بِي(4) وَكَافِرٌ، فَأَمَّا مَنْ قَالَ مُطِرْنَا بِفَضْلِ اللهِ وَرَحْمَتِهِ فَذَلِكَ مُؤْمِنٌ بِي وكَافِرٌ(5) بِالْكَوْكَبِ، وَأَمَّا مَنْ قَالَ(6): بِنَوْءِ كَذَا وَكَذَا(7)، فَذَلِكَ كَافِرٌ بِي مُؤْمِنٌ بِالْكَوْكَبِ). [خ¦1038]
          قال المُهَلَّب: تعليق التَّرجمة بهذا الحديث هو أنَّهم كانوا ينسبون الأفعال إلى غير الله تعالى فيظنُّون أنَّ النَّجم يمطرهم ويرزقهم(8)، فهذا تكذيبهم، فنهاهم الله ╡ عن نسبة الغيوث(9) التي جعلها الله تعالى حياةً لعباده وبلاده إلى الأنواء، وأمرَهم أن يضيفوا(10) ذلك إليه لأنَّه(11) من نعمته وتفضُّله عليهم، وأن يفردوه بالشُّكر على ذلك والحمد على تفضُّله.
          قال الطَّبريُّ: فإن قال قائل: إن كان كما وصفت من نهي الله تعالى ورسوله صلعم عن نسبة الغيوث إلى الأنواء، فما أنت قائل فيما رُوي عن عُمَر بن الخطَّاب أنَّه حين استسقى قال للعبَّاس: يا عمُّ(12) كم بقي من نوء الثُّريَّا، فقال العلماء: يزعمون أنَّها تعترض في الأفق بعد سقوطها سبعًا، قال: فما مضت سابعةٌ حتَّى مُطروا.
          قيل: إنَّ ذلك من عمر لم يكن على المعنى المنهي عنه، وذلك أنَّ(13) المنهيَّ عنه إضافة ذلك إلى أنَّه من فعل النَّوء لا من فعل الله ╡، فكان ذلك منهم بالله كفرًا، وأمَّا ما كان من عمر فإنَّه كان منه(14) أنَّه من قِبَل الله تعالى عند نوء النَّجم(15)، كما يقول القائل: إذا كان الصَّيف كان(16) الحرُّ، وإذا كان الشِّتاء كان البرد، لا على أنَّ الشِّتاء والصَّيف يفعل شيئًا من ذلك؛ بل الَّذي(17) يأتي بالشِّتاء والصَّيف والحرِّ والبرد اللهُ ╡ خالق كلِّ ذلك(18)، ولكن ذلك من النَّاس على ما جرت(19) عادتهم فيه وتعارفوا(20) معاني ذلك في(21) خطابهم ومرادهم، لا على أنَّ النُّجوم تُحدث شيئًا من نفع أو ضرٍّ(22) بغير إذن الله ╡ لها بذلك.
          قال الطَّبريُّ(23): فإن قال قائل: كيف يكون الرِّزق بمعنى الشُّكر؟ قيل: لذلك مخارجُ في اللُّغة(24) عند العرب: أحدُها: أن يُراد به: وتجعلون ما جعله الله سببًا لرزقكم من الغيوث أنَّكم تكذِّبون به، ثمَّ تُرك ذكر(25) السَّبب، وأُقيم الرُّزق مكانه إِذْ(26) كان مؤدِّيًا عنه كما قال تعالى: {إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ}[آل عِمْرَان:175]، بمعنى يخوِّفكم بأوليائه إذ كان معلومًا أنَّه لا يخوِّف من كان له وليًّا، وإنَّما يخوِّف من كان له عدوًا فاكتفى بذكر أوليائه.
          والثَّاني: أن يكون المراد وتجعلون رِزْقَكم الَّذي رَزَقكم(27) من الغيث الَّذي به حياتكم ووجب به عليكم(28) شكر ربِّكم تكذيبَكم به، فاكتفى بذكر الرِّزق من ذكر الشُّكر؛ إذ كان معلومًا أنَّ من رزق إنسانًا فقد اصطنع إليه معروفًا(29) يستوجب(30) به الشُّكر.
          والثَّالث(31): أن يكون الرِّزق اسمًا من أسماء الشُّكر(32)، وحُدِّثْتُ(33) عن الهيثم بن عديٍّ أنَّه قال: من لغة أزد(34) شنوءة: ما رزق فلانٌ فلانًا بمعنى ما شكر(35).


[1] قوله: ((باب قَوْلِ اللهِ ╡: {وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ})) ليس في (ق).
[2] قوله: ((قال)) ليس في (ق).
[3] في (ق): ((ما)).
[4] قوله: ((بي)) زيادة من النسخ على (ز).
[5] في (م): ((كافر)).
[6] زاد في (م) و(ص): ((مطرنا)).
[7] قوله: ((وكذا)) ليس في (م).
[8] في (ص): ((أنَّ النُّجوم تمطرهم وترزقهم)).
[9] في (ص): ((الغيوب)).
[10] في (ص): ((ينسبوا)).
[11] في (م) و (ق): ((بأنه)).
[12] في (ص): ((عمر)).
[13] زاد في (ص): ((المعنى)).
[14] زاد في (م) و(ق): ((إيمانًا))، و زاد في (ق): ((لأنه كان منه)).
[15] في (ي) و(ص): ((النجوم)).
[16] في (ص): ((يكون)).
[17] في (م): ((والصيف يفعلان شيئًا بل الذي))، و في (ق): ((على أن الصيف والشتاء يفعلان شيئًا بل الذي)).
[18] في (م) و(ق): ((الله ╡ خالق ذلك كله)).
[19] زاد في (م) و(ق): ((به)).
[20] زاد في (م) و(ق): ((من)).
[21] في (ق): ((من)).
[22] في (ص): ((تُحدث نفعًا أو ضرًّا)).
[23] قوله: ((قال الطبري)) ليس في (ق).
[24] في (م) و(ق): ((الصحة)).
[25] قوله: ((ذكر)) ليس في (م).
[26] في (م): ((إذا)).
[27] في (م): ((رزقتم)).
[28] في (م): ((ووجب عليكم به)). في (ص): ((ووجب عليكم)).
[29] في (م) و(ق): ((عرفًا)).
[30] في (ي): ((فاستوجب)).
[31] في (ص): ((والثَّاني)).
[32] في (ق): ((الرزق اسمًا للشكر)).
[33] في (ق): ((وحديث)).
[34] في (ص): ((أرذ)).
[35] في (م): ((شكره)).