شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب ما كان من أصحاب النبي يواسي بعضهم بعضًا

          ░18▒ بَابُ مَا كَانَ مِنْ أَصْحَابِ النَّبيِّ صلعم يُوَاسِي بَعْضُهُمْ بَعْضًا في الزِّارَعَةِ وَالتَّمْرِ(1).
          فيهِ رَافِعٌ عَنْ عَمِّهِ: (قَالَ لَقَدْ نَهَانَا(2) النَّبيُّ صلعم عَنْ أَمْرٍ كَانَ بِنَا رَافِقًا، قُلْتُ: مَا قَالَ رَسُولُ اللهِ فَهُوَ حَقٌّ، قَالَ(3): دَعَانِي رَسُولُ اللهِ(4) فَقَالَ: مَا تَصْنَعُونَ بِمَحَاقِلِكُمْ؟ قُلْتُ: نُؤَاجِرُهَا عَلَى الرَّبِيْعِ(5)، وَعَلَى الأَوْسُقِ مِنَ التَّمْرِ وَالشَّعِيْرِ، قَالَ: لَا تَفْعَلُوا، ازْرَعُوهَا، أَوْ أَزْرِعُوهَا(6)، أَوْ أَمْسِكُوهَا. قَالَ رَافِعٌ: قُلْتُ: سَمْعًا وَطَاعَةً). [خ¦2339] /
          وفيهِ جَابِرٌ قَالَ(7): [(كَانُوا يَزْرَعُونَهَا بِالثُّلُثِ وَالرُّبُعِ وَالنِّصْفِ، فَقَالَ النَّبيُّ صلعم(8): مَنْ كَانَتْ لَهُ أَرْضٌ فَلْيَزْرَعْهَا، أَوْ لِيَمْنَحْهَا، فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ فَلْيُمْسِكْ أَرْضَهُ). [خ¦2340]
          وروى أبو هريرةَ مثل حديث جابرٍ، وقال عَمْرٌو: ذكرته لطَاوُسٍ، فقال: يزرع، قال ابنُ عَبَّاسٍ: ((إنَّ النَّبيَّ ◙ لَمْ يَنْهَ عَنْهُ، ولكن قَالَ: أَنْ يَمْنَحَ أَحَدُكُمْ أَخَاهُ خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَأْخُذَ شيئًا مَعْلُومًا))، وفيه ابنُ عُمَرَ: أَنَّهُ كَانَ يُكْرِي مَزَارِعَهُ عَلَى عَهْدِ]
(9) النَّبيِّ صلعم وأبي بَكْرٍ، وعُمَرَ وعُثْمَانَ، وصدرًا مِنْ إمارة مُعَاوِيَةَ، ثمَّ حدَّث عن رافعِ بنِ خُدَيْجٍ أنَّ النَّبيَّ صلعم نهى عن كراء المزارع، فذهب ابنُ عُمَرَ إلى رافعٍ فذهبت معه(10) فسأله، فقال: نهانا(11) النَّبيُّ صلعم عن كراء المزارع. فقال ابنُ عُمَرَ: قد علمت أنَّا كنَّا نكري مزارعنا على عهد رسولِ اللهِ(12) صلعم بما على الأربعاء وشيءٌ مِنَ التِّبن، ثمَّ خشي عبدُ اللهِ أن يكون النَّبيُّ صلعم قد أحدث في ذلك شيئًا لم يكن يعلمه(13)، فترك كراء الأرض.
          واحتجَّ(14) مَنْ منع المزارعة بحديث رافعٍ(15) عن عمِّه(16): (لَقَدْ نَهَانَا النَّبيُّ صلعم عَنْ أَمْرٍ كَانَ بِنَا رَافِقًا) وبحديث جابرٍ وبترك ابنِ عُمَرَ كراء(17) الأرض مِنْ أجل حديث رافعٍ(18)، واحتجَّ الَّذين أجازوا المزارعة بحديث ابنِ عُمَرَ أنَّ النَّبيَّ صلعم عَامَلَ أهل خَيْبَرَ بشطر ما يخرج منها مِنْ زرعٍ أو تمرٍ(19) على ما تقدَّم ذكره.
          وقالَ ابنُ المُنْذِرِ: اختلفت(20) ألفاظ أحاديث رافعٍ، واختلفت فيها العِلل الَّتي مِنْ أجلها نُهي عن كراء الأرض وعن المخابرة، فأحد تلك العِلل: اشتراطهم أنَّ لربِّ الأرض ناحيةً منها، وعِلَّةٌ ثانيةٌ: وهو اشتراطهم على(21) الأَكَّارِ: أنَّ ما سقى الماذيان(22) والرَّبيع فهو لنا، وما سقت الجداول فهو لكم، وعِلَّةٌ ثالثةٌ: وهو(23) إعطاؤهم الأرض على الثُّلُث والرُّبُع والنِّصف، وعِلَّةٌ رابعةٌ: وهو(24) أنَّهم كانوا يكرونها(25) بالطَّعام المسمَّى والأوسق(26) مِنَ الثَّمر، وعِلَّةٌ خامسةٌ(27): وهي أن نهيه عن ذلك ◙ كان بخصومةٍ(28) وقتالٍ كان بينهم.
          ورُوِيَ عن عُرْوَةَ بنِ الزُّبَيْرِ عن زَيْدِ بنِ ثَابِتٍ قَالَ: يَغْفِرُ اللهُ لِرَافِعٍ، أَنَا واللهُ أَعْلَمُ بِالحَدِيْثِ مِنْهُ، إِنَّمَا أَتَى رَجُلَانِ مِنَ الأَنْصَارِ قَدِ اقتَتَلَا، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلعم: إِنْ كَانَ هَذَا شَأْنُكُمْ فَلَا تُكْرُوا المزارع، فسمع قوله: لا تكروا المزارع، وعلَّةٌ سادسةٌ: احتجَّ بها مَنْ جعل(29) نهيه ◙ عن ذلك نهي تأديبٍ، وذلك قول ابنِ عَبَّاسٍ: ((أَنَّ النَّبيَّ صلعم لَمْ يَنْهَ عَنْهُ: يعني: لَمْ يُحَرِّمْهُ))، وروى شُعْبَةُ عن عَمْرِو بنِ دِيْنَارٍ عن طَاوُسٍ عن ابنِ عَبَّاسٍ: ((أَنَّ النَّبيَّ ◙ لَمْ يُحَرِّمِ المُزَارَعَةَ، وَإِنَّمَا أَرَادَ أَنْ يَرْزُقَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا(30))).
          قالَ ابنُ المُنْذِرِ: فإذا(31) كان سبيل أخبار رافعٍ ما ذكرنا وجب الوقوف عن استعمالها لكثرة عِللها، ووجب القول بحديث ابنِ عُمَرَ، وهو خبرٌ ثابتٌ لا عِلَّة فيه، وكذلك قال سالمُ بنُ عبدِ اللهِ: أكثر رافعٌ، ولو كانت لي مزارع أكريتها(32). وقال أحمدُ بنُ حَنْبَلٍ: أحاديث رافعٍ مضطربةٌ، وأحسنها حديث يَعْلَى بنِ حَكِيْمٍ عن سُلَيْمَانَ بنِ يَسَارٍ.
          وأمَّا قوله في حديث رافعٍ: ((فَنُؤَاجِرُهَا عَلَى الأَوْسُقِ مِنَ التَّمْرِ وَالشَّعِيْرِ)) فإنَّ العلماء اختلفوا في كراء الأرض بالطَّعام، فقال أبو حنيفةَ والأوزاعيُّ والثَّوْرِيُّ والشَّافعيُّ وأبو ثَوْرٍ: يجوز أن تُكرى الأرض بالطَّعام كلِّه إذا كان معلومًا في ذمَّة المكتري، قالوا: وكلُّ ما جاز أن يكون ثمنًا لشيءٍ جاز أن تكرى به(33) الأرض ما لم يكن مجهولًا أو غررًا.
          ورُوِيَ ذلك عن النَّخَعِيِّ وعِكْرِمَةَ وسَعِيْدِ بنِ جُبَيْرٍ، والحجَّة لهم حديث الأوزاعيِّ عن رَبِيْعَةَ بنِ(34) حَنْظَلَةَ بنِ قَيْسٍ قَالَ: ((سَأَلْتُ رَافِعَ بنَ خُدَيْجٍ عَنْ كِرَاءِ الأَرْضِ بالذَّهَبِ والوَرِقَ، فَقَالَ: لَا بَأْسَ بِهِ، إِنَّما كَانَ النَّاسُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللهِ صلعم يُؤَاجِرُونَ الأَرْضَ بِمَا(35) عَلَى المَاذِيَانَاتِ وَإِقْبَالِ الجَدَاوِلَ، فيَهْلَكُ هَذَا ويَسْلَمُ هَذَا، فَزَجَرَ عَنْهُ رَسُولُ اللهِ صلعم، فأمَّا شَيْءٌ مَعْلُومٌ مَضْمُونٌ فَلَا)) قالوا: فقد أخبر رافعٌ بالعلَّة الَّتي لها نهى رسولُ اللهِ صلعم عن ذلك، وهو جهل البدل، وأخبر أنَّ كراها جائزٌ بكلِّ شيءٍ معلومٍ.
          قالَ / ابنُ المُنْذِرِ: إن أكراها بطعامٍ معلومٍ يكون في ذمَّة المكتري، أو طعامٍ(36) حاضرٍ يقبضه فذلك جائزٌ، وأمَّا إن أكراها بجزءٍ ممَّا يخرج منها فذلك(37) غررٌ، لأنَّها قد تخرج وقد لا تخرج وهذا(38) عند الشَّافعيِّ المزارعة المنهي عنها، وقال مالكٌ: لا يجوز أن يكري الأرض بشيءٍ ممَّا يخرج منها أكل أو لم يُؤكل، ولا بشيء مِنْ ما يُؤكل ويُشرب خرج منها أم لا.
          واختلف أصحابه في ذلك، فقال ابنُ كِنَانَةَ: لا تُكرى الأرض بشيءٍ إذا أُعيد فيها نبتٌ، ولا بأس أن تُكرى بما سوى ذلك مِنَ الطَّعام وغيره. وقال ابنُ نافعٍ: جائزٌ كراء(39) الأرض بكلِّ شيءٍ مِنَ الطَّعام والإدام غير الحنطة والسُّلت والشَّعير، فإنَّها محاقلةٌ.
          والحجَّة لمالكٍ ما رواه شُعْبَةُ عن يَعْلَى بنِ حَكِيْمٍ عن سُلَيْمَانَ بنِ يَسَارٍ عن رافعِ بنِ خُدَيْجٍ قالَ: قالَ رَسُولُ اللهِ: ((مَنْ كَانَتْ لَهُ أَرْضٌ فَلْيَزْرَعْهَا أَوْ يُزْرِعْهَا، وَلَا يَكْرِيْهَا بِثُلُثٍ وَلَا بِرُبُعٍ(40)، وَلَا بِطَعَامٍ مُسَمًّى)) وهذا عمومٌ في كلِّ ما يخصُّه اسم طعامٍ، سواءٌ أنبتته الأرض أم لا، وإذا أكراها بطعامٍ فهو في معنى المخابرة المنهيِّ عنها، لأنَّه يصير طعامًا بطعامٍ متأخِّرًا، أو طعامًا بطعامٍ متفاضلًا وذلك محرَّمٌ.
          الرَّبِيْعُ: الجدولُ، والماذيانات: جداولُ الماءِ، وما نبتَ على حافتي مَسِيلِ الماءِ.


[1] في (ز): ((في المزارعة والتَّمر)).
[2] في (ز) صورتها: ((نهاها)).
[3] قوله: ((قُلْتُ: مَا قَالَ رَسُولُ اللهِ فَهُوَ حَقٌّ، قَالَ)) ليس في (ص).
[4] في (ز): ((النَّبيُّ صلعم)).
[5] في المطبوع: ((الرُّبع))، وغير واضحة في (ص).
[6] في (ز): ((زرعوها)).
[7] قوله: ((قال)) ليس في (ز).
[8] في المطبوع: ((فقال ◙)).
[9] ما بين معقوفتين مطموس في (ز).
[10] قوله: ((فذهبت معه)) ليس في (ز).
[11] في (ز): ((نهى)).
[12] في (ز): ((النَّبيِّ)).
[13] في (ز): ((علمه)).
[14] في (ز): ((احتجَّ)).
[15] قوله: ((رافع)) ليس في (ز).
[16] زاد في (ز): ((قال)).
[17] في (ز): ((كرى)).
[18] قوله: ((من أجل حديث رافع)) ليس في (ص).
[19] في المطبوع: ((ثمر)).
[20] في (ز): ((واختلفت)).
[21] قوله: ((على)) ليس في المطبوع.
[22] في (ز): ((للماذيان)).
[23] في (ز): ((وهي)).
[24] قوله: ((وهو)) ليس في (ز).
[25] في المطبوع: ((يكرونا))، وغير واضحة في (ص).
[26] قوله: ((والأوسق)) ليس في (ص).
[27] في (ص) صورتها: ((وعلى ناحية)).
[28] في المطبوع: ((لخصومة)).
[29] في (ز): ((جعله)).
[30] في (ز): ((أن يرفق بعضهم لبعض)).
[31] في (ز): ((وإذا)).
[32] في (ز): ((مزرعة لأكريتها)).
[33] في (ز): ((له)).
[34] في (ز): ((عن)).
[35] في (ز): ((لما)).
[36] في (ز): ((بطعام)).
[37] في (ز): ((فهو)).
[38] زاد في (ز): ((هو)).
[39] في (ز): ((كرى)).
[40] في (ز): ((ربع)).