شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب من أحيا أرضًا مواتًا

          ░15▒ بَابٌ فِي إِحْيَاءِ المَوَاتِ(1) مَنْ أَحْيَا أَرْضًا مَوَاتًا
          وَرَأَى ذَلِكَ عَلِيٌّ في أَرْضِ الخَرَابِ بِالكُوفَةِ. وَقَالَ عُمَرُ: مَنْ أَحْيَا أَرْضًا مَيْتَةً فَهِيَ لَهُ.
          وَيُروى عَنْ عَمْرِو بنِ عَوْفٍ عَنِ النَّبيِّ صلعم، وَقَالَ في حَقِّ غَيْرِ(2) مُسْلِمٍ: (وَلَيْسَ لِعِرْقٍ ظَالِمٍ حَقٌّ) وَيُرْوَى فِيهِ عَنْ جَابِرٍ، عَنِ النَّبيِّ صلعم.
          فيهِ عَائِشَةُ: عَنِ النَّبيِّ صلعم قَالَ: (مَنْ أَعْمَرَ أَرْضًا لَيْسَتْ لأَحَدٍ، فَهُوَ أَحَقُّ). قَالَ عُرْوَةُ: قَضَى بِهِ عُمَرُ في خِلَافَتِهِ. [خ¦2335]
          وقوله ◙: (مَنْ أَحْيَا أَرْضًا مَيْتَةً فَهِي لَهُ، وَلَيْسَ لِعِرْقٍ ظَالِمٍ حَقٌّ) وهذا حديثٌ حسنُ السَّند(3).
          اختلف العلماء في إحياء الموات، فقال مالكٌ: مَنْ أحيا أرضًا ميتةً فيما قرب مِنَ العمران(4)، فلا بُدَّ في ذلك مِنْ إذن الإمام، وإن كانت في فيافي المسلمين والصَّحاري وحيث لا يتشاحُّ النَّاس فيه(5) فهي له بغير إذنٍ(6).
          وقالَ(7) أبو يُوسُفَ ومُحَمَّدٌ والشَّافعيُّ: مَنْ أحيا أرضًا ميتةً فهي له، ولا يحتاج إلى إذن الإمام فيما قَرُبَ كما لا يحتاج فيما بَعُدَ. قال أَشْهَبُ وأَصْبَغُ(8): إن أحيا فيما قَرُبَ بغير إذنه أمضيت ولم يعنف(9).
          وقال مُطَرِّفٌ وابنُ المَاجِشُونِ: الإمام مخيَّرٌ بين أربعة أوجهٍ: إن رأى أن يقرَّه له فعل أو يقرَّه للمسلمين ويعطيه قيمته منقوضًا، أو يأمره بقلعه، أو يعطيه غيره فيكون للأوَّل قيمته منقوضًا، والبعيد ما كان خارجًا عمَّا يحتاجه أهل ذلك العمران مِنْ محتطَبٍ ومرعًى، ممَّا العادة أنَّ الرُّعاء يبلغونه ثمَّ يبيتون في منازلهم، ويحتطب المحتطِب ثمَّ يعود إلى موضعه، وما كان مِنَ الأحياء في المحتطَب والمرعى فهو القريب مِنَ العمران فيمنع(10).
          وقالَ أبو حنيفةَ: ليس لأحدٍ أن يحيي مواتًا إلَّا بإذن الإمام فيما بَعُد وقَرُب.
          قالَ الطَّحَاوِيُّ: الحجَّة(11) لأبي يُوسُفَ ومُحَمَّدٍ قولهِ ◙: (مَنْ أَحْيَا أَرْضًا مَيتَةً فَهِيَ لَهُ). فقد جعل(12) إحياء ذلك إلى مَنْ أحبَّ بلا أمر الإمام(13) في ذلك، قال: وقد دلَّت(14) على ذلك شواهد مِنَ النَّظر، منها أنَّ الماء الَّذي في البحار والأنهار، مَنْ أخذ منه شيئًا، ملكه بأخذه إيَّاه، وإن لم يأمره الإمام بذلك، وكذلك الصَّيد هو لِمَنْ صاده، ولا يحتاج إلى تمليكٍ مِنَ الإمام، لأنَّ الإمام وسائر النَّاس في ذلك سواءٌ، فكذلك الأرض الَّتي لا ملك لأحدٍ عليها هي كالصَّيد الَّذي ليس بمملوك والماء المباح.
          والحجَّة لأبي حنيفة أن قوله: (مَنْ أَحْيَا أَرْضًا مَيتَةً فَهِيَ لَهُ) إنَّما معناه مَنْ أحياها على شرائط الإحياء فهي له(15)، وذلك أن(16) يحظرها وأذن الإمام له(17) فيها، والدَّليل على صحَّة / هذا التَّأويل قوله ◙: ((لَا حِمَى إِلَّا للهِ وَلِرَسُولِهِ)) والحمى ما حمي مِنَ الأرض، فدلَّ أنَّ حكم الأرضين إلى الأئمَّة لا إلى غيرهم، وأنَّ حكم ذلك غير حكم الصَّيد والماء.
          والفرق بينهما أنَّا رأينا ماء الأنهار لا يجوز للإمام تمليك ذلك أحدًا، ورأينا لو ملَّك رجلًا أرضًا(18) ميِّتةً ملكها بذلك، ولو احتاج الإمام إلى بيعها في نائبة المسلمين جاز بيعه لها، ولا يجوز ذلك في ماء نهرٍ ولا صيد بَرٍّ ولا بحرٍ، وأنَّه ليس للإمام بيعهما ولا تمليكهما أحدًا، وأنَّ الإمام فيهما كسائر النَّاس، فكان(19) ملكهما يجب بأخذهما دون الإمام، فثبت بذلك ما ذهب إليه أبو حنيفةَ.
          والحجَّة لمالكٍ أنَّ النَّبيَّ صلعم: ((أَقْطَعَ لِبِلَالِ(20) بنِ الحَارِثِ مَعَادِنَ القَبَلِيَّةِ جِلْسِيَّهَا(21) وَغَوْرِيَّهَا وَحَيْثُ يَصْلُحُ الزَّرْعُ)) ولم يقطعه حقَّ مسلمٍ وهذا فيما قَرُبَ، فوجب استعمال الحديثين جميعًا، فما وقع فيه التَّشاحُّ والتَّنافس(22) لم يكن لأحدٍ عمارته بغير إذن الإمام، وما تباعد مِنَ العمارة ولم يتشاحَّ فيه جاز أن يُعمر بغير إذن الإمام(23)، لأنَّ(24) النَّبيَّ صلعم قال(25): ((مَنْ أَحْيَا أَرْضًا مَيْتَةً فَهِي لَهُ)) وهذا الإذن مِنَ النَّبيِّ إقطاعٌ(26). قالَ سُحْنُونٌ: وقد أقطع عُمَرُ العقيق وهو قرب المدينة، قال: ومسافة يومٍ عن(27) العمارة بعيدٌ.
          فإن قال أبو حنيفةَ: إنَّ إحياء الموات مِنْ مصالح المسلمين، لأنَّ الأرض مغلوبٌ عليها، فوجب ألَّا تملك إلَّا بإذن الإمام كالغنيمة. قيل: الموات في الفيافي مِنَ المباح كالصَّيد وطلب الرِّكاز والمعادن، لا يفتقر شيءٌ منها إلى إذن الإمام، وإن كانت في الأرض الَّتي عليها يدُ الإمام، فكذلك الموات.
          وإحياء الموات عند مالكٍ إجراء العيون، وحفر الآبار، والبنيان، والحرث، وغرس الأشجار، وهو قول الشَّافعيِّ.
          وقال(28) ابنُ القَاسِمِ: ولا يعرف مالكٌ التَّحجير إحياءٌ. والحجَّة له ما رواه(29) الزُّهْرِيُّ عن سالمٍ عن ابنِ عُمَرَ قالَ: كان النَّاسُ يتحجَّرون(30) على عهدهم(31) في الأرض الَّتي ليست لأحدٍ، فقال عُمَرُ: مَنْ أَحْيَا أرضًا ميتةً(32) فهي له. وهذا يدلُّ أنَّ التَّحجير غير الإحياء.
          قال ابنُ حَبِيْبٍ: وبلغني عن رَبِيْعَةَ أنَّه قال: العرق الظَّالم عرقان عرقٌ ظاهرٌ وعرقٌ باطنٌ، فالباطن ما احتفره الرَّجل مِنَ الآبار أو غرسٍ(33).
          قال رَبْيِعَةُ في «كتابِ ابنِ حَبِيْبٍ»: العروق أربعةٌ: عرقان فوق الأرض، وهما الغرس والنَّبات، وعرقان في جوفها: المياه والمعادن، وفي «كتاب ابنِ سُفْيَانَ»: العروق أربعةٌ: عرقان ظاهران، وعرقان باطنان، فالظَّاهران: البناء والغرس، والباطنان: الآبار والعيون(34) والعرق الظَّاهر ما بني في أرض غيره.
          قالَ ابنُ حَبِيْبٍ: فالحكم فيه أن يكون صاحب الأرض مخيَّرًا على الظَّالم، إن شاء حبس ذلك في أرضه بقيمته مقلوعًا، وإن شاء نزعه مِنْ أرضه. وقال غيره: ومعنى قوله: (وَلَيْسَ لِعِرْقٍ ظَالِمٍ حَقٌّ) يريد ليس له حقٌّ كحقِّ مَنْ غرس أو بنى بشبهةٍ، فإذا غرس أو بنى بشبهةٍ فله حقٌّ إن شاء ربُّ الأرض أن يدفع إليه قيمة ذلك(35) قائمًا فعل، وإن أبى قيل للَّذي بنى أو غرس ادفع إليه قيمة أرضه بَراحًا، فإن أبى كانا شريكين(36)، هذا بقيمة أرضه بَراحًا وهذا بقدر قيمة العمارة(37).
          وقال(38) ابنُ حَبِيْبٍ: لا خيار للَّذي بنى أو غرس إذا أبى ربُّ الأرض أن يدفع إليه قيمة ما بنى أو غرس بأن يخرج ربَّ الأرض مِنْ أرضه، ولكن إذا أبى ربُّ الأرض مِنْ دفع قيمة ما بنى أو غرس شرك بين الغارس وصاحب الأرض(39)، هذا بقيمة أرضه وهذا بقيمة غراسته أو بنيانه هذا(40).
          قال(41) ابنُ المَاجِشُونِ والمُغِيْرَةُ عن مالكٍ(42): وتفسير اشتراكهما أن تقوم الأرض اليوم بَراحًا، ثمَّ تقوم بعمارتها، فما زادت قيمتها بالعمارة على قيمتها براحًا، كان العامر شريكًا لربِّ الأرض فيها إن أحبَّا قسمًا أو حبسًا. قال ابنُ الجَهْمِ: فإذا دفع ربُّ الأرض قيمة العمارة وأخذ أرضه كان له كرهًا فيما مضى مِنَ السِّنين(43). ووقع في الأمهات: مَنْ أعمر أرضًا. ولم أجد ذلك في كتاب الله(44)، وذكر صاحبُ ((العين)): أعمرت الأرض: وجدتها عامرةً.
          وليس هذا المعنى بمرادٍ مِنْ هذا الحديث، وفي كتاب ((الأفعال)): عَمُرَ المكانُ، وعَمَرْتُهُ عمارةً فهو عامرٌ ومعمورٌ، وفي القرآن: {وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا}[الرُّوم:9]فجاء عمرت الأرض، ولم يجئ أعمرت الأرض، / ويمكن أن يكون مَنِ اعتمر أرضًا وسقطت التَّاء مِنَ الأمر والله أعلم.


[1] قوله: ((في إحياء الموات)) ليس في (ز).
[2] في (ز): ((في غير حقِّ)).
[3] قوله: ((وقوله ◙: (من أحيا أرضًا ميتة فهي له، وليس لعرق ظالم حقٌّ) وهذا حديث حسن السَّند)) ليس في (ز).
[4] في (ز): ((العمارة)).
[5] قوله: ((فيه)) ليس في (ز).
[6] زاد في (ز): ((الإمام)).
[7] في (ز): ((قال)).
[8] في (ز): ((وقال أصبغ)).
[9] في (ز): ((أمضيته ولم يعقب)).
[10] قوله: ((وقال مُطَرِّف وابن الماجشون: الإمام مخيَّر بين أربعة أوجهٍ: إن رأى أن يقرَّه له فعل، أو يقرَّه للمسلمين ويعطيه قيمته منقوضًا، أو يأمره بقلعه، أو يعطيه غيره فيكون للأوَّل قيمته منقوضًا، والبعيد ما كان خارجًا عمَّا يحتاجه أهل ذلك العمران من محتطب ومرعى، ممَّا العادة أنَّ الرُّعاء يبلغونه ثمَّ يبيتون في منازلهم، ويحتطب المحتطب ثمَّ يعود إلى موضعه، وما كان من الأحياء في المحتطب والمرعى فهو القريب من العمران فيمنع)) ليس في (ز).
[11] في (ز): ((فالحجَّة)).
[12] زاد في (ز): ((حكم)).
[13] في (ز): ((فلا أمر للإمام)).
[14] في (ز): ((في ذلك قالوا وقد دلَّنا)).
[15] قوله: ((له)) ليس في (ص).
[16] قوله: ((أن)) ليس في (ص).
[17] قوله: ((له)) ليس في (ص).
[18] في (ز): ((لو ملَّك أرضًا رجلًا)).
[19] في (ز): ((وكان)).
[20] في (ز): ((بلال)).
[21] في (ص): ((حشيسها)).
[22] في (ز): ((تشاحٌّ وتنافس)).
[23] قوله: ((وما تباعد من العمارة ولم يتشاحَّ فيه جاز أن يعمر بغير إذن الإمام)) ليس في (ص).
[24] في (ز): ((لإذن)).
[25] قوله: ((قال)) ليس في (ز).
[26] في (ز): ((من النَّبيِّ صلعم معناه الإقطاع)).
[27] في (ز): ((من)).
[28] في (ز): ((قال)).
[29] في (ز): ((روى)).
[30] في (ز): ((يتخيَّرون)).
[31] في (ز): ((عهد عمر)).
[32] قوله: ((ميتة)) ليس في (ز).
[33] في (ز): ((غرسه)).
[34] قوله: ((قال ربيعة في كتاب ابن حبيب: العروق أربعة: عرقان فوق الأرض، وهما الغرس والنَّبات، وعرقان في جوفها: المياه والمعادن، وفي كتاب ابن سفيان: العروق أربعة: عرقان ظاهران، وعرقان باطنان، فالظَّاهران: البناء والغرس، والباطنان: الآبار والعيون)) ليس في (ز).
[35] في المطبوع: ((قيمته))، وغير واضحة في (ص).
[36] زاد في المطبوع: ((في الأرض والعمارة))، وغير واضحة في (ص).
[37] في (ز): ((وهذا بقيمة ما بنى أو غرس قائمًا)).
[38] في المطبوع: ((قال))، وغير واضحة في (ص).
[39] في المطبوع: ((أو غرس نشرك فيها بينهما مكانه)).
[40] في المطبوع: ((أرضه براحًا والآخر بقيمة عمارته قائمة))، والفقرة في (ص): ((وقال ابن حبيب: لا خيار للَّذي بنى أو غرس إذا أبى ربُّ الأرض، ولكن يشرك بينهما مكانه، أرضه براحًا والآخر بقيمة عمارته قائمة)).
[41] في المطبوع: ((أخبرني))، وفي (ز): ((وأخبرني)).
[42] قوله: ((والمغيرة عن مالك)) ليس في (ص).
[43] قوله: ((وتفسير اشتراكهما أن تقوم الأرض اليوم براحًا، ثمَّ تقوم بعمارتها، فما زادت قيمتها بالعمارة على قيمتها براحًا، كان العامر شريكًا لربِّ الأرض فيها إن أحبا قسمًا أو حبسًا. قال ابن الجهم: فإذا دفع ربُّ الأرض قيمة العمارة وأخذ أرضه كان له كرهًا فيما مضى من السِّنين)) ليس في (ز)، والمثبت من المطبوع.
[44] في (ز): ((في كتب اللُّغة)).