شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب: إذا قال رب الأرض: أقرك ما أقرك الله ولم يذكر أجلًا

          ░17▒ بَابُ إِذَا قَالَ رَبُّ الأَرْضِ: أُقِرُّكَ مَا أَقَرَّكَ اللهُ، وَلَمْ يَذْكُرْ أَجَلًا مَعْلُومًا فَهُمَا عَلَى تَرَاضِيهِمَا
          فيهِ ابنُ عُمَرَ: (أَنَّ عُمَرَ بنَ الخَطَّابِ(1) أَجْلَى اليَهُودَ وَالنَّصَارَى مِنْ أَرْضِ الحِجَازِ، وَكَانَ ◙(2) لَمَّا ظَهَرَ على خَيْبَرَ أَرَادَ إِخْرَاجَ اليَهُودِ مِنْهَا وَكَانَتِ الأَرْضُ حِينَ ظَهَرَ عَلَيْهَا لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُسْلِمِينَ، وَأَرَادَ إِخْرَاجَ اليَهُودِ مِنْهَا(3)، فَسَأَلَتِ اليَهُودُ رَسُولَ اللهِ صلعم(4) لِيُقِرَّهُمْ بِهَا عَلَى(5) أَنْ يَكْفُوا عَمَلَهَا، وَلَهُمْ نِصْفُ الثَّمَرِ، وقَالَ(6) لَهُمْ رَسُولُ اللهِ صلعم: نُقِرُّكُمْ بِهَا عَلَى ذَلِكَ مَا شِئْنَا، فَقَرُّوا بِهَا حتَّى أَجْلَاهُمْ عُمَرُ إِلَى تَيْمَاءَ وَأَرِيحَاءَ). [خ¦2338]
          اعتلَّ مَنْ دفع المساقاة بأنَّها كانت مِنَ النَّبيِّ صلعم إلى غير أجلٍ معلومٍ، لقوله ◙(7): ((أُقِرُّكُمْ مَا أَقَرَّكُمُ اللهُ)) وكلُّ مَنْ أجاز المساقاة فإنَّما أجازها إلى أجلٍ معلومٍ، إلَّا ما ذكر(8) ابنُ المُنْذِرِ عن بعض أصحابه أنَّه تأوَّل في قوله ◙ لليهودِ: ((أُقِرُّكُمْ مَا أَقَرَّكُمُ اللهُ)) جواز المساقاة بغير أجلٍ، وقد تقدَّم ذكره في باب: إذا لم يشترط السِّنين في المزارعة [خ¦2329].
          والَّذي عليه أئمة الفتوى أنَّها لا تجوز إلَّا بأجلٍ معلومٍ، قال مالكٌ: الأمر عندنا في النَّخل أنَّها تُساقى السِّنتين الثَّلاث(9) والأربع وأقلُّ وأكثر. وأجازها أصحاب مالكٍ في عشر سنين فما دونها، وقال مُحَمَّدُ بنُ الحَسَنِ: إذا ساقاه ولم يُسَمِّ سنين معلومةً كان ذلك على سنةٍ واحدةٍ، وهو قول أبي ثَوْرٍ، وهذا(10) يشبه قول ابنِ المَاجِشُونِ فيمَنِ اكترى دارًا(11) مشاهرةً أنَّه يلزمه شهرٌ واحدٌ، لأنَّ النَّبيَّ صلعم أقرَّ اليهود على أنَّ لهم النِّصف، وهذا يقتضي سنةً واحدةً حتَّى يتبيَّن أكثر منها.
          ولا حُجَّةٌ لمَنْ دفع المساقاة في قوله ◙ لليهود: ((أُقِرُّكُمْ مَا أَقَرَّكُمُ اللهُ))، ولم يذكر أجلًا، لأنَّه ◙ كان يرجو أن يُحَقِّقَ الله رغبته في إبعاد اليهود مِنْ(12) جواره، لأنَّه امتحن معهم في شأن القبلة فكان مرتقبًا للوحي فيهم، فقال لهم: ((أُقِرُّكُمْ مَا أَقَرَّكُمُ اللهُ)) منتظرًا للقضاء فيهم، فلم يوحَ إليه شيءٌ في ذلك حتَّى حضرته الوفاة فقال: ((لَا يَبْقَيَنَّ دِيْنَانِ بِأَرْضِ العَرَبِ)).
          فقوله ◙: ((أُقِرُّكُمْ مَا أَقَرَّكُمُ اللهُ)) لا يوجب فساد عقد النَّبيِّ صلعم ويوجب فساد عقد غيره بعدَه، لأنَّه ◙ كان ينزل عليه الوحي / بتقرير الأحكام ونسخها، فكان بقاء حكمه موقوفًا على تقرير الله له، وكان بقاؤه ما أقرَّه الله، وزواله إذا نسخه مِنْ مقتضى العقد، فإذا شرط ذلك في عقده لم يوجب فساده، وليس كذلك صورته مِنْ غيره، لأنَّ الأحكام قد ثبتت وتقرَّرت.
          ومساقاة رسولِ اللهِ صلعم اليهود على نصف الثَّمر يقتضى عموم جميع الثَّمر، ففيه حجَّةٌ لِمَنْ أجاز المساقاة في الأصول كلِّها، وهو قول ابنِ أبي ليلى ومالكٍ والثَّوْرِيِّ والأوزاعيِّ وأبي يُوسُفَ ومُحَمَّدٍ، وبه قال أحمدُ وإِسْحَاقُ وأبو ثَوْرٍ، وقال الشَّافعيُّ: لا تجوز إلَّا في النَّخل والكَرْم خاصَّةً، لأنَّ المساقاة عندهم(13) لا تجوز إلَّا فيما يجوز فيه الخرص للزَّكاة، وذلك النَّخل والكَرْم(14) لأنَّ ثمرها(15) بائنٌ مِنْ شجره, لا(16) حائل دونه يمنع إحاطة النَّظر إليه، وغيرهما متفرِّقٌ بين أضعاف ورق شجره، لا يحاط بالنَّظر إليه.
          وحجَّة القول الأوَّل أنَّ المساقاة إنَّما جازت في النَّخل، لأنَّها أصولٌ ثابتةٌ لا يمكن بيع ثمرها، ولا إجارتها قبل وجودها، فجاز أن يساقي عليها بجزءٍ مِنْ ثمرها، كما جاز(17) في القراض أن يدفع المال بجزءٍ مِنْ ربحه لحاجة النَّاس إلى ذلك، وضرورتهم إليه في أمر معاشهم، فجازت في كلِّ أصلٍ ثابتٍ يبقى كالزَّيتون والتِّين والرُّمان والفرسك والورد والياسمين ونحوه، لأنَّ النَّبيَّ صلعم ساقى أهل خَيْبَرَ على نصف الثَّمر، وهذا عامٌّ في جميع الأشجار.
          ومَنْ قال: إنَّها(18) تجوز المساقاة فيما تجوز(19) فيه الزَّكاة، فيلزمه أن يجيز المساقاة في الزَّرع وغيره مِنَ الحبوب الَّتي فيها الزَّكاة، فلمَّا لم يجزها عُلم أن المساقاة لم تجب مِنْ أجل وجوب الزَّكاة، وإنَّما جازت للضَّرورة إليها(20) وأنَّ مالكها لا يقدر عليها(21) بنفسه.
          قالَ(22) الطَّحَاوِيُّ: ويلزم(23) الشَّافعيَّ أن يجيز المساقاة في الزَّيتون والتِّين والكمثرى والأجاص والرُّمان وكلِّ شيءٍ [بائنٍ مِنْ ثمره(24)، لأنَّ ذلك يحاط بالنَّظر إليه.
          وقالَ أبو عبدِ اللهِ بنُ أبي صُفْرَةَ: وقوله(25): وكَانَتِ الأَرْضُ لَمَّا ظَهَرَ عَلَيْهِمْ في العنوة قبل القسمة كانت لله(26) ولرسوله وللمسلمين يريد حين ظهر عليها كلُّ الظُّهور، حين صالحوه بالخروج عن أموالهم على أن يحقن دماءهم، فكانت حينئذٍ(27) لله ولرسوله(28) وللمسلمين بما أخذ منهم في الصُّلح وخمس ما أخذ عنوةً، لأنَّ المسلمين أخذوا سهامهم مِنَ العنوة.
          ولا يعارض ما رُوِيَ في كتاب الخُمُس: ((وَكَانَتِ الأَرْضُ لَمَّا ظَهَرَ عَلَيْهَا لِليَهُوْدِ ولِلرَسُوْلِ وَالمُسْلِمِيْنَ(29))) [خ¦3152] وهذا معناه حين ظهر عليها في العنوة قبل القسمة كانت لله ولرسوله، وكانت عين العنوة لليهود قبل أن يصالحوه، فلمَّا صالحوه كانت بعد الصُّلح وقبل قسمة العنوة لله ولرسوله، ثمَّ لمَّا قسم العنوة كانت لله ولرسوله الصُّلح وخُمُس العنوة، وللمسلمين أربعة أخماس العنوة.
          وقوله: ((لَمَّا ظَهَرَ عَلَيْهِمْ فِي الطَّرِيْقِ الَّذِي فِيْهِ للهِ ولرَسُوْلِهِ ولليَهُودِ)) أي ظهر في الرَّجاء لأنَّه كان أخذ أعظمها حصنًا، فاستولى عليها رجاءً، ألا ترى أنَّهم لجئوا إلى مصالحته لما رأوا مِنْ ظهوره، فتركوا الأرض وسلَّموها لتحقن(30) دمائهم، فكان حكم ذلك الصُّلح، وما انجلى عنه أهله بالرُّعب حكم الفيء لم يجز فيه خُمُسٌ، وإنَّما استخلص منه رسول الله صلعم لنفسه، وكان باقيه لنوائب المسلمين وما يحتاجون إليه]
(31).


[1] قوله: ((ابن الخطَّاب)) ليس في (ز).
[2] في (ز): ((النَّبيُّ صلعم)).
[3] قوله: ((وَكَانَتِ الأَرْضُ حِينَ ظَهَرَ عَلَيْهَا لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُسْلِمِينَ، وَأَرَادَ إِخْرَاجَ اليَهُودِ مِنْهَا)) ليس في (ز).
[4] قوله: ((رسول الله صلعم)) ليس في (ص).
[5] قوله: ((على)) ليس في (ز).
[6] في (ز): ((فقال)).
[7] زاد في (ز): ((لليهود)).
[8] في (ز): ((ذكره)).
[9] في (ز): ((السِّنين والثلاث)).
[10] في المطبوع: ((وهو)).
[11] قوله: ((دارًا)) ليس في (ز).
[12] في (ز): ((عن)).
[13] في (ز): ((عندهم)).
[14] زاد في (ز): ((قال)).
[15] في (ز): ((ثمريهما)).
[16] في (ز): ((شجر ولا)).
[17] في (ز): ((جاز)).
[18] في (ز): ((إنَّما)).
[19] قوله: ((تجوز)) ليس في (ز).
[20] في المطبوع: ((إليه))، وقوله: ((إليها)) ليس في (ز).
[21] في (ز): ((على عملها)).
[22] في (ز): ((وقال)).
[23] قوله: ((ويلزم)) ليس في (ص).
[24] في المطبوع: ((شيء يظهر من شجره)).
[25] في المطبوع: ((قوله)).
[26] في المطبوع: ((لمَّا ظهر عليها لله)).
[27] في المطبوع: ((خيبر)).
[28] في المطبوع: ((وللرسول)).
[29] في المطبوع: ((وللمسلمين)).
[30] في المطبوع: ((لحقن)).
[31] ما بين معقوفتين مطموس في (ز).