شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب: إذا قال الرجل لوكيله ضعه حيث أراك الله

          ░15▒ بَابُ إِذَا قَالَ الرَّجُلُ لِوَكِيلِهِ ضَعْهُ حَيْثُ أَرَاكَ اللهُ، وَقَالَ الوَكِيلُ قَدْ سَمِعْتُ مَا قُلْتَ
          فيهِ أَنَسٌ قَالَ(1): (كَانَ أَبُو طَلْحَةَ أَكْثَرَ أَنْصَارِيٍّ بِالمَدِينَةِ مَالًا، وَكَانَ أَحَبَّ أَمْوَالِهِ إِلَيْهِ(2) بَيْرُحَاءَ، وَكَانَتْ مُسْتَقْبِلَةَ المَسْجِدِ، وَكَانَ رَسُولُ اللهِ صلعم يَدْخُلُهَا وَيَشْرَبُ مِنْ مَاءٍ فِيهَا طَيِّبٍ(3) فَلَمَّا نَزَلَتْ: {لَنْ تَنَالُوا البِرَّ حَتَّى تُنفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ}[آل عِمْرَان:92]قام أبو طَلْحَةَ إِلَى رَسُولِ اللهِ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّ اللهَ يَقُولُ: {لَنْ تَنَالُوا البِرَّ حَتَّى تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ}[آل عِمْرَان:92]فَإِنَّ أحبَّ أَمْوَالِي إليَّ بَيْرحَاءَ(4)، وَإِنَّهَا صَدَقَةٌ لِلَّهِ أَرْجُو بِرَّهَا، وَذُخْرَهَا عِنْدَ اللهِ، فَضَعْهَا يَا رَسُولَ اللهِ حَيْثُ شِئْتَ، فَقَالَ: بَخٍ، ذَلِكَ مَالٌ رَابِحٌ، ذَلِكَ مَالٌ رَابِحٌ، قَدْ سَمِعْتُ مَا قُلْتَ فِيْهَا(5)، وَأَرَى أَنْ تَجْعَلَهَا في الأَقْرَبِينَ، قَالَ: أَفْعَلُ يَا رَسُولَ اللهِ، فَقَسَمَهَا أَبُو طَلْحَةَ في أَقَارِبِهِ وَبَنِي عَمِّهِ). [خ¦2318]
          قالَ المُهَلَّبُ: قوله ◙: (قَدْ سَمِعْتُ مَا قُلْتَ) يدلُّ على قبول النَّبيِّ صلعم لما جعل إليه أبو طَلْحَةَ(6) مِنَ الرَّأي في وضعها، ثمَّ ردَّ النَّبيُّ صلعم الوضع فيها إلى أبي طَلْحَةَ بعد أن أشار عليه(7) فيمَنْ يضعها.
          وفيه أنَّ للوكيل أن يقبل ما وكِّل عليه وله أن يردَّ، وأنَّ الوكالة لا تتمُّ إلَّا بقبول الوكيل، ألا ترى أنَّ أبا طَلْحَةَ قال للنَّبيِّ صلعم: (فضَعْها يَا رَسُولَ اللهِ حَيْثُ أراكَ اللهُ) فأشار عليه بالرَّأي، وردَّ عليه العمل وقال: (أَرَى أَنْ تَجْعَلَهَا في الأَقْرَبِينَ) فتولَّى أبو طَلْحَةَ قسمتها.
          وفيه: أنَّ مَنْ أخرج شيئًا مِنْ ماله لله ولم يملكه أحدٌ، فجائزٌ له أن يضعه(8) حيث أراه الله مِنْ سبل الخير، وجائزٌ أن يشاور فيه مَنْ يثق برأيه مِنْ إخوانه وليس لذلك وجهٌ معلومٌ لا يتعدَّى، كما قال بعض النَّاس: معنى قول الرَّجل: لله وفي سبيل الله /
          في وجهٍ دون وجهٍ، ألا ترى أنَّ هذه الصَّدقة الموقوفة رجعت إلى قَرَابة أبي طَلْحَةَ، ولو سبلها في وجهٍ مِنَ الوجوه لم تصرف إلى غيره.
          واختلف الفقهاء إذا قال الرَّجل(9): خذ هذا المال فاجعله حيث أراك الله مِنْ وجوه الخير، هل يأخذ منه لنفسه إن كان فقيرًا أم لا؟ فقالت طائفةٌ: لا يأخذ منه شيئًا، لأنَّه إنَّما أمر بوضعه عند غيره. وهذا يشبه مذهب مالكٍ في «المُدَوَّنَةِ»، سُئِلَ مالكٌ عن رجلٍ أوصى بثُلُث ماله لرَّجلٍ أن يجعله حيث رأى، فأعطاه(10) ولد نفسه، يعني ولد الوصيِّ أو أحدًا مِنْ ذوي قرابته، قال مالكٌ: لا أرى ذلك جائزًا.
          وقال آخرون: يأخذ منه كنصيب أحد الفقراء، وقال آخرون: جائزٌ له أن يأخذه(11) لنفسه كلَّه إن كان فقيرًا، ووجه قول مَنْ قال: لا يأخذ منه شيئًا لنفسه، لأنَّ ربَّه أمره أن يضعه في الفقراء، ولم يأذن له أن يأخذه لنفسه، ولو شاء أن يعطيه له لم يأمره أن يضعه في غيره، فكأنَّه أقامه مقام نفسه(12) ولو فرَّقه ربُّه لم يحبس منه شيئًا، ووجه قول(13) مَنْ قال: يأخذ منه كنصيب أحد الفقراء، فهو أنَّ ربَّه أمره أن يضعه في الفقراء، وهو أحدهم، فلم يتعدَّ ما قال له(14)، ووجه قول(15) مَنْ قال:(16) يأخذه كلَّه لنفسه، أنَّ ربَّه أمره أن يضعه في الفقراء، ومعلومٌ أنَّه لا يحيط بجماعتهم، وأنَّ المال إنَّما يوضع في بعضهم، وإذا كان فقيرًا فهو مِنْ(17) بعضهم لأنَّه مِنَ الصِّفة الَّتي أمره أن يضعه فيها(18).


[1] قوله: ((قال)) ليس في (ز).
[2] قوله: ((إليه)) ليس في المطبوع.
[3] قوله: ((وَكَانَ رَسُولُ اللهِ صلعم يَدْخُلُهَا وَيَشْرَبُ مِنْ مَاءٍ فِيهَا طَيِّبٍ)) ليس في (ز).
[4] قوله: ((عند الله)) ليس في (ز).
[5] قوله: ((فيها)) ليس في (ز).
[6] في (ز): ((أبو طلحة إليه)).
[7] في (ز): ((إليه)).
[8] زاد في (ز): ((بعد)).
[9] في (ز): ((لرَّجل)).
[10] في (ص): ((فأعطي)).
[11] في (ز): ((جائز أن يأخذ)).
[12] قوله: ((ولو شاء أن يعطيه له لم يأمره أن يضعه في غيره، فكأنَّه أقامه مقام نفسه)) ليس في (ص).
[13] قوله: ((قول)) ليس في (ز).
[14] في المطبوع: ((ما قاله))، وفي (ز): ((ما قيل له)).
[15] قوله: ((قوله)) ليس في (ز).
[16] زاد في (ز): ((إنَّه)).
[17] قوله: ((من)) ليس في (ز).
[18] في (ز): ((فيهم)).