شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب: إذا وكل المسلم حربيًا

          ░2▒ بَابُ إِذَا وَكَّلَ المُسْلِمُ حَرْبِيًّا فِي دَارِ الحَرْبِ أَوْ فِي دَارِ الإِسْلاَمِ جَازَ(1)
          فيهِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بنُ عَوْفٍ: (كَاتَبْتُ أُمَيَّةَ بْنَ خَلَفٍ(2) كِتَابًا، أَنْ يَحْفَظَنِي في صَاغِيَتِي بِمَكَّةَ وَأَحْفَظَهُ في صَاغِيَتِهِ بِالمَدِينَةِ، فَلَمَّا ذَكَرْتُ الرَّحْمَنَ، قَالَ: لَا أَعْرِفُ الرَّحمَنَ(3)، كَاتِبْنِي بِاسْمِكَ الَّذي كَانَ في الجَاهِلِيَّةِ، فَكَاتَبْتُهُ عَبْدَ عَمْرٍو، فَلَمَّا كَانَ يَوْمِ بَدْرٍ، خَرَجْتُ إِلَى جَبَلٍ لأُحْرِزَهُ حِينَ نَامَ النَّاسُ، فَأَبْصَرَهُ بِلاَلٌ، فَخَرَجَ حَتَّى وَقَفَ على مَجْلِسٍ الأَنْصَارِ، فَقَالَ أُمَيَّةُ بنُ خَلَفٍ: لاَ نَجَوْتُ إِنْ نَجَا أُمَيَّةُ، فَخَرَجَ مَعَهُ فَرِيقٌ مِنَ الأَنْصَارِ في آثَارِنَا، فَلَمَّا خَشِيتُ أَنْ يَلْحَقُونَا، / خَلَّفْتُ لَهُمُ ابْنَهُ لأَشْغَلَهُمْ فَقَتَلُوهُ، ثُمَّ أَبَوْا حَتَّى تَتْبَّعُونَا، وَكَانَ رَجُلًا ثَقِيلًا، فَلَمَّا أَدْرَكُونَا قُلْتُ لَهُ(4): ابْرُكْ، فَبَرَكَ فَأَلْقَيْتُ عَلَيْهِ نَفْسِي لأَمْنَعَهُ(5)، فَتَجلَّلُوهُ بِالسُّيُوفِ مِنْ تَحْتِي حَتَّى قَتَلُوهُ، وأَصَابَ(6) أَحَدُهُمْ رِجْلِي بِسَيْفِهِ، وَكَانَ عَبْدُ الرَّحمَنِ بنُ عَوْفٍ(7) يُرِينَا ذَلِكَ الأَثَرَ في ظَهْرِ قَدَمِهِ). [خ¦2301]
          قال ابنُ المُنْذِرِ: إذا وكَّل المسلمُ الحربيَّ المستأمنَ أو وكَّل الحربيُّ المستأمنُ المسلمَ فهو جائزٌ.
          قال المؤلِّف: ألا ترى أنَّ عَبْدَ الرَّحمَنِ بنَ عَوْفٍ وكَّل أُمَيَّةَ بنَ خَلَفٍ بأهله وحاشيته بمكَّة أن يحفظهم؟ وأُمَيَّةُ مشركٌ، والتزم عَبْدُ الرَّحمَنِ لأُمَيَّةَ مِنْ حفظ حاشيته بالمدينة مثل ذلك مجازاة لصنعه.
          قال المُهَلَّبُ: وترك عَبْدُ الرَّحمَنِ بنُ عَوْفٍ أن يكتب إليه عبد الرَّحمن لأنَّ التَّسمية علامةٌ، كما فعل ذلك النَّبيُّ صلعم يوم الحديبية حين قال له رسول الله صلعم أهل مكَّة(8): ((لَا أَعْرِفُ الرَّحمَنَ(9)، فَكْتُبْ: بِاسمِكَ اللَّهُمَّ)) فلم يضرَّه محو ذلك ◙، ولا تشاحَّ فيه إذ ما مُحِيَ مِنَ الكتاب ليس بمحوٍ مِنَ الصُّدور(10)، وإذ التَّشاحُّ في مثل هذا ربَّما آل(11) إلى فساد ما أحكموه مِنَ المقاضاة.
          وقوله: (فَأَلْقَيْتُ عَلَيْهِ نَفْسِي لَأَمْنَعَهُ) فلم يمتنع بذلك أُمَيَّةَ بنَ خَلَفٍ مِنَ القتل، هو منسوخٌ بقوله ◙: ((يُجِيْرِ عَلَى المُسْلِمِيْنَ أَدْنَاهُمْ)) لأنَّ حديث أمِّ هانئٍ كان يوم فتح(12) مكَّة.
          وفيه مِنَ الفقه: مجازاة المسلمُ الكافرَ على البِرِّ(13) يكون منه للمسلم والإحسان إليه، ومفارضته على جميل فعله، والسَّعي له في تخليصه مِنَ القتل وشبهه.
          وفيه أيضًا: المجازاة على سوء الفعل بمثله، والانتقام مِنَ الظَّالم، وإنَّما سعى بِلَالٌ في قتل أُمَيَّةَ بنَ خَلَفٍ، واستصرخ الأنصار عليه وأغراهم به في ندائه: (أُمَيَّةُ بنُ خَلَفٍ، لَا نَجَوْتُ إِنْ نَجَا أُمَيَّةُ) لأنَّه(14) كان عذَّب بلالًا بمكَّة على ترك الإسلام، وكان يخرجه إلى الرَّمضاء بمكَّة إذا حميت فيضجعه على ظهره، ثمَّ يأمر بالصَّخرة العظيمة فتوضع على صدره، ويقول: لا تزال هكذا أو تُفارق دين مُحَمَّدٍ، فيقول بِلَالٌ: أَحَدٌ أَحَدٌ.
          قال عبدُ الرَّحمَنِ بنُ عَوْفٍ: فكنتُ بين أُمَيَّةَ وابنه آخذًا بأيديهما، فلمَّا رآه بِلَالٌ صرخ بأعلى صوته: يا أنصار الله، رأسُ الكفر أُمَيَّةُ بنُ خَلَفٍ، لا نجوتُ إن نجا، فأحاطوا بنا و أنا أذبُّ عنه، فضرب رجلٌ ابنه بالسَّيف فوقع، وصاح أُمَيَّةُ صيحةً ما سمعت مثلها(15) قطُّ، قلت: انجُ بنفسك _ولا نجاية_ فوالله ما(16) أغني عنك شيئًا فهذوهما بأسيافهم حتَّى فرغوا منهما، ذكره ابن إِسْحَاقَ وذكر في حديث آخر عن عبدِ اللهِ بنِ أبي بَكْرٍ وغيره عن عبدِ الرَّحمَنِ بنِ عَوْفٍ قال: كان(17) أُمَيَّةُ بنُ خَلَفٍ لي صديقًا بمكَّة، وكان اسمي عَبْدُ عَمْرٍو فتسمَّيت حين أسلمت عبد الرَّحمن ونحن بمكَّة، فكان يلقاني بمكَّة فيُقال(18): يا عَبْدَ عَمْرٍو أرغبت عن اسمٍ سمَّاكه أبوك؟ فأقول: نعم، فيقول: فإنِّي لا أعرف الرَّحمن، فاجعل بيني وبينك شيئًا أدعوك به، فسمَّاه عبد الإله.
          فلمَّا كان يوم بدرٍ مررت به وهو واقفٌ(19) مع ابنه عليِّ بنِ أُمَيَّةَ، ومعي أدراعٌ أسبيتها فأنا أحملها فلمَّا رآني قال: يا عَبْدَ عَمْرٍو، فلم أٌجبه، قال: يا عَبْدَ الإله، قلت: نعم، قال: هل لك فيَّ فأنا خيرٌ لك مِنْ هذه الأدراع الَّتي معك، قلت: نعم، قال: فطرحت الأدراع مِنْ يدي وأخذت بيده ويد ابنه، وهو يقول: ما رأيت كاليوم قطٌّ، فرآهما بِلَالٌ، فكان حديثه ما تقدَّم، فكان عبدُ الرَّحمَنِ يقول: يرحم الله بِلَالًا، ذهبت أدراعي وفجعني بأسيري.
          وقول بِلَالٍ: (أُمَيَّةَ بنَ خَلَفٍ) معناه عليكم أُمَيَّةَ بنَ خَلَفٍ، ونصبه على الإغراء، ويجوز فيه الرَّفع على أن يكون خبر ابتداءٍ مضمرٍ تقديره: هذا أُمَيَّةُ بنُ خَلَفٍ.
          وقال الأَصْمَعِيُّ: صاغية الرَّجل: الَّذين يميلون إليه ويأتونه.
          قال المؤلِّف: وهو مأخوذٌ مِنْ صغى يصغو ويصغي صغوًا، إذا مال، ومنه قوله تعالى: {وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ}[الأنعام:113]وكلٌّ مائلٍ إلى شيءٍ أو معه فقد صغى إليه وأصغى، مِنْ كتاب «الأفعال»(20). /


[1] قوله: ((أَوْ في دَارِ الإِسْلاَمِ جَازَ)) ليس في (ص).
[2] قوله: ((ابن خلف)) ليس في (ص).
[3] قوله: ((الرَّحمن)) ليس في (ز).
[4] قوله: ((له)) ليس في (ز).
[5] زاد في (ز): ((فنحلوه)).
[6] في (ز): ((فأصاب)).
[7] قوله: ((عبد الرَّحمن بن عوفٍ)) ليس في (ز).
[8] في المطبوع: ((قال له رسول أهل مكَّة)).
[9] في (ز): ((التَّسمية)).
[10] في (ز): ((الصَّدر)).
[11] في (ز): ((أدَّى)).
[12] قوله: ((فتح)) ليس في (ز).
[13] في (ز): ((اليد)).
[14] في (ز): ((أميَّة لأنَّ أميَّة)).
[15] في المطبوع: ((بمثلها))، وغير واضحة في (ص).
[16] في المطبوع: ((لا))، وغير واضحة في (ص).
[17] في المطبوع: ((وكان))، وغير واضحة في (ص).
[18] في المطبوع: ((ويقول))، وغير واضحة في (ص).
[19] زاد في المطبوع: ((به))، وغير واضحة في (ص).
[20] قوله: ((من كتاب «الأفعال»)) ليس في (ص).