عمدة القاري في شرح صحيح البخاري

باب ما كان النبي يسأل مما لم ينزل عليه الوحي
  
              

          ░8▒ (ص) بَابُ مَا كَانَ النَّبِيُّ صلعم يُسْأَلُ مِمَّا لَمْ يُنْزَلْ عَلَيْهِ الْوَحْيُ فَيَقُولُ: لَا أَدْرِي، أَوْ لَمْ يُجِبْ حَتَّى يُنْزَلَ عَلَيْهِ الْوَحْيُ، وَلَمْ يَقُلْ بِرَأْيٍ وَلَا بِقِيَاسٍ؛ لِقَوْلِهِ: {بِمَا أَرَاكَ اللهُ}[النساء:105].
          (ش) أي: هذا بابٌ في بيانِ ما كان النَّبِيُّ صلعم ... إلى آخره.
          قوله: (يُسْأَلُ) على صيغة المجهول.
          قوله: (لَا أَدْرِي) قال الكَرْمانيُّ: فيه حزازةٌ حيث قال: «لا أدري» إذ ليس في الحديث ما يدلُّ عليه ولم يثبت عنه صلعم ذلك، وقال بعضهم: هو تساهلٌ شديدٌ منه؛ لأنَّه أشار في الترجمة إلى ما ورد في ذلك ولكنَّه لم يثبت عنده منه شيءٌ على شرطه، ثُمَّ ذكر حديث ابن مسعودٍ: «مَن علم شيئًا فليقل به، ومَن لم يعلم فليقل: الله أعلم»، وذكر حديث ابن عمر: جاء رجلٌ إلى النَّبِيِّ صلعم ، فقال: أيُّ البقاع خيرٌ؟ قال: «لا أدري»، فأتاه جبريل ◙ فسأله فقال: لا أدري، فقال: سل ربَّك، فانتفض جبريل انتفاضةً، وحديث أبي هُرَيْرَة: أنَّ رسول الله صلعم قال: «ما أدري الحدود كفَّارة لأهلها» انتهى.
          قُلْت: نسبته الكَرْمانيَّ إلى التساهل الشديد تساهلٌ أشدَّ منه؛ لأنَّ قوله: (ليس في الحديث ما يدلُّ عليه) صحيحٌ، وقوله: (ولم يثبت عنه ذلك) أيضًا صحيحٌ؛ لأنَّ مراده أنَّهُ لم يثبت عنده، فإذا كان كذلك فقول البُخَاريِّ: (لا أدري) غير واقعٍ في محلِّه.
          قوله: (وَلَمْ يَقُلْ بِرَأْيٍ وَلَا قِيَاسٍ) قال الكَرْمانيُّ: قيل: لا فرق بينهما وهما مترادفان، وقيل: الرأي هو التفكُّر؛ أي: لم يقل بمقتضى العقل ولا بالقياس، وقيل: الرأي أعمُّ لتناوله مثل الاستحسان، وقال المُهَلَّب ما حاصله: الردُّ على البُخَاريِّ في قوله: «ولم يقل برأيٍ ولا قياسٍ» لأنَّ النَّبِيَّ صلعم قد علَّم أمَّته كيفيَّة القياس والاستنباط في مسائل لها أصولٌ ومعانٍ في كتاب الله ╡ ، ليريهم كيف يصنعون فيما عدموا فيه النصوص، والقياس: هو تشبيه ما لا حكم فيه بما فيه حكمٌ في المعنى، وقد شبَّه عليه الصَّلاة والسَّلام الحمر بالخيل فقال: «ما أنزل الله عليَّ فيهما بشيء غير هذه الآية الفاذَّة الجامعة {فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ}[الزلزلة:7]» وقال للتي أخبرته أنَّ أباها لم يحجَّ: «أرأيتِ لو كان على أبيكِ دينٌ أكنتِ قاضيته؟ فالله أحقُّ بالقضاء» وهذا هو عين القياس عند العرب وعند العلماء بمعاني الكلام، وأَمَّا سكوته صلعم حَتَّى نزل الوحي فإِنَّما سكت في أشياء معضلةٍ، ليست لها أصولٌ في الشريعة، فلا بدَّ فيها مِن إطلاع الوحي، ونحن الآن قد فرغت لنا الشرائع وأكمل الله الدِّين، فإِنَّما ننظر ونقيس على موضوعاتها فيما أعضل مِنَ النوازل.
          قوله: (لِقَوْلِهِ: {بِمَا أَرَاكَ اللهُ}[النساء:105]) أي: لقول الله تعالى، ويروى هكذا: <لقول الله> وهو رواية المُسْتَمْلِي، واحتجَّ البُخَاريُّ بقوله تعالى: {لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللهُ}[النساء:105] أي: بما أعلمك الله، وأجيب عن هذا بأنَّه صلعم إذا حكم بين الناس بالقياس فقد حكم أيضًا بما أراه الله، ونقل ابن التين عن الداوديِّ بما حاصله: أنَّ الذي احتجَّ به البُخَاريُّ لما ادَّعاه مِنَ النفي حجَّة في الإثبات؛ لأنَّ المراد بقوله: {بِمَا أَرَاكَ اللهُ} ليس محصورًا في النصوص، بل فيه إذن في القول بالرأي.
          قُلْت: فحينئذٍ تنقلب الحجَّة عليه.
          (ص) وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: سُئِلَ النَّبِيُّ صلعم عَنِ الرُّوحِ فَسَكَتَ، حَتَّى نَزَلَتِ الآيَةُ.
          (ش) ذكر هذا التعليق عن عبد الله بن مسعودٍ دليلًا لقوله في الترجمة: (ولم يجب) لأنَّ عدم الإجابة السكوت، ولا ينهض هذا دليلًا لما ادَّعاه لأنَّا قد ذكرنا أنَّ سكوته في مثل هذا الموضع لكونه في أشياء معضلةٍ، وليس لها أصولٌ في الشريعة، فلا بدَّ في مثل هذا مِنَ الوحي، ومع هذا ما أطلعه الله / في هذه الآية، وهي {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ...} الآية[الإسراء:85] على حقيقة كيفيَّة الروح، بل قال: {قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي} وهذا التعليق مضى موصولًا في آخر: (باب ما يُكرَه مِن كثرة السؤال) لكنَّه ذكره فيه: (فقام ساعةً ينظُرُ)، وأورده في (كتاب العلم) بلفظ: (فسكت)، وأورده في (تفسير {سُبْحَانَ}) بلفظ: (فأمسك)، وفي رواية مسلمٍ: (فأسكت النَّبِيُّ صلعم ، فلم يردَّ عليه شيئًا).