عمدة القاري في شرح صحيح البخاري

حديث: من قتل نفسًا معاهدًا لم يرح رائحة الجنة
  
              

          6914- (ص) حَدَّثَنَا قَيْسُ بْنُ حَفْصٍ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ: حَدَّثَنَا الْحَسَنُ: حَدَّثَنَا مُجَاهِدٌ عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو عَنِ النَّبِيِّ صلعم : «مَنْ قَتَلَ نَفْسًا مُعَاهَدًا لَمْ يَرَحْ رَائِحَةَ الجنَّة، وَإِنَّ رِيحَهَا يُوجَدُ مِنْ مَسِيرَةِ أَرْبَعِينَ عَامًا».
          (ش) مطابقته للترجمة غير ظاهرةٍ؛ لأنَّ الترجمة بالذمِّيِّ وهو كتابيٌّ عُقِدَ معه عقد الجزية، وأجاب الكَرْمانيُّ بأنَّ المعاهد أيضًا ذمِّيٌّ باعتبار أنَّ له ذمَّة المسلمين وفي عهدهم، والذمِّيُّ أعمُّ مِن ذلك.
          و(قَيْسُ بْنُ حَفْصٍ) أبو مُحَمَّدٍ الدارميُّ البَصْريُّ، وهو مِن أفراد البُخَاريِّ، مات سنة تسعٍ وعشرين ومئتين، و(عَبْدُ الوَاحِدِ) هو ابن زيادٍ، و(الحَسَن) هو ابن عَمْرٍو الفُقَيميُّ؛ بِضَمِّ الفاء وفتح القاف.
          والحديث مضى في (الجزية) عن قيسٍ أيضًا، وأخرجه ابن ماجه في (الدِّيَات) عن أبي كُرَيبٍ.
          قوله: (مُعَاهَدًا) ويروى: <معاهدة> وهو الظاهر؛ لأنَّ التأنيث باعتبار النفس، والأَوَّل باعتبار الشخص، ويجوز فتح الهاء وكسرها، والمراد به: مَن له عهدٌ بالمسلمين سواءٌ كان بعقد جزيةٍ أو هُدْنَةٍ مِنَ سلطانٍ أو أمانٍ مِن مسلمٍ.
          قوله: (لَمْ يَرَحْ) بفتح الراء وكسرها؛ أي: لم يجد رائحة الجنَّة ولم يشمَّها، وزعم أبو عُبَيدٍ أنَّهُ يقال: يرَح ويرُح _أي: بالضمِّ_ مِن أرحت، وعند الهرويِّ رُويَ بثلاثة أوجهٍ: يرَح يرُح يرِح، وقال الجَوْهَريُّ: راح الشيء يراحُه ويريحُه؛ أي: وجد ريحه، وقال الكَرْمانيُّ: المؤمنُ لا يُخلَّد في النار، وأجاب بأنَّه لم يجد أَوَّل ما يجدُها سائر المسلمين الذين لم يقترفوا الكبائر، أو هو وعيدٌ تغليظًا، ويقال: ليس على الحتم والإلزام، وإِنَّما هذا لمن أراد الله ╡ إنفاذ الوعيد عليه.
          قوله: (يُوجَدُ) على صيغة المجهول، ويروى: <لَيوجد> باللَّام المفتوحة، والأَوَّل رواية الكُشْميهَنيِّ.
          قوله: (أَرْبَعِينَ عَامًا) كذا وقع في رواية الجميع, ووقع في رواية عَمْرو بن عبد الغفَّار عن الحسن بن عَمْرٍو: (سبعين عامًا) هذا في رواية الإسماعيليِّ، ومثله في حديث أبي هُرَيْرَة عند التِّرْمِذيِّ مِن طريق مُحَمَّد بن عجلان عن أبيه عنه، ولفظه: «وإنَّ ريحه ليوجد مِن مسيرة [سبعين خريفًا»، وفي «الأوسط» للطبرانيِّ مِن طريق مُحَمَّد بن سِيرِين عن أبي هُرَيْرَة بلفظ: «مِن مسيرة] مئة عامٍ»، وللطبرانيِّ عن أبي بكرة: «خمس مئة عامٍ»، وفي حديثٍ لجابرٍ ذكره صاحب «الفردوس»: «إنَّ ريح الجنَّة يُدرَك مِن مسيرة ألف عامٍ»، وهذا اختلافٌ شديدٌ، وتكلَّم الشُّرَّاح في هذا كلامًا كثيرًا غالبُه بالتعسُّف، وقال شيخنا زينُ الدين في «شرح التِّرْمِذيِّ»: إنَّ الجمع بين هذه الرواياتِ باختلاف الأشخاص بتفاوت منازلهم ودرجاتهم، وقال الكَرْمانيُّ: يحتمل ألَّا يكون العدد بخصوصه مقصودًا، بل المقصود المبالغة والتكثير.