عمدة القاري في شرح صحيح البخاري

باب قول الله تعالى:{أن النفس بالنفس والعين بالعين والأنف بالأنف}
  
              

          ░6▒ (ص) بابُ قَوْلِ اللهِ تَعَالَى: {أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالأَنْفَ بِالأَنْفِ وَالأُذُنَ بِالأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَكَفَّارَةٌ لَهُ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ}[المائدة:45].
          (ش) أي: هذا بابٌ في قول الله تعالى: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} الآية بكمالها سيقت في رواية كريمة، وفي رواية أبي ذرٍّ والأصيليِّ: <باب قول الله تعالى: {أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ}> وفي رواية النَّسَفِيِّ كذا, ولكن بعده: <إلى قوله: {فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ}> وإِنَّما ذكر البُخَاريُّ هذه الآية لمطابقتها قوله صلعم في حديث الباب: «النَّفس بالنَّفس»، واحتجَّ بها أبو حنيفة وأصحابُه على أنَّ المسلم يُقاد بالذمِّيِّ في العَمد، وبه قال الثَّوْريُّ، وجعلوا هذه الآيةَ ناسخةً للآية التي في (البقرة) وهي قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ}[البقرة:178] وعن أبي مالك: أنَّ هذه الآية منسوخة بقوله: {أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} وقال البَيْهَقيُّ: بابٌ في مَن لا قصاص بينه باختلاف الدِّين، قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ...} إلى قوله: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءَ} وقال صاحب «الجوهر النقيّ»: قُلْت: هذه الآية حُجَّة لخصمه؛ لأنَّ عموم القتل يشمل المؤمن والكافر, خُوطِبَ المؤمنون بوجوب القصاص في عموم القتل, وكذا قوله تعالى: {الحْرُّ بِالْحُرِّ} يشملُهما بعمومه.
          قوله: ({أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ}) يُؤخَذ منه جوازُ قَتْلِ الحرِّ بالعبد, والمسلم بالذمِّيِّ، وهو قول الثَّوْريِّ والكوفيِّين، وقال مالكٌ واللَّيث والأوزاعي والشّافعيُّ وأحمد وإسحاق وأبو ثور: ولا يقتل حرٌّ بعبد، وفي «التوضيح»: هذا مذهبُ أبي بكر وعمر وعثمان وعليٍّ وزيد بن ثابت، ♥ .
          قوله: ({وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ}) قال الزَّمَخْشَريُّ: المعطوفاتُ كلُّها قُرِئَت منصوبةً ومرفوعة، والمعنى: فرضنا عليهم فيها _أي: في التوراة_ أنَّ النفس مأخوذةٌ بالنفس مقتولةٌ بها إذا قتلتها بغير حقٍّ، وكذلك العينُ مفقوءةٌ بالعين، والأنف مجدوعٌ بالأنف، والأذن مَصلومةٌ بالأذن, والسِّنُّ مقلوعةٌ بالسِّنِّ.
          قوله: ({وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ}) يعني: ذاتُ قصاص، وهو المقاصَّة, ومعناه: ما يمكن فيه القصاصُ وتُعرَف المساواة.
          قوله: ({فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ}) أي: فمَن تصدَّق مِن أصحاب الحقِّ به _أي: بالقصاص_ وعفا عنه.
          قوله: ({فَهُوَكَفَّارَةٌ لَهُ}) أي: التصدُّق به كفَّارةٌ للمتصدِّق، يُكفِّر الله عن سيِّئاته, وعن عبد الله بن عُمَر: ويهدم عنه ذنوبه بقدر ما تصدَّق به.
          قوله: ({وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ}...) إلى آخره قال: هنا ({فَأُولَئِكَ هُمُ الْظَالِمُونَ}) لأنَّهم لم يُنصِفوا المظلومَ مِنَ الظالم الذي أمر بالعدل والتسوية بينهم فيه، فخالفوا وظلموا وتَعَدَّوا.