عمدة القاري في شرح صحيح البخاري

باب قول الله تعالى {وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنًا إلا خطأً}
  
              

          ░11▒ (ص) بابُ قَوْلِ اللهِ تَعَالَى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَمُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنَ اللهِ وَكَانَ اللهُ عَلِيمًا حَكِيمًا}[النساء:92].
          (ش) أي: هذا بابٌ في ذِكرِ قول الله ╡ ... إلى آخره، كذا سيقت الآية بتمامها عند الأكثرين، وفي رواية أبي ذرٍّ هكذا: <باب قول الله تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً}> وكذا في رواية ابن عساكر، ولم يذكر معظمهم في هذا الباب حديثًا.
          هذه الآيةُ أصلٌ في (الدِّيات) فذكر فيها ديَتين وثلاث كفَّارات؛ ذكر الدِّية والكفَّارة بقتل المؤمن في دار الإسلام, وذكر الكفَّارة دون الدِّيَة بقتل المؤمن في دار الحرب في صفِّ المشركين إذا حضر معهم الصَّفَّ فقتله مسلمٌ، وذكر الدِّيَة والكفَّارة بقتل الذمِّيِّ في دار الإسلام، وقال مجاهد وعِكرمة: هذه الآية نزلت في عَيَّاش بن أبي ربيعة المَخْزُومِيِّ، قَتَل رجلًا مسلمًا ولم يعلم بإسلامه, وكان ذلك الرجلُ يعذِّبه بِمَكَّةَ مع أبي جهل, ثُمَّ أسلَمَ وخرج مهاجرًا إلى النَّبِيِّ صلعم ، فَلَقِيَه عَيَّاشٌ في الطَّريق فقتله وهو يحسبه كافرًا، ثُمَّ جاء إلى النَّبِيِّ صلعم ، فأخبره بذلك، فأمره أن يعتقَ رقبةً، ونزلت الآية، حكاه الطَّبَريُّ عنهما, وقال السُّدِّيُّ: قتله يوم الفتح، وقد خرج مِن مكَّة ولا يعلم بإسلامه، وقيل: نزلت في أبي عامرٍ والد أبي الدَّرداء، خرج إلى سريَّة فعَدَلَ إلى شِعْبٍ، فوجد رجلًا في غَنمٍ، فقتله وأخذها، وكان يقول: لا إله إلَّا الله، فوجد في نفِسه من ذلك، فذكره لرسول الله صلعم ، فأنكر عليه قتله إذ قال: لا إله إلَّا الله، فنزلت, وقيل: نزلت في والد حُذَيفة بن اليمان، قُتِلَ خطأً يوم أُحُد، وقد مضى عن قريب.
          قوله: ({إِلَّا خَطَأً}) ظاهره غير مراد، فَإِنَّهُ لا يُشرَع له قتلُه خطأً ولا عمدًا، لكنَّ تقديره: إن قتله خطأ, وقال الأصمعيُّ وأبو عُبَيد: المعنى: إلَّا أن يقتله مخطئًا، وهو استثناء منقطع.
          قوله: ({مُؤْمِنَةٍ}) لا تجوز الكافرة، وحكى ابن جَرير عن ابن عَبَّاس والشعبيِّ وإبراهيم النَّخَعِيِّ والحسَن البَصْريِّ أنَّهم قالوا: لا يجزئ الصغير إلَّا أن يكون قاصدًا للإيمان، واختار ابن جرير أنَّهُ إن كان مولودًا بين أبوين مسلمين جاز، وإلَّا فلا، والذي عليه الجمهور أنَّهُ متى كان مسلمًا صحَّ عتقُه عن الكفَّارة، سواءٌ كان صغيرًا أو كبيرًا.
          قوله: ({إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا}) أي: إلَّا أن يتصدَّقوا بالدِّية فلا يجب.
          قوله: ({فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ}) أي: إذا كان القتيلُ مؤمنًا ولكنَّ أولياءه مِنَ الكفَّار أهل حربٍ؛ فلا ديةَ لهم, وعلى قاتلِه تحريرُ رقبةٍ مؤمنةٍ لا غير.
          قوله: ({مِيثَاقٌ}) أي: عَهْدٌ وهُدْنةٌ؛ فالواجب ديةٌ مُسْلَّمَة إلى أهل القتيل وتحريرُ رقبةٍ.
          قوله: ({مُتَتَابِعَيْنِ}) يعني: لا إفطار بينهما, فإن أفطر مِن غير عذرٍ مِن مرض أو حيض أو نفاس؛ استأنف الصوم, واختلفوا في السَّفر؛ هل يقطع أم لا؟ على قولين.
          قوله: ({تَوْبَةً}) أي: رحمةً ({مِنَ الله}) لكم إلى التَّيسير عليكم بتخفيفٍ عنكم بتحرير الرقبة المؤمنة إذا أَيسَرتُم بها.
          قوله: ({وَكَانَ اللهُ عَلِيمًا حَكِيمًا}) أي: لم يَزَل عليمًا بما يُصلِح عباده فيما يكلِّفهم مِن فرائضه، حكيمًا بما يقضي فيه ويأمُر.