الفيض الجاري بشرح صحيح الإمام البخاري

حديث: إذا وقع الذباب في شراب أحدكم فليغمسه ثم لينزعه

          3320- وبالسند قال: (حَدَّثَنَا خَالِدُ بْنُ مَخْلَدٍ) بفتحِ الميم واللامِ بينهما خاءٌ معجمةٌ ساكنةٌ، البجلِيُّ الكوفيُّ، قال: (حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ بِلاَلٍ) بكسرِ الموحَّدة؛ أي: التَّيميُّ، قال: (حَدَّثَنِي) بالإفراد (عُتْبَةُ) بضمِّ العينِ المهملةِ وسكونِ المثناة الفوقيَّة (ابْنُ مُسْلِمٍ) بسكونِ السِّين المهملةِ، وهو مولى بني تميمٍ.
          قال: (أَخْبَرَنِي) بالإفرادِ (عُبَيْدُ) تصغيرُ: عبدٍ، من غير إضافةٍ (ابْنُ حُنَيْنٍ) بضمِّ / الحاء المهملةِ وفتحِ النونِ الأولى وسكونِ التَّحتية، وهو مولى زيدِ بن الخطَّابِ أخي عُمرَ بن الخطَّاب.
          (قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ ☺ يَقُولُ: قَالَ النَّبِيُّ صلعم: إِذَا وَقَعَ الذُّبَابُ) جمع: ذُبابةٍ _بضمِّ الذال المعجمةِ فيها فموحدتين بينهما ألف_،سمِّيَ بذلكَ لأنَّهُ كلَّما ذُبَّ آبَ، وقال في ((القاموس)): الذُّبابُ: معرُوفٌ، والنَّحلُ: الواحِدةُ بِهاءٍ، والجمعُ: أَذِبَّةٌ وذِبَّانٌ بالكسرِ، وذُبُّ بالضم، وأرضٌ مَذَبَّةٌ ومذبُوبَةٌ كثيرَتُهُ.
          وقال في ((الصحاح)): الذبابُ: معرُوفٌ، والواحدَةُ: ذبابَةٌ، ولا تقلْ: ذِبَّانَةٌ، وجمعُ القلةِ: أَذِبَّةٌ، والكثرةِ: ذِبَّانٌ، مثل: غُرابٌ وأَغرِبَةٌ وغِربَانٌ.
          وقال العَينيُّ: قال أبو هلالٍ العَسكريُّ: الذُّبابُ واحدٌ، والجمعُ: ذِبَّانٌ، والعامَّةُ تقول: ذِبَّانَةٌ للواحد، والذِّبَانُ للجَمعِ وهو خطأٌ، وقال أبو حاتمٍ السَّجستانيُّ: تقولُ: هذا ذبابٌ للواحدِ، وذُبابانِ في التَّثنيةِ، ولا يقالُ: ذبابةٌ ولا ذُبَّانةٌ.
          وقال ابن سيدَه في ((المحكم)): لا يقالُ: ذبابةٌ إلَّا ما حكاهُ أبو عبيدَةَ عن الأحمرِ، والصَّوابُ: ذبابٌ للواحِدِ، وفي التَّنزيلِ: {وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئاً} [الحج:73] فسَّرُوهُ بالواحدِ، وحكى سيبَويه عن العربِ: ذُبَّ في جمع: ذُبابٍ، وقال الجاحِظُ: عمرُ الذُّبابِ أربعون يوماً وهو في النَّارِ، وليس تعذِيباً له وإنَّما ذلك ليعذَّبَ أهلُ النارِ بوقوعِهِ عليهم، فإنَّه لا شيءَ أضر على المكلومِ من وقوعِ الذُّبابِ على كلمِهِ.
          (فِي شَرَابِ أَحَدِكُمْ) ((الشَّراب)) بفتحِ الشِّين المعجمةِ، أصلُهُ: ما يُشربُ من الماء واللَّبنِ ونحوهما من المائعَاتِ، والمرادُ هنا ما يشمَلُ المأكُولَ، ففي أبي داودَ من حديثِ أبي هريرةَ رفعهُ: ((إذا وَقَعَ الذُّبابُ في إناءِ أحدِكُم)) وفي ابن ماجَه من حديثِ أبي سعيدٍ الخدريِّ رفعهُ: ((فإذا وَقَعَ الذُّبابُ في الطَّعامِ)).
          (فَلْيَغْمِسْهُ) بكسرِ الميم؛ أي: في الشَّرابِ، ولفظُ المصنِّف في الطِّبِ: ((فليغمِسهُ كلَّهُ)) فأَكَّد بـ((كُلَّهُ)) لدفع توهُّمِ المجازِ بأن يكتفيَ بغمس بعض الذُّبابةِ، والأمرُ بالغَمسِ للإرشادِ ولمقَابلةِ الدَّاء بالدَّواءِ.
          (ثُمَّ لِيَنْزِعْهُ) بكسرِ الزاي عقبَ النونِ السَّاكنة، ولأبي ذرٍّ عن الحمويِّ والمستمليِّ: <ثم لينتَزِعْهُ> بزيادةِ مثنَّاة فوقيَّة مفتوحةٍ قبلَ الزاي، وهي بمعنَى ما في الطِّبِّ: ((ثمَّ ليطرَحهُ)) وذكرَ البزَّارُ أنَّه يغمسهُ ثلاثاً مع قولهِ: ((بسمِ اللهِ))، ورواهُ ابنُ ماجَه بلفظ: ((فامقُلوهُ فيهِ)) بدلَ: ((فليَغمِسْه)) من المَقْل _بفتحِ الميم وسكونِ القافِ_،وهو الغَمسُ، قال أبو عُبيد: أي: اغمسُوهُ في الطَّعامِ أو الشَّرابِ ليُخرِجَ الدواءَ كما أخرجَ الدَّاءَ بإلهامٍ من اللهِ.
          وقال في ((المغرب)): في الحديثِ: ((إذا وَقَعَ الذُّبابُ في طَعامِ أحدِكُم فامقُلوهُ فيهِ، فإنَّ في أحدِ جناحَيْهِ سُمًّا، وفي الآخرِ شِفاءً)) وأمَّا ((فامقلوهُ ثمَّ انقلوهُ)) فمصنوعٌ.
          قال العينيُّ: قلتُ: وقعَ في غالبِ كتبِ أصحابنا زيادَةُ: ((ثمَّ انقلُوهُ)) قال: والصَّحِيحُ: ((فامقُلوهُ فيهِ فإنَّهُ يقدِّمُ السُّمَّ ويُؤخِّر الشِّفاءَ)) نعم روايةُ المصنِّفِ هنا: ((ثمَّ لينزَعهُ)) يفيدُ معنى: ((ثمَّ انقلُوهُ)) فليتأمَّل.
          (فَإِنَّ فِي إِحْدَى جَنَاحَيْهِ) قال القسطلَّانيُّ: بكسرِ الهمزةِ وسكونِ الحاءِ، وهو الأَيسرُ كما قيل (دَاءً وَالأُخْرَى) بضمِّ الهمزةِ، وهو الأَيمنُ (شِفَاءً) والجنَاحُ يذكَّرُ ويؤنَّثُ، انتهى.
          واعلمْ أنَّ غالبَ النُّسخِ بتذكِيرِ: <أحد> و<الآخر> وأقلُّها بتأنيثِهِ، ووقعَ في بعضِ النُّسخِ بتذكيرِ: <أحد> وتأنيثِ: <الأخرى> ووقعَ في بعضٍ آخرَ: <جناحيها> بضَميرِ المؤنَّثِ؛ لأنَّ الذُّباب جمعٌ، ووجهُهُما كغيرهِ بأن التَّأنيثَ باعتبارِ أنَّ جناحَ الطَّائرِ بمعنى يدِهِ مؤنثٌ، والتَّذكيرَ باعتبار لفظِ: جناح، أو لأنَّهُ عضوٌ ولذلك جمعُوهُ باعتبارِ التَّأنيثِ على: أجنُحٍ، كشمالٍ وأشمُلٍ، وباعتبارِ التَّذكيرِ على أجنحَةٍ كقذالٍ وأقذلةٍ، ثمَّ قالَ كالكرمانيِّ: ورويَ في تمامِ الحديثِ، وأنَّه يقدِّمُ السُّمَّ ويؤخِّرُ الشِّفاءَ، قال: ومثلُهُ في المخلوقَاتِ كثِيرٌ، كالنَّحلةِ يخرجُ / من بطنهَا العَسلُ ومن إبرَتِها السُّمُّ، وكالعَقربِ تهيج الدَّاءَ بإبرتها ويُتَداوى من ذلك، وزادَ الكرمانيُّ: وكذلك الأَفعَى والتِّرياقُ.
          وقال الخطَّابيُّ ما حاصلُهُ: قال بعضُ الجهلَةِ المعانِدِين: كيف يجتَمعُ الدَّاءُ والدَّواءُ في جناحَي الذُّبابِ، وكيف تعلمُ الذُّبابُ ذلكَ من نفسها حتى تقدِّمَ الدَّاءَ وتؤخِّرَ الدَّواءَ؟
          وردَّ عليهم بأنَّ عامَّةَ الحيوَاناتِ جُمِعَتْ فيها الحرارةُ والبُرودةُ والرُّطُوبةُ واليُبُوسةُ في أشياءَ متضادَّةٍ، وإذا تلاقَتْ تفاسدَتْ لولا تألِيفُ اللهِ فيها، والَّذي ألهَمَ النَّحلةَ وشبهها من الحيوَاناتِ إلى بناءِ البُيوتِ وادِّخارِ القوتِ، هو الملهِمُ للذُّبابِ ما تراهُ في الكتَابِ.
          تنبيهٌ: قال العَينيُّ ومن تبعَهُ: ثبتَ في كثِيرٍ من النُّسخِ: <وفي الأخرى> بإعادَةِ: حرفِ الجرِّ، وهو ظاهِرٌ، ووقَعَ في أكثرِهَا بإسقاطِ: <في> وعليه فيَكونُ من العَطفِ على معمُولينِ عامِلَينِ مختَلِفينِ، وهو غيرُ جائزٍ عند جمهُورِ البَصريِّين، وأجازَهُ الأخفَشُ والكوفيُّونَ على حدِّ قولهم: إن في الدَّارِ زيداً والحجرةِ عَمراً، وقد بسَطَ الكلامَ عليه النُّحَاةُ، قال العينيُّ: وقيلَ: يُروى: ((شفاءٌ)) بالرفعِ فيخرجَ عن العطفِ على معمولي عامِلَين مختلِفَين، ويحتاجُ إلى تقديرِ مضافٍ؛ أي: ذو شفَاءٍ ليصحَّ الإخبارُ به عن الآخرِ الواقِعِ مبتدأً، انتهى فافهَم.
          فائدةٌ: قال العَينيُّ: قال أبو محمَّدٍ المالقيُّ في ((جامعه)): ذبُابُ النَّاسِ يتولَّدُ من الزبلِ فإن أُخِذَ الذُّبابُ الكبيرُ وقُطِعَ رأسُها وحُكَّ بجسَدِها الشَّعرةُ التي في الأجفَانِ حكًّا شديداً فإنَّهُ يبرِيهِ، وإن سُحِقَ الذُّبابُ بصفْوةِ البيضِ سحقاً ناعماً وضمِّدَتْ به العَينُ التي فيها الحمرَةُ من داخلٍ، فإنَّهُ يسكنُ من ساعتِهِ، وإن مسَحَ لسعَةَ الزُّنبورِ بالذُّبابِ سكنَ وجعُهُ، انتهى.
          ومطابقةُ الحديثِ للتَّرجمة ظاهرةٌ.
          واستُنبِطَ منه: أنَّ الماء القليلَ لا ينجُسُ بوقُوعِ ما لا نفسَ له سائلةٌ فيه، ووجِّهَ بما نُقِلَ عن الشافعيِّ أنه قد يفضِي الغمسُ إلى الموتِ ولا سيَّمَا إذا كان المغمُوسُ فيه حارًّا، فلو نجَّسَهُ لما أمرَ بغمسِهِ، لكن قيَّدهُ في ((المهمات)) بما إذا لم يتغيَّرِ المَاءُ به، فإن تغيَّرَ فوَجهَانِ، والصَّحِيحُ أنَّه ينجُسُ مطلقاً، وحكى في ((الوسيط)) عن ((التقريب)): قولاً بالفَرقِ بينَ ما تعمُّ به البَلوَى كالذُّبَابِ والبَعُوضِ فلا ينجُسُ، وبينَ ما لا يعمُّ كالعَقَاربِ والخنافِسِ فينجُسُ، وحكاهُ الرَّافعيُّ في ((الصغير)) قالَ الأسنويُّ: وهو متعيِّنٌ لا محِيدَ عنهُ؛ لأنَّ محلَّ النَّصِّ فيه معنيَانِ مناسبانِ: عدمُ الدَّمِ المتعفنِ، وعمومُ البلوَى، فكيف يقَاسُ عليه ما فيه أحدُهُما، والمتجهُ اختصَاصُ الغمسِ بالذُّبابِ؛ لأنَّ غمسَهُ لتقديم الداءِ وهو مفقودٌ في غيره، انتهى.
          وما استوجهَهُ الأسنويُّ من اختصَاصِ الغَمْسِ بالذُّبابِ اعتمدَهُ ابنُ حجرٍ والرمليُّ وغيرُهُما من المتأخِّرينَ، وأما فرقُهُ في الحكمِ بين الصَّغيرِ والكبيرِ فلم يعتمدُوهُ بل عمَّمُوا الحُكمَ فيهما.