الفيض الجاري بشرح صحيح الإمام البخاري

باب قول الله تعالى: {وبث فيها من كل دابة}

          ░14▒ (باب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى) وفي بعضِ الأصُولِ: <باب قولِ الله ╡> أي في: سُورة البقرةِ ({وَبَثَّ}) أي: نشرَ وفرَّقَ ({فِيهَا}) أي: في الأرضِ ({مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ}).
          قال البيضَاويُّ: {وبث} عطفَ على: {أنزل} كأنَّه استدلَّ بنزُولِ المطرِ وتكوينِ النَّباتِ به وبثِّ الحيوانات في مؤخَّرِ الأرضِ، أو على {أحيا} فإن الدَّوابَّ ينمُون بالخصْبِ، ويعيشونَ بالحياةِ، والبثُّ: النَّشرُ والتَّفريقُ.
          وقال في ((الفتح)): كأنَّه أشارَ بالتَّرجمةِ إلى سبقِ خلقِ الملائكةِ والجنِّ على الحيوانِ أو سبقِ جميعِ ذلكَ على خلقِ آدمَ، قال: والدَّابةُ لغة: ما دبَّ من الحيوانِ، واستثنى بعضُهُم الطَّيرَ؛ لقولهِ تعالى: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ} [الأنعام:38] والأوَّلُ أشهرُ؛ لقولهِ تعالى: {مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آَخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا} وعرفاً ذوات الأربعِ، وقيل: تختصُّ بالفرسِ، وقيل: بالحمَارِ، والمرادُ هنا المعنى اللُّغويِّ.
          قال: وفي حديثِ أبي هُريرة عند مسلمٍ: أنَّ خلقَ الدَّوابِّ كانَ يومَ الأربعاءِ، وهو دالٌّ على أنَّ ذلك كانَ قبلَ خلقِ آدمَ.
          وجرَى على عادتِهِ الغَالبةِ في تفسيرِ كلمَاتٍ تناسِبُ البابَ، فقال:
          (قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ ☻) ممَّا وصلَهُ عنهُ ابنُ أبي حاتمٍ (الثُّعْبَانُ) أي: في قولهِ تعَالى في: سورةِ الأعرافِ: {فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ} [الشعراء:32] (الْحَيَّةُ الذَّكَرُ مِنْهَا) برفعِ: ((الحيَّة)) خبر ((الثُّعبان))، وضميرُ: ((منها)) للحيَّاتِ، قاله شيخُ الإسلامِ.
          وزادَ: وقال الجوهريُّ: هو ضرْبٌ من الحيَّاتِ طوالٌ، قال: وقيَّد بالذِّكر؛ لأنَّ لفظَ: ((الحيَّة)) يقعُ على الذَّكرِ والأنثَى، وليسَتْ التاء فيه للتَّأنيثِ بل للوَحدةِ كتاء تمرةٍ ودجَاجةٍ، وقد رُوي عن العربِ: رأيتُ حيًّا على حيَّةٍ؛ أي: ذكراً على أنثَى.
          قال الدَّميريُّ: والنِّسبةُ إلى حيَّةٍ حَيَوي، والحيوت: ذَكَرُ الحيَّاتِ، وأنشدَ الأصمعيُّ:
وتأكُلُ الحيَّةَ والحيُّوتا                     وتختَنِقُ العَجُوزَ أو تَمُوتَا
          وقال في ((الفتح)): وقيل: الثُّعبانُ الكبيرُ من الحيَّاتِ ذكراً كانَ أو أنثى.
          وقال البيضَاويُّ في تفسيرِ الآيةِ: ظاهرُ أمرِهِ لا شكَّ في أنَّه ثعبانٌ، وهي الحيَّةُ العَظِيمةُ رُوي أنها لما ألقَاها صارَتْ ثعبَاناً أشعرَ فاغِراً فاهُ بينَ لحييهِ ثمانونَ ذراعاً، وضعَ لحيَهُ الأسفلَ على الأرضِ، والأعلى على سورِ القصْرِ ثمَّ توجَّهَ نحو فرعونَ فوثَبَ من سَريرِهِ فهرَبَ منه وأحدَثَ وانهزَمَ الناسُ فماتَ منهم خمسةٌ وعشرونَ ألفاً، وصاحَ فرعونُ: يا موسَى أنشدُكَ بالَّذي أرسلكَ خذْهُ وأنا أؤمنُ بكَ وأرسلُ معك بني إسرائيلَ، فأخذَ فعادَ عصا.
          وقال في ((الفتح)): قيل: صارتِ العصَا في أوَّلِ الحالِ جانًّا _وهي الحيَّة الصَّغيرةُ_،ثمَّ صَارتْ ثعبَاناً، فحينئذٍ ألقَى العصَاة، وقيل: اختلفَ وصفُها باختلَافِ أحوَالها، وكانَتْ كالحيَّةِ في سعيهَا، وكالجانِّ في حركتها، وكالثُّعبانِ في ابتلاعِهَا.
          وقوله: (يُقَالُ: الْحَيَّاتُ أَجْنَاسٌ الْجَانُّ وَالأَفَاعِي وَالأَسَاوِدُ) من كلامِ البُخاريِّ، ((الحَيَّات)) بفتحِ الحاءِ المهملةِ وتشديدِ التَّحتيَّة فألف فتاءٌ، وللأصيليِّ: <الجِنَّان> بكسرِ الجيمِ وتشديدِ النونِ.
          قال عياضٌ: والصَّوابُ الأوَّل، وهو جمع: جانٍّ يكونُ في البيوتِ.
          وقوله: ((الجانُّ)) بجيمٍ فألف فنونٌ مشدَّدة، وما عطفَ عليه تفصيلٌ لـ((أجناس)) الواقعُ خبر: ((الحيَّات)).
          قال ابنُ الأثيرِ: الجانُّ: الدَّقيقُ الخفيفُ من الحيَّاتِ، والجانُّ: الشَّيطان أيضاً.
          و((الأفاعي)): جمع: أفعَى، وهي الأنثَى من الحيَّاتِ، والذكرُ منه أُفعوَان: بضمِّ الهمزة، وأهلُ الحجازِ تقولُ: أَفعو، وجاءَ في حديثِ ابنِ عبَّاس: لا بأسَ بقتلِ الأفعو، أرادَ: الأفعَى، وقلب ألفها واواً في الوقفِ، ومنهم من يقلبُ ألفَها ياءً / في الوقفِ وبعضُهم يشدِّدُ الواو والياءَ، وهمزتُه زائدةٌ وكنيةُ الأفعى: أبو حيَّان وأبو يحيى؛ لأنَّهُ يعيشُ ألفَ سنةٍ، وهو الشُّجاعُ الأسودُ الذي يواثبُ الإنسانَ ومن صفَةِ الأفعَى إذا فُقِئَتْ عينُهُ عادتْ، ولا يغمضُ حدقتَهُ البتَّةَ.
          و((الأساود)): بفتحِ الهمزةِ، جمع: أسود، قال أبو عُبيد: هي حيةٌ عظيمَةٌ فيها سوادٌ، وهي أخبثُ الحيَّاتِ، ويقال له: أسودُ سَالخٌ؛ لأنه يسلخُ جلدَه كلَّ عامٍ، وفي ((سنن أبي داود))، والنسائيِّ: عن ابنِ عُمر مرفوعاً: ((أعوذُ باللهِ من أَسدٍ وأسودٍ)).
          وقيل: هي حيَّةٌ رقشَاءُ دقيقة العنقِ عَرِيضةُ الرأسِ، وربما كانت ذاتَ قرنينِ، ومن غَريبِ أمرِهَا أنَّها إذا لم تجدْ طعَاماً عاشَتْ بالنَّسيمِ وتقتَاتُ به الزمن الطَّويل، وإذا كبُرَتْ صَغُرَ جُرْمُها ولا ترِدُ الماء ولا تريدُهُ إلا أنَّها لا تملكُ نفْسَها عن الشَّرابِ إذا شمَّتْهُ لما في طبعِهَا من الشَّوقِ إليه، فهي إذا وجدَتْهُ شربَتْ منه حتى تسكرَ، وربما كان السُّكرُ سببُ هلاكها وتهربُ من الرجلِ العريانِ وتفرحُ بالنَّارِ وتطلبها طلباً شديداً وتحبُّ اللَّبنَ حُبًّا شَديداً.
          وذكرَ للحيَّةِ ابنُ خالويهِ نحو سبعين اسماً منها: الشَّجاع، الأرقم، الأسود، الأفعى، الأبتر، الأعيرج، الأصلة، الصَّل، الجان، الجنان، الجرارة، الرُّتيلاء.
          وذكرَ الجاحظُ أيضاً من أنواعِها: المكللةُ الرَّأسِ طولها شبران أو ثلاثةٌ إن حاذَى جحرها طائرٌ سقطَ ولا يحسُّ بها حيوانٌ إلَّا هربَ، فإن قربَ منها خدرَ ولم يتحرَّكْ ويُقتلُ بصَفِيرها، ومَن وقعَ عليه نظرُها مات، ومن نهشتْهُ ذابَ في الحالِ، وماتَ كلُّ من قربَ من ذلكِ الحيوانِ فإن مسَّها بعصا هلك بواسطةِ العصا، وقيل: إنَّ رجلاً طعنها برمحٍ فمات هو ودابتُهُ في ساعةٍ واحدةٍ، قال: وهذا الجنسُ كثير ببلادِ التُّركِ.
          وقال الدميريُّ في ((حياة الحيوان)): ذكرَ لها ابنُ خالويه مائة اسم فمنها غير ما تقدم: العين والعيم والأين والأزَب والأزعَر والنَّاسر والعربد والأرقش، وذكرَ لها كُنى منها: أبو البحترِي وأبو الرَّبيع وأبو عثمان وأبو العاصِي وأبو مذعُور وأبو وثَّاب وأبو يقظَان، وأم طبقٍ وبنت طبقٍ وأم عافية وأم عثمان وأم الفتح.
          وذكرَ أنَّ العربدَ حيَّةٌ عظيمةٌ تأكل الحيَّاتِ، وقال فيها: من الحيَّاتِ نوعٌ يسمَّى النَّاظر متى وقعَ نظرُهُ على إنسانٍ ماتَ الإنسانُ من سَاعتِهِ، ومنها نوعٌ آخرُ إذا سمعَ الإنسانُ صوتَهُ مات، ومنها الأصلة: هي عظيمةٌ جدًّا ولها وجهٌ كوجْهِ الإنسَانِ، ويقال: إنه يصيرُ كذلك إذا مرَّت عليه أُلوفٌ من السِّنين، قال: ومن خاصَّةِ هذه أنه يقتلُ بالنظرِ أيضاً، وقال: في الصَّل وتسمَّى المكلَّلةُ؛ لأنها مكلَّلةُ الرأسِ وهي شديدةُ الضَّرر تحرقُ كلَّ ما مرَّتْ عليه ولا ينبتُ حولَ جُحرِها شيءٌ من الزَّرعِ أصلاً وإذا حاذى مسكنَها طائرٌ سقطَ، ولا يمرُّ حيوان بقرْبهَا إلا هلكَ ويقتلُ بصَفِيرها على غَلوة سَهمٍ ومن وقعَ بصرُها عليه ولو من بُعْدٍ مات ومن نهشتْهُ ماتَ في الحالِ، وضرَبَها فارسٌ برمحِهِ فماتَ هو وفرسُهُ، قال: وهي كثيرةٌ ببلادِ التُّركِ وأطالَ من ذلك.
          ({آخذٌ بِنَاصِيَتِهَا} فِي مُلْكِهِ وَسُلْطَانِهِ) أشارَ به إلى تفسيرِ {ما} في قولهِ تعالى في سورة هود: {إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آَخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا} [هود:56] وخصَّ النَّاصيةَ بالذِّكرِ على عادةِ العربِ في ذلك تقول: ناصيةُ فلانٍ في يد فلانٍ إذا كانَ في طاعتِهِ، ومن ثمَّ كانوا يجزُّونَ ناصيةَ الأسير إذا أطلقُوه.
          وقال البيضَاويُّ: أي: إلَّا وهو مالكٌ لها قادرٌ عليها يصْرِفُها على ما يريدُ بها، والأخذُ بالنَّواصِي تمثيلٌ لذلك.
          وقوله: ((في مُلكه)) بضمِّ الميم، وفي ((اليونينيَّة)): بكسرِها.
          (يُقَالُ {صَافَّاتٍ} بُسُطٌ أَجْنِحَتَهُنَّ) يريدُ تفسيرَ: {صَافَّاتٍ} من قولهِ تعَالى في سورة الملك: {أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ} [الملك:19] وهو مرويٌّ عن مجاهدٍ، و((بُسُطٌ)) بضمِّ الموحَّدة والسِّين المهملةِ، وتسكنُ السِّين وتنوينه خبرٌ لمحذوفٍ؛ أي: معنى {صَافَّاتٍ} بُسُط؛ أي: مبسُوطةٌ، فـ((أجنحتهن)) نائب فاعلٍ / مرفُوعٍ، كما رأيتُهُ في أصُولٍ، ويجوزُ رفعُ ((بسط)) على أنَّه خبرٌ مقدَّم.
          وقال القسطلَّانيُّ: بنصبِ التاء معَ ضبطِ: ((بسط)) بما تقدَّمَ وهو غيرُ ظاهرٍ إنْ جعلَ بمعنى: مبسوطٍ، فإن جُعِلَ معنى باسطة اتَّجَهَ، فتدبَّر.
          نعم يظهرُ نصبُ ((أجنحتهنَّ)) لو قرئ: ((بَسَطَ)) ماضياً مبنيًّا للفاعلِ كما رأيتُهُ في بعض الأصُولِ؛ أي: بسطَ اللهُ أجنحَتَهنَّ، فافهم.
          ({يَقْبِضْنَ}: يَضْرِبْنَ بِأَجْنِحَتِهِنَّ) {يَقْبِضْنَ} عقبَ {صَافَّاتٍ} معطوفٌ عليه؛ لأنَّه في معنى الفعلِ، كما قالَ ابن مالكٍ ☼:
واعْطِفْ على اسْمٍ شبْهِ فِعْلٍ فِعْلَا                     وَعَكْساً اسْتَعْمِلْ تَجِدْهُ سَهْلَا
          وتفسير {يَقْبِضْنَ} بـ((يضربن)) قول أبي عبيدةَ، والمرادُ أنهنَّ يضرِبْنَ بأجنحتهنَّ بعدَ بسطِها حالَ الطيرانِ.
          وقال البيضَاويُّ: {صَافَّاتٍ} باسطَاتٍ أجنحتهنَّ في الجوِّ عند طيرانها، فإنهنَّ إذا بسطْنَها صففنَ قوادِمهَا ويقبضنَ ويضمنها إذا ضربنَ بها جنوبهنَّ وقتاً بعد وقتٍ للاستظهَارِ به على التَّحرُّكِ، ولذلك عدلَ به إلى صيغةِ الفعلِ للتَّفرقَةِ بين الأصلِ في الطَّيرانِ والطَّارئ، انتهى.
          وهو أظهرُ من تفسيرِ أبي عبيدةَ.
          ومطابقةُ هذا الأثرِ وما بعدهُ للتَّرجمةِ من جهةِ أنَّهُ ذكرَ أنواعاً من الحيَّاتِ والطَّيرِ وهي من أفراد الدَّابةِ.