الفيض الجاري بشرح صحيح الإمام البخاري

باب ما جاء في سبع أرضين

          ░2▒ (بابُ مَا جَاءَ): أي: بابُ بيانِ ما وردَ (فِي سَبْعِ أَرَضِينَ): أي: في وصفِها، وإضافةُ ((سبعِ)) إلى ((أرضينَ)) من إضافةِ الصِّفةِ إلى الموصُوفِ، وهي بفتحِ الرَّاء، جمعُ أرضٍ بسكونِها، وقد تُسكَّنُ الرَّاء في الجمعِ أيضاً في ضَرورةِ الشِّعر كقولهِ:
لَقَدْ ضَجَّتِ الْأَرْضُونَ إِذْ قَامَ مِنْ بَنِي                     هدَادٍ خَطِيبٌ فَوْقَ أَعْوَادِ مِنْبَرِ
          (وَقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى): بجرِّ ((قولِ)) عطفاً على محلِّ ((ما)) الموصُولة أو الموصُوفةِ، ولأبي ذرٍّ وابنِ عسَاكرَ: <سبحانه> بدلَ: ((تعالى))، وفي بعضِ الأصُولِ: <╡> بدلهما، ويجوز رفع ((وقول)) ({اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ}): برفع {اللهُ} على الابتداءِ، و{الَّذِي} نعتُه، وما بعدَهُ صلَةُ الموصُولِ، والخبرُ المحذوفُ نحوهما يتعلَّقُ بذلك.
          ({وَمِنَ الأَرْضِ}) متعلِّقٌ بمحذوف حال من قولهِ: ({مِثْلَهُنَّ}) المنصوب بالعطفِ على {سَبْعَ} الواقعِ مفعول {خَلَقَ}، قال في ((الكشَّاف)): قُرئ: {مِثْلَهُنَّ} بالنَّصبِ عطفاً على {سَبْعَ سَمَوَاتٍ} وبالرَّفعِ على الابتداءِ وخبره {مِنَ الْأَرْضِ}، انتهى، وقال البيضاويُّ: {يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ} (الآَيَةَ): كذا في بعضِ النُّسَخ؛ أي: اقرأَ بقيَّة الآيةِ، وهي في آخرِ سورةِ الطَّلاقِ، وفي أكثرِ الأصُولِ ذكَرَ الآيةَ إلى آخرِهَا.
          وضمير {مِثْلَهُنَّ} راجعٌ إلى {سَبْعِ سَمَوَاتٍ}، ففيه كما قال الدَّاوديُّ وغيره دلالةٌ على أنَّ الأرضين سبعٌ في العددِ كالسَّماوات، حتَّى قال في ((الكشاف)): قيل: ما في القرآنِ آيةٌ تدلُّ على أنَّ الأرضين سبعٌ إلَّا هذهِ الآية، وفي الآيةِ دلالةٌ على أنَّ بعضَها فوق بعضٍ كالسَّماوات، بل قد يقال: إنَّها تدلُّ على أنَّها قبابٌ، ونقلَ عن بعض المتكلِّمين أنَّ المثليَّة في العددِ خاصَّة، وأنَّ السَّبع متجَاورةٌ، وقال ابن كثيرٍ: ومَن حملَ ذلك على سبعِ أقاليم فقد أبعدَ النُّجعَةَ وخالفَ القرآنَ، وحكى ابنُ التِّين عن بعضهم: أنَّ الأرضَ واحدةٌ، قال وهو مَرْدودٌ بالكتَابِ والسُّنَّة، لكن قال في ((الفتح)): لعلَّه القولَ بالتَّجاورِ، وإلَّا فيصيرُ صريحاً في المخالفَةِ، قال: ويدلُّ للقولِ الظَّاهر ما رواه ابنُ جريرٍ عن أبي الضُّحى؛ أي: عن ابن عبَّاسٍ مطوَّلاً وأوَّله: أي سبعِ أرضين، في كلِّ أرضٍ آدم كآدمكُم ونوحٌ كنوحكُم وإبراهيمُ كإبراهيمكُم وعيسى كعيسَى ونبيٌّ كنبيِّكم. قال البيهقيُّ: إسناده صحيحٌ إلَّا أنه شاذٌّ بمرَّة ولا أعلمُ لأبي الضُّحى عليه متابعاً.
          وروى ابنُ أبي حاتمٍ من طريق لمجاهدٍ عن ابن عبَّاس / قال: لو حدَّثتكُم بتفسيرِ هذه الآيةِ لكفرتُم، وكفركُمْ تكذيبُكُم بها، ومن طريقِ سعيدِ بنِ جُبيرٍ عن ابن عبَّاس نحوهُ وزادَ: وهنَّ مكتُوباتٌ هكذا بعضهنَّ على بعضٍ، قال البيهقيُّ: قال في ((البداية)): وهذا محمول _إن صحَّ نقْلُه_ على أن ابن عبَّاس أخذه من الإسرائيليَّات، انتهى.
          وعلى تقديرِ ثبوتهِ يحتملُ أن يكونَ المعنى هنا أنَّ مَن يقتدِي به مُسمًّى بهذه الأسماء، وهُم رسلُ الرُّسلِ الذين يبلِّغون الجنَّ عن أنبياءِ اللهِ، ويُسمَّى كلٌّ منهم باسمِ النَّبيِّ الذي يُبلِّغُ عنه، وقال الإمامُ أحمد: حدَّثنا شريحٌ: حدَّثنا الحكمُ بنُ عبدِ الملكِ، عن قتادَةَ، عن الحسَنِ، عن أبي هُريرة قال: بينمَا نحن عندَ رسولِ الله صلعم إذ مرَّتْ سحابةٌ، فقال: ((أتدرونَ ما هذه؟)) قال: قلنَا: اللهُ ورسولُه أعلمُ، قال: ((العنانُ وروايَا الأرضِ...)) الحديث، وفيه: ثمَّ قال: ((أتدرونَ ما هذِهِ تحتَكُم؟)) قلنا: اللهُ ورسولُه أعلمُ، قال: ((أرضٌ، أتدرونَ ما تحتَهَا؟)) قلنا: اللهُ ورسُولهُ أعلمُ، قال: ((أرضٌ أخرى، أتدرون كم بينهما؟)) قلنا: الله ورسوله أعلم، قال: ((مسيرة خمسمائة عامٍ حتَّى عدَّ سبع أرضين)) ورواه الترمذيُّ عن عبدِ اللهِ بن حُميدٍ وغير واحدٍ عن يونسَ بن محمَّد المؤدِّب عن شيبانَ بنِ عبدِ الرَّحمنِ عن قتادَةَ قال: حدَّثنا الحسنُ عن أبي هُريرة، وذكرَهُ إلَّا أنَّه ذكرَ أنَّ بُعد ما بين كلِّ أرضٍ خمسمائة عامٍ، ثمَّ قال: هذا حديثٌ غريبٌ من هذا الوجْهِ، ويروى عن أيُّوبَ ويونسَ بن عُبيدٍ وعليِّ بن زيدٍ أنَّهم قالوا: لم يسمَعْ الحسنُ من أبي هُريرةَ، ورواه البزَّار والبيهقيُّ من حديث أبي ذرٍّ الغفاريِّ عن النبيِّ صلعم بنحوه، قال في ((الهداية)): ولا يصحُّ إسنادُهُ، انتهى.
          وورد في آثارٍ كثيرةٍ تسمية الأراضي السَّبع والسَّماوات السَّبع بأسماءٍ مخصوصةٍ، وبيان مَن يسكنها من ملائكة وجنٍّ ورياح، فممَّا قيل فيهما ما ذكره الشَّيخ أحمد البشبيشيُّ في كتاب ((التُّحفة السَّنية)) عن أبي الشَّيخ عن مجاهدٍ في قوله تعالى: {كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا} [الأنبياء:30]، قال: من الأرضين ستٌّ فتلك سبعٌ، ومن السَّماوات ستٌّ فتلك سبعٌ، قال: وأخرجَ إياسُ بنُ معَاويةَ قال: السَّماءُ مقبيَّةٌ على الأرضِ مثلُ القبَّة، وأخرَجَ ابنُ راهويهِ والطَّبرانيُّ في ((الأوسط)) وأبو الشَّيخِ وغيرُهم عن الرَّبيع بن أنسٍ قال: السَّماءُ الدُّنيا موجٌ مكفُوفٌ، والثَّانية مرمرةٌ بيضَاءُ، والثَّالثةُ حديدٌ، والرابعةُ نحاسٌ، والخامسةُ فضَّة، والسَّادسةُ ذهبٌ، والسَّابعةُ ياقوتةٌ حمراءُ.
          زادَ ابنُ أبي حاتمٍ: وما فوقَ ذلك صحراءٌ من نورٍ، وما يعلمُ ما فوقَ ذلك إلَّا الله تعالى، وملَكٌ موكَّلٌ بالحجبِ يقال له: شيطاطروس، وأخرجَ ابنُ أبي حاتمٍ والحاكمُ عن عبدِ الله بن عَمرٍو قال: قال رسولُ الله صلعم: إنَّ الأرضين بين كلِّ أرضٍ والتي تليهَا مسيرةُ خمسمائة سنةٍ، والعُليا على ظهرِ حوتٍ قد التقَى طرفاهُ في السَّماء، والحوتُ على صخرةٍ، والصَّخرةُ بيدِ الملك، والثَّانية شجنٌ الرِّيح، والثَّالثة فيها حجارة جهنَّم، والرَّابعة فيها كبريتُ جهنَّم، والخامسَةُ فيها حيَّات جهنَّمَ، والسَّادسةُ فيها عقاربُ جهنَّم، والسَّابعة فيها سقرُ وفيها إبليسُ مصفَّدٌ بالحديدِ يدٌ أمامَهُ ويدٌ خلفَهُ، فإذا أرادَ اللهُ تعالى أن يطلقَهُ لمَّا يشاءُ أطلقَهُ.
          وأخرج أبو الَّشيخ عن ابنِ عمرَ ☻ قال: إنَّ على الأرضِ الرَّابعة وتحتَ الأرضِ الثَّانية من الجنِّ ما لو أنَّهم ظهرُوا لكم لم تروا معهم نورَ الشَّمسِ، على كلِّ زاويةٍ منها خاتمٌ من خواتمِ تعالى، على كلِّ خاتمٍ ملكٌ من الملائكةِ، يبعثُ اللهُ تعالى إليه كلَّ يومٍ من عنده: أن احفظْ ما عندَكَ.
          وأخرجَ ابنُ أبي حاتمٍ عن كعبٍ أنَّه سئلَ ما تحتَ هذه الأرضِ، قال: الماءُ، قيل: وما تحتَ الماءِ؟ قال: الأرضُ، قيل له: وما تحتَ الأرضِ؟ قال: الماءُ، قيلَ له: وما تحتَ الماءِ؟ قال: الأرضُ، قيلَ له: وما تحتَ الأرضِ؟ قال: الماءُ، قيلَ له: وما تحتَ الماءِ؟ قال: الأرضُ، قيلَ له: وما تحتَ الأرضِ؟ قال: الماءُ، قيل له: وما تحتَ الماءِ، قال: الأرضُ، قيلَ له: وما تحتَ الأرضِ؟ قال: الماءُ، قيلَ له: وما تحتَ الماءِ؟ قال: الأرضُ، قيلَ له: وما تحتَ الأرضِ، قال: صخرةٌ، قيل له: وما تحتَ الصَّخرةِ؟ قال: ملكٌ، قيل: وما تحتَ الملكِ؟ قال: حوتٌ معلَّق طرفَاهُ بالعرشِ، قيل له: / وما تحتَ الحوتِ، قال: الهواءُ والظُّلمةُ، وانقطعَ العلمُ عندَ ذلك.
          وقال في ((قصد السَّبيل)) لشيخِ مشَايخنا الكورانيِّ: قال بعضُ أهل الكشْفِ: إنَّ سكَّانَ الطبقَةِ الثَّانية من الأرضِ مؤمنو الجنِّ، وسكَّان الثَّالثةِ مشركو الجنِّ ليس فيها مؤمنٌ، وسكَّان الرَّابعة الشَّياطين من أنواعٍ كثيرةٍ، وسكَّان الخامسةِ عفَاريتُ الجنِّ والشَّياطين وهم رجلُ إبليس، وسكَّان السَّادسةِ المرَدَةُ الذين لا يتحكَّمون لأحدٍ من عبادِ اللهِ وهم خيلُ إبليس، وسكَّان السَّابعة الحيَّات والعقاربُ كأمثَالِ الجبَالِ وأعنَاقِ البُخْتِ وبعضِ زبانيةِ جهنَّم وهي محفَلُ إبليس، انتهى.
          وقد أشبعَ الكلامَ على السَّماوات والأرضين الشيخُ أحمد البَشبِيشيُّ في رسالتِهِ التي ذكرْنَا، وكذا الحافظُ السُّيوطيُّ في كتابه ((الهيئة السَّنيَّة)) فراجعْهَا، وحكى صاحبُ ((مناهِجِ الفكرِ)) عن أصحاب الآثارِ ممَّا نقلَهُ عن أهلِ الكتَابِ: أنَّ اللهَ تعالى لمَّا أرادَ أنْ يخلقَ المكانينِ خلقَ جَوهرةً ذكروا من طُولها وعرضِهَا ما لا تعجزُ القدرةُ عن إيجادِهِ، ولا يسمعُ لموحِّده إلَّا التمسُّك بعرَى اعتقَادِهِ، ثمَّ نظرَ إليها نظرةَ هيبةٍ فانمَاعَتْ، وعلَا عليها من شدَّة الخوفِ زبدٌ ودخانٌ فخلقَ من الزَّبدِ الأرضَ، ومن الدُّخانِ السَّماء، ثم فتقَهَا سبْعاً بعدَ أنْ كانَتْ رَتْقاً، وفسَّروا بهذا قولَهُ تعالى: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ} [فصلت:11].
          واختلفَ أهلُ الآثارِ والقدمَاء في اللَّونِ المرئيِّ للسَّماءِ هل هو أصْليٌّ أو عرَضيٌّ، فذهبَ الآثاريُّون إلى أنَّه أصليٌّ؛ لحديثِ: ((ما أظلَّتْ الخَضْراءُ ولا أقلَّتْ الغَبرَاء))، وزعمَ رواةُ الأخبَارِ أنَّ الأرضَ على ماءٍ، والماءُ على صَخْرةٍ، والصَّخرة على سنامِ ثورٍ، والثَّور على كمكمٍ، والكمكم على ظهرِ حوتٍ، والحوتُ على الرِّيحِ، والرِّيحُ لى حجَابِ ظُلمةٍ، والظُّلمةُ على الثَّرى، وإلى الثَّرى انتهى علمُ الخلائقِ.
          وحكى ابنُ عبد البرِّ في كتاب ((القصد والأمم إلى معرفة أنسابِ الأمم)) أنَّ مقدارَ المعمُورِ من الأرضِ مائةٌ وعشرون سنةً، تسعونَ ليأجُوجَ ومأجُوجَ، واثني عشرَ للسُّودانِ، وثمانيةٌ للرُّومِ، وثلاثةٌ للعربِ، وسبعةٌ لسَائرِ الأمَمِ، انتهى.
          وقد خلقَ اللهُ تعالى الأرضَ قبل السَّماء كمَا قال تعالى {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ} [البقرة:29] وقال تعالى: {أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ} [فصلت:9]، ثم قال {وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ} [فصلت:10] أي: تتمَّة أربعة أيَّام، كقولك: سرتُ من البصرة إلى بغداد وإلى الكوفة في خمس عشرة، {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ}؛ أي: قصد نحوها {وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ. فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ} [فصلت:11-12].
          وأمَّا قوله: {أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا. رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا. وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا. وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا} [النازعات:27-30] فأُجيبَ عنه: بأنَّ الدَّحِي غيرُ الخلقِ، وهذا بعدَ خلقِ السَّماء، وعندَ الإمامِ أحمدَ عن أبي هريرةَ قالَ: أخذَ رسولُ الله صلعم بيدي فقال: ((خلقَ اللهُ التُّربةَ يوم السَّبتِ، وخلقَ الجبالَ فيها يومَ الأحدِ، وخلقَ الشَّجرَ فيها يومَ الإثنين، وخلقَ المكروهَ يوم الثُّلاثاءِ، وخلقَ النُّورَ يومَ الأربعَاءِ، وبثَّ الدَّوابَّ فيها يومَ الخميسِ، وخلقَ آدمَ بعد العصرِ يومَ الجمعَةِ آخر الخلقِ في آخرِ ساعةٍ من ساعَاتِ الجمعَةِ فيها بين العصرِ إلى اللَّيلِ)) وهكذا رواهُ مسلمٌ لكن اختلِفَ فيه على ابن جُريج.
          وقد تُكلِّمَ فيه فقال البخاريُّ في ((تاريخه)): وقال بعضُهم عن كعب الأحبار وهو أصحُّ؛ يعني: أنه ممَّا سمعَه أبو هريرة وتلقَّاه عن كعبٍ، فوهمَ بعضُ الرُّواة فجعله مرفوعاً.
          وفي متنه غرابةٌ شديدةٌ فمن ذلك: أنَّه ليس فيه ذكر خلْقِ السَّماوات، وفيه ذكر خلْقِ الأرضِ وما / فيها في سبعة، وهذا خلافُ القرآن أنَّ الأرض خُلقَتْ في أربعة أيام، ثم خُلقَتْ السَّماوات في يومين.
          قال في ((الفتح)): ظاهرُ قولِهِ تعالى: {وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ} [الطلاق:12] يرد على أهلِ الهيئة قولهم: لا مسافة بين كلِّ أرضٍ وأرضٍ، وإن كانتْ فوقها وأنَّ السَّابعة صمَّاء لا جوفَ لها وفي وسطِهَا المركز وهي نقطةٌ مقدَّرةٌ متوهمةٌ إلى غيرِ ذلك من أقوالهم التي لا بُرهان عليها، وقد روى أحمدُ والتِّرمذيُّ من حديث أبي هُريرة مرفوعاً: ((أنَّ بين كلِّ سماء وسماء خمسمائة عامٍ، وأنَّ سُمك كلِّ سماءٍ كذلك، وأنَّ بين كلِّ أرض وأرض خمسمائة عامٍ)) ولأبي داود والتِّرمذيِّ من حديث العبَّاس بن عبد المطَّلب مرفوعاً: ((بين كلِّ سماءٍ وسماءٍ إحدى أو اثنان وسبعون سنة)) قال: وجُمع بين الحديثين بأنَّ اختلافَ المسَافة بينهما باعتبارِ بُطء السَّير وسُرعتِهِ، انتهى.
          وقال في ((الكَشَّاف)): وعن قتادةَ: في كلِّ سماءٍ وفي كلِّ أرضٍ خلقٌ من خلقِهِ وأمْرٌ من أمرِهِ وقضاءٌ من قضَائِهِ، وقيل: هو ما يُدبِّر فيهنَّ من عجَائبِ تدبيره، انتهى.
          وقال العينيُّ: في ((تفسير النَّسفيِّ)) قيل: المراد بقوله: ((سبعُ أرضين)) الأقاليم السَّبعة والدَّعوة شامِلَةِ جميعها، وقيل: إنها سبعُ أرضين متَّصِلةٌ بعضُها ببعضٍ، والحائلُ بين كلِّ أرضٍ وأرضٍ بحارٌ لا يمكن قطعها ولا الوصُولِ إلى الأرضِ الأخرى، ولا تصلُ الدَّعوة إليهم.
          والأكثرونَ على أنَّ الأراضِي السَّبع بعضها فوق بعضٍ غير متَّصلةٍ، فقد روى أحمدُ عن: ((أنَّ بين الأرضِ والتي تليها خمسمائةِ عامٍ)).
          واختُلفَ هل أهلُ هذه الأرضين يُشاهدونَ السَّماء ويستمدُّون الضَّوء؟
          فقيل: يشاهدُونها من كلِّ جانبٍ من أرضِهِم ويستمدُّون الضَّوء منها، وهذا قولُ من جعلَ الأرضَ مبسُوطةً.
          وقيل: لا، وإنَّما خَلَقَ اللهُ تعالى لهم ضياءً يشاهدُونَهُ، وهذا قولُ من جعلَ الأرضَ كرةً.
          (يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ) أي: بين السَّماوات والأرضين بالوحِي من السَّماء السَّابعةِ إلى الأرض حتى السُّفلى.
          وقال في ((الكَشَّاف)): أي: يَجرِي أمرُ اللهِ وحكمتُهُ بينهنَّ وملكه ينفذُ فيهنَّ، وقُرئ: ▬ينزِّل الأمر↨ بكسرِ الزاي مشددة، وعن ابن عبَّاس: أنَّ نافعَ بن الأزرقِ سألَهُ هل تحتَ الأرضين خلق؟ قال: نعم. قال: فما الخلقُ؟ قال: إمَّا ملائكةً وإمَّا جنًّ.
          ({لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}) قُرئ: {لِتَعْلَمُوا} بالفوقية والتحتيَّة وهو علةٌ لقوله: {خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ} أو لـ{يَتَنَزَّلُ} أو لمضمر يعمُّهما، قاله البيضَاويُّ، وهو يدلُّ على كمَالِ قُدرتهِ وعلمهِ ({وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا}) تمييز محوَّل عن الفاعلِ، وقد ذكر المصنِّفُ تفسيرَ كلماتٍ قرآنيةٍ تناسِبُ المقامَ على عادتِهِ الغَالبةِ، فقال على سبيلِ التَّعداد: ({وَالسَّقْفِ}) بالجرِّ، بالعطفِ على {الطُّورَ} في صدرِ السُّورة، أو بواو القسم لكنَّه في محلِّ رفع على أنَّهُ مبتدأ.
          وقال الكرمانيُّ: {وَالسَّقْفِ} بالرفع والجرِّ حكايةً عمَّا في سورةِ الطُّورِ.
          ({المَرْفُوعِ}) نعتُ: {السَّقْفِ} (السَّمَاءُ) بالمد خبر {وَالسَّقْفِ} هذا تفسيرُ مجاهدٍ، كما أخرجَه عبدُ بن حُميد وابنُ أبي حاتِم وغيرهما، واختارهُ ابنُ جرير، واستدلَّ له سفيان بقوله تعالى: {وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفاً مَحْفُوظاً} [الأنبياء:32] يعني: أنَّه سقفٌ لجميعِ المخلوقات، وقال الرَّبيع بن أنسٍ: هو العرشُ.
          قال في ((الفتح)): والأوَّل أكثر، قال: وهو يقتَضِي الرَّدَّ على من قال: إنَّ السماءَ كُرِّيَّةٌ؛ لأنَّ السَّقف في لغةِ العربِ لا يكون كُرِيًّا.
          ({سَمْكَهَا}) بفتحِ السِّين المهملةِ، أرادَ به في قوله تعالى في النَّازِعات: {رَفَعَ سَمْكَهَا} (بِنَاءَهَا) بكسرِ الموحَّدة والمدِّ، مصدران مبتدأ وخبر لكنَّ الأول مفتوحٌ على الحكايةِ أو مرفوعٌ، وهذا تفسيرُ ابن / عباسٍ كما أخرجَه ابنُ أبي حاتم من طريقِ علي بن أبي طلحةَ عنه، ومن طريقِ ابنِ أبي نجيح عن مجاهدٍ مثله، وزاد: ((بغير عَمَد)) قال القسطلَّاني: وزاد في رواية غير أبي ذرٍّ وابن عساكر: <كانَ فيها حيوان> انتهى.
          ولعل المراد بالحيوانِ الذي فيها إمَّا جنٌّ أو غيرهم من غيرِ الملائكةِ؛ لأنَّهم لا يوصَفُون بالحيوانيَّةِ خلافاً لإمام الحَرَمين.
          وقال في ((الكَشَّاف)): {رَفَعَ سَمْكَهَا} أي: جعلَ مقدارَ ذهابِها في سمتِ العلو مديداً رفيعاً مسيرةَ خمسمائة عام.
          ({الحُبُكُ}) بضمتين، جمع: حَبيكَةٍ كطُرُق وطَريقَةٍ، وزناً ومعنى، وقيل: واحدها حِبَاك كمِثال ومُثُل، ولأبي ذرٍّ وابن عساكر: <و{الحُبُكُ}> يريد قوله تعالى في سورة الذَّاريات: {وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْحُبُكِ} (اسْتِوَاؤُهَا وَحُسْنُهَا) هذا تفسير ابن عبَّاسٍ، كما أخرجه ابنُ أبي حاتم عنه.
          وعن ابن عباس أيضاً كما نقله ابنُ كثير: من حُسنِها أنَّها مرتفعةٌ شفافةٌ صفيقةٌ شديدةُ البناءِ متسعةُ الأرجاءِ أنيقةُ البهاءِ مكللةٌ بالنُّجوم الثَّوابتِ والسيَّاراتِ، موشحةٌ بالشَّمسِ والقمرِ والكواكبِ الزَّاهراتِ.
          وعن الحسن البَصرِي: حبكَتْ بالنَّجومِ، وقيل: الحُبُك الطُّرق التي تُرى في السَّماءِ من آثار الغيمِ، وعند الطَّبريِّ عن عبد الله بن عَمرو: أن المراد بالسَّماءِ هنا السَّابعة.
          ({وَأَذِنَتْ}) يشيرُ إلى قوله تعالى في سورةِ الانشقاقِ: {إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ. وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ} [الإنشقاق:1-2] قال ابن عبَّاس في تفسيرها {أَذِنَتْ} (سَمِعَتْ) رواه عنه الضَّحَّاك (وَأَطَاعَتْ) رواه عنه سعيد بن جبير ({وَأَلْقَتْ} أَخْرَجَتْ) أي: الأرض ({مَا فِيهَا} مِنَ المَوْتَى {وَتَخَلَّتْ} عَنْهُمْ) أي: الموتى وسقط لفظ: <عَنهُم> من بعضِ الأصُولِ هذا تفسير مُجاهد.
          وقال سعيدُ بن جُبير: {أَلْقَتْ} ما استودَعَها اللهُ من عبادِهِ {وَتَخَلَّتْ} عنهم إليه.
          وقال البيضَاويُّ: {وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا} أي: ما في جوفِها من الكُنوزِ والأمواتِ.
          ({طَحَاهَا} دَحَاهَا) هذا في سورة: {وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا} أي: بَسَطَها هذا تفسيرُ مجاهد، والمعنى: بسطها يميناً وشمالاً من كلُّ جانبٍ.
          (السَّاهِرَةُ) ولأبي ذرٍّ: <{بِالسَّاهِرَةِ}> بالموحَّدة أولِهِ هذه أيضاً في سورة النازعات (وَجْهُ الأَرْضِ) خبر ((السَّاهِرَةِ)) قال الكرمانيُّ وغيرُهُ: لعله سُمِّي بها لأنَّ نومَ الخلائق وسهرهم بها، وقال البَغَويُّ: العرب تُسمي الفلاةَ ووجهَ الأرضِ: ساهرةً.
          (كَانَ فِيهَا) أي: الأرض (الحَيَوَانُ نَوْمُهُمْ وَسَهَرُهُمْ) بالرفع بدلُ اشتمالٍ من الحيوانِ، قال شيخُ الإسلام: فيه تغليبُ العُقلاءِ على غيرِهِم، هذا تفسيرُ عكرمة.
          قال في ((الفتح)): المرادُ بـ((الأرضِ)): أرضُ القيامةِ، وقال مجاهدٌ: كانوا بأسفلها فأُخرجوا إلى أعلاها، وقال سهلُ بن سعدٍ السَّاعدِيِّ: هي أرضٌ بيضاءُ عفراءُ كالحبرةِ، وقال الرَّبيعُ بن أنسٍ: {فَإِذَا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ} يقول الله تعالى: {يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ} [إبراهيم:48] فهي لا تعدُّ من هذه الأرض وهي أرضٌ لم يُعملْ عليها خطيئةٌ، وقال النَّسفيُّ: قيل: هذه الساهرة جبلٌ عند بيتِ المقدسِ.
          وفي ((البغويِّ)): قال سفيان: هي أرضُ الشَّامِ، وقال قتادةُ: هي جهنَّمُ، وقال البيضاويُّ: {فَإِذَا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ} أي: فإذا هم أحياءٌ على وجهِ الأرضِ بعدما كانوا أمواتاً في بطنها، والسَّاهرة: الأرضُ البيضاءُ المستويةُ سمِّيت بذلك؛ لأنَّ السرابَ يجري فيها من قولهم: عينٌ ساهرةٌ، للتي يجري ماؤُها وفي ضدِّها نائمةٌ، أو لأنَّ سالِكَها يسهر تخوُّفاً.