الفيض الجاري بشرح صحيح الإمام البخاري

باب ذكر الجن وثوابهم وعقابهم

          ░12▒ (باب ذِكْرِ الْجِنِّ وَثَوَابِهِمْ وَعِقَابِهِمْ) أي: باب بيانِ وجودِهِم، وبيانِ أنهم يُثابون على فعلِ الخير والطَّاعةِ، وبيانِ أنَّهم يعاقبونَ على فعلهِمُ الشرَّ والمعاصِي، فهم موجُودونَ ومكلَّفُون كالإنسِ.
          وفيهِ ردٌّ على من أنكرَ وجودَهُم ككثيرٍ من الفَلاسفةِ والزَّنادقةِ والقَدَريَّةِ، وقد دلتْ نصُوصُ القرآن والسُّنَّةِ وإجماعُ أكثرِ الأمةِ على وجُودِهِم، وتواترَ نقلُهُ عن الأنبياءِ عليهم السَّلام تواتراً يعرفُهُ الخاص والعام.
          وأما ثوابُهُم وعقابُهُم فقد جرَى فيهما _كما قال الكرمانيُّ_ بينَ أبي حنيفةَ ومالكٍ ☻ في منَاظرةٍ في المسجدِ الحرامِ فقال أبو حنيفةَ: ثوابُهُم السَّلامةُ عن العذابِ متمسِّكاً بقوله تعالى: {يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} [الأحقاف:31] وقال مالكٌ: لهم الكرامةُ بالجنَّةِ وحكْمُ الثَّقلينِ واحدٌ قال الله تعالى: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ} [الرحمن:46] وقال: {لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلَا جَانٌّ} [الرحمن:56] ووافقَهُ الجمهورُ منهم البخاريُّ مستدلاً بقولِهِ تعالى: {يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آَيَاتِي} [الأنعام:130] الآية، وسيَأتي الكلامُ عليها.
          واعلمْ أنَّ ما ذكرَهُ المصنِّفُ في الترجمةِ ثلاثةُ أشياءٍ بينَّاها إجمالاً بما ذكرْنا، وأمَّا بسطُ الكلامِ عليها فنقولُ تبعاً لكثيرٍ من الشُّراحِ: الكلامُ عليها من وجُوهٍ:
          الوجهُ الأولُ: في وجُودِ الجنِّ ويقال: فيهم الجانُّ، وقد دلَّ عليه كما مرَّ الكتابُ والسنةُ وإجماعُ غالبِ الأمَّةِ من عصْرِ الصَّحابةِ، ومَن بعدَهُم، المتواترُ نقلُهُ عن الأنبياءِ عليهِم الصَّلاة والسَّلام فلا عبرةَ بإنكارِ الفلاسفةِ والباطنيَّةِ وغيرهِم ذلك.
          قال في ((الفتح)) ((كالعُمدة)) نقلاً عن إمامِ الحرَمين ☼ في كتابهِ ((الشامل)): إنَّ كثيراً من الفلاسفةِ وكافَّةَ الزَّنادقةِ، وجماهيرِ القدريَّةِ أنكرُوا وجودَهُم رأساً، قال: ولا يُتعجَّبُ ممَّن أنكرَهُ من غير المشرِّعين، إنما العجَبُ من المشرِّعين معَ نصُوصِ القرآنِ العظيمِ والأخبَارِ المتَواترةِ، قال: وليسَ في قضيَّةِ العقلِ ما يقدَحُ في إثباتِهِم قال: وأكثرُ ما استروَحَ إليه من نفَاهُم: حضورُهُم عند الإنسِ بحيث لا يرونَهم ولو شاؤوا لظهرُوا، قال وإنما يَستبعدُ ذلك من لم يُحِطْ علماً بعجائبِ المخلوقَاتِ.
          وقال القاضِي أبو بكرٍ: وكثيرٌ من هؤلاء يثبتُونَ وجودَهُم وينفونَهُ الآن، ومنهم من يثبتُهُ وينفِي تسلُّطَهم على الإنسِ.
          وقال أبو القاسم الأنصَاريُّ في ((شرح الإرشاد)): وقد أنكرهُم معظَمُ المعتزلةِ ودلَّ إنكارُهم إيَّاهُم على قلَّةِ مبَالاتِهِم وركَاكةِ ديانتِهِم فليسَ في إثبَاتهم ما يستحيلُ عقلاً، ومنهم من يُثبتُ وجودَهُم ويزعمُ أنَّهم لا يُرون لرقَّةِ أجسَامِهم ونفوذِ الشُّعاعِ فيها، ومنهم من قال: لا يُرون؛ لأنَّهم لا ألوانَ لهم.
          وقال ابنُ تيميةَ: لم يخالفْ أحدٌ من طوائفِ المسلمين في وجودِهِم، وكذا جمهورُ طوائفِ الكفارِ وإن وُجِدَ فيهم من يُنكرُ ذلك، فهم كمَا يوجدُ في بعضِ طوائفِ المسلمينَ كالجهميَّةِ والمعتزلةِ المنكرين ذلك، وإن كانَ جمهورُ الطوائف وأئمتُها مقرِّين بذلك، وهذا لأنَّ وجودَ / الجنِّ تواترتْ به أخبارُ الأنبياءِ عليهم الصَّلاة والسَّلام تواتراً معلوماً بالاضطرارِ، ولو كانَ إثبَاتُهم باضطرارٍ لما وقعَ الاختلافُ فيه إلَّا أنَّا قد علمْنَا بالاضطرارِ أنَّ النَّبيَّ عليه السَّلامُ كان يتديَّنُ بإثباتهم، وذلك أشهرُ من أن يُتشاغَلَ بإيرادِهِ.
          وقال عبدُ الجبارِ المعتزليُّ: الدليلُ على إثبَاتهِم السَّمعَ لا العقلَ، إذ لا طريقَ إلى إثباتِ أجسامٍ غائبةٍ؛ لأنَّ الشيءَ لا يدلُّ على غيرِهِ من غيرِ أن يكونَ بينهمَا تعلقٌ.
          الوجهُ الثَّانِي: في بيانِ ابتداءِ خلقِهم، ففي ((المبدأ)) لأبي حذيفةَ إسحاقَ بنِ بشرٍ القرشيِّ: عن عبدِ الله بن عَمرِو بن العاصِ قال: خلقَ اللهُ الجنَّ قبلَ آدمَ بألفَي سنةٍ، ويقال: عَمَرُوا الأرض ألفَي سنةٍ.
          وعن ابنِ عبَّاسٍ: كان الجنُّ سكَّانَ الأرضِ، والملائكةُ سكَّانَ السَّماءِ وهم عُمَّارَها، وقال إسحاقُ بن بشرٍ المذكور: حدَّثني جوهرُ وعثمانُ بإسنادِهمَا: أنَّ الله تعالى خلقَ الجنَّ وأمَرَهُم بعمارَةِ الأرضِ، فكانُوا يعبدُون اللهَ تعالى حتَّى طالَ بهم الأمدُ، فعصَوا اللهَ وسفَكُوا الدِّماءَ، وكان فيهم ملِكٌ يقال له: يُوسُف فقتَلوهُ، فأرسَلَ اللهُ عليهِم جنْداً من الملائكَةِ كانُوا في السَّماءِ الدُّنيا وفيهم إبليسُ وهو على أربعةِ آلافٍ فهبَطُوا فنفُوا بني الجانِّ وأجْلَوهُم عنها إلى جزَائرِ البحرِ، وسكَنَ إبليسُ والَّذين معه الأرضَ فهَانَ عليه العمَلُ والمكثُ فيها، انتهى.
          ولأجلِ ما وقعَ من هؤلاء الجنِّ من الفسَادِ قالتِ الملائكةُ لله تعالى لما قالَ لهم: {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ} [البقرة:30] قيَاساً على هؤلاءِ.
          قال في ((الفتح)): وإذا ثبتَ وجُودُهُم فقد اختُلِفَ في أصلِهِم فقيل: أصلُهُم من ولدِ إبليسَ، فمَنْ كانَ منهم كافراً سُمِّيَ شيطاناً _أي: وإلَّا فجنِّياً_ وقيل: إنَّ الشَّياطينَ خاصَّةً أولادُ إبليسَ ومن عداهُم ليسُوا من ولدِهِ.
          قال: وحديثُ ابنِ عبَّاس الآتي في تفسيرِ سورةِ الجنِّ، يقوِّي أنَّهم نوعٌ واحدٌ من أصلٍ واحدٍ واختلفَتْ صفتُهُ، فمَن كانَ كافراً سُمِّي: شيطَاناً، وإلَّا قيلَ له: جنيٌّ، انتهى.
          وفي ((ربيع الأبرار)) للزمخشريِّ: عن أبي هُريرةَ مرفُوعاً: ((إنَّ اللهَ خلقَ الخلقَ أربعةَ أصنَافٍ: الملائكةُ والشَّياطينُ والجنُّ والإنسُّ، ثمَّ جعلَ هؤلاء عشرةَ أجزاءٍ، فتسعةٌ منهم الملائكةُ، وجزءٌ واحدٌ الشَّياطين والجنُّ والإنسُ، ثمَّ جعلَ هؤلاءِ الثلاثة عشرةَ أجزاءٍ؛ فتسعةٌ منهم الجنُّ، وواحدٌ منهم الإنسُ)) قيل: فعلى هذا تكونُ نسبةُ الإنسِ من الخلقِ كنسبَةِ الواحدِ من الألفِ، ونسبَةُ الجنِّ من الخلقِ كنسبَةِ التِّسعةِ من الألفِ، ونسبةُ الشَّياطين من الخلقِ كنسبةِ التَّسعين من الألفِ، ونسبةُ الملائكةِ من الخلقِ كنسبَةِ التِّسعمائةِ من الألفِ.
          الوجهُ الثالثُ: في بيانِ خلقِهِم من أيِّ شيءٍ قالَ تعالى: {وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ} [الرحمن:15] وقال تعالى: {وَالْجَانَّ خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نَارِ السَّمُومِ} [الحجر:27] قال البيضاويُّ: {الجان}: الجنُّ، أو أبو الجنِّ وقيل: إبليسُ، والمارج: الصَّافي من الدُّخانِ، و{نَّارِ السَّمُومِ}: نارُ الحرِّ الشَّديد النافذِ في المسَامِّ.
          قال: ولا يمتنعُ خلقُ الحياةِ في الأجرامِ البسيطَةِ كما لا يمتنعُ خلقُها في الجوَاهرِ المجرَّدةِ فضلاً عن الأجسَادِ المؤلَّفةِ التي الغَالبُ فيها الجزءُ الناريُّ، فإنها أقبلُ لها من الَّتي الغالبُ فيها الجزء الأرضِي، انتهى مفرقاً.
          وقال العينيُّ: فإن قلتَ: في النارِ يبسٌ فلا يصحُّ وجُودُ الحياةِ فيها، إذ الحيَاةُ تحتَاجُ إلى رطُوبةٍ؟
          قلتُ: اللهُ قادرٌ على أن يجعلَ رطُوبةً في تلك النَّارِ بمقدارِ ما يَصِحُّ وجودُ الحياةِ فيها، معَ أنَّ أبا هاشم جوَّزَ وجُودَ الحيَاةِ معَ عدمِ التَّنفسِ، ويقول: إن أهلَ النارِ لا يتنفَّسُون، انتهى.
          وقال رسولُ الله صلعم فيما رواه مسلمٌ عن عائشةَ / رفعتْهُ: ((خُلقتِ الملائكةُ من نورٍ، وخُلِقَ الجان من مارجٍ من نارٍ، وخُلِقَ آدمُ ممَّا وصِفَ لكُم)) وقال تعالى حَاكياً عن إبليسَ غير مكذبٍ له: {خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ} [ص:76].
          واستُشكلَ ما ذكرَ بأنهم إذا كانوا من نارٍ كيف لا يُحرِقُون ما يحلُّون فيهِ من الأمَاكنِ وما تؤثرُ فيه النارُ، وبأنَّهم كيف تُحرِقُهم الشُّهبُ عند استراقِهِم السَّمعَ إذ النارُ لا تحرِقُ النارَ.
          وأجيبُ: بأنَّهُ ليسَ المرادُ أنَّ الجنَّ نارٌ حقيقةٌ بل أصلهُم منها، وهي أكثرُ أجزائِهِم كمَا أن الآدمِيَّ ليس طيناً وإن كانَ أصلُهُ منه.
          ويدلُّ لهذا أنَّه عليه السَّلام قال في الحديثِ الصَّحيحِ: ((عَرَضَ ليَ الشَّيطانُ في صَلاتِي فخنقتُهُ فوجدْتُ بردَ ريقِهِ على يدِي)) ومن هو نارٌ محرقةٌ كيف يُحَسُّ بردُ ريقِهِ؛ إذ لا ريقَ له أصلاً فضلاً عن كونهِ بارداً.
          الوجهُ الرابعُ: اختلفَ في صفتِهِم، فقال أبو يَعلى بنُ الفرَّاءِ الحنبليُّ: هم أجسامٌ مؤلفةٌ وأشخاصٌ ممثلة، يجوزُ أن تكونَ رقيقةً وأن تكونَ كثيفةً خلافاً للمعتزلةِ في قولهم: إنها رقيقةٌ، وأن امتناعَ رؤيتِنا لهم من جهةِ رقَّتِها.
          ورُدَّ عليهم بأن الرِّقَةَ ليسَتْ مانعةً عن الرُّؤيةِ، إذ يجوزُ أن يخفَى عن رؤيتِنَا بعضُ الأجسَامِ الكثيفَةِ إذا لم يخلقِ الله فينا إدراكها.
          ولذا قال القاضِي أبو بكرٍ: نحن نقولُ: إنما رآهُم من رآهُم؛ لأنَّ اللهَ خلقَ لهم الرُّؤيةَ، وأن مَن لم يخلقْ له الرؤيةَ لا يراهُم وإن كانوا أجسَاماً مؤلَّفةً وجثثاً.
          وقال القاضِي عبدُ الجبار المعتزليُّ: أجسامُ الجنِّ رقيقةٌ ولضعفِ أبصَارِنا لا نراهُم لا لعلةٍ أخرَى، فلو قوَّى اللهُ أبصَارنا أو كُثِّفتْ أجسَادُهم لرأينَاهُم، انتهى فتأمَّله.
          وأهلُ السُّنَّةِ يقولون: إنَّها يجوزُ أن تُرى وإنْ كانَتْ أجسَامُهم رقيقةً، كما مرَّ آنفاً.
          وقال الباقلَّانيُّ: لسنَا ننكرُ مع كونِ أصلِهِم النار أنَّ الله تعالى يُكثِّفُ أجسَامَهم ويغلِّظها ويخلُقُ لهم أعراضاً تزيدُ على ما في النارِ فيخرُجونَ عن كونهم ناراً، ويخلُقُ اللهُ لهم صدراً وأشكالاً مختلفةً.
          وقد روى ابنُ إسحاق في ((المبدأ)): عن ابن عبَّاسٍ قال: لما خلقَ اللهُ شوميا أبا الجنِّ وهو الذي خُلِقَ من مارجٍ من نارٍ، قال تباركَ وتعالى له: تمنَّ، قال: أتمنَّى أن نَرى ولا نُرى، وأن نغيبَ في الثَّرى، وأن يصيرَ كهلُنا شابًّا، قال: فأُعطِي ذلك، فهُم يَرون ولا يُرون وإذا ماتُوا غيِّبُوا في الثَّرى ولا يموتُ كهلُهُم حتى يعُودَ شَاباً؛ يعني: مثلَ الصَّبيِّ ثمَّ يردُّ إلى أرذلِ العُمُرِ، انتهى.
          وقد خلقَ اللهُ في عيونِ الجنِّ قوةً يَرون بها الإنسَ ولا تراهُم الإنسُ؛ لأنَّ اللهَ تعالى لم يخلقْ قوةَ الإدراكِ لهُم قال تعالى: {إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ} [الأعراف:27] وهو يتنَاولُ أوقَاتَ الاستقبَالِ من غيرِ تخصِيصٍ.
          قال ابنُ عسَاكرَ في كتاب ((الزهادة في طلب الشَّهادة)): وممَّن تردُّ شهَادتُهُ ولا تسلَّمُ له عدالتُهُ من يزعمُ أنه يرى الجنَّ عَيانًا، ويدَّعي أنَّ له منهم إخوانًا.
          ثمَّ روى بسندِهِ إلى حرملةَ قال: سمعتُ الشَّافعيَّ يقول: من زعَمَ أنَّه يرى الجنَّ أبْطَلنا شَهادتَهُ لقولهِ تعالى في كتابهِ الكريم: {إنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ} [الأعراف:27] وعن الرَّبيعِ: سمعْتُ الشَّافعيَّ يقول: مَن زعَمَ من أهلِ العَدالةِ أنَّه يرَى الجنَّ أبْطَلنا شَهادتَهُ للآية إلَّا أن يكونَ نبيًّا، انتهى.
          وهذا كما في ((الفتح)) وغيره: محمُولٌ على من يدَّعي رؤيَتَهم على صُورِهِم الأصليَّةِ التي خُلقُوا عليها، وأمَّا من يدَّعي أنَّه يرى أحداً منهم بعد أن يتَطورَ على صُورةِ شيءٍ من الحيوانِ فلا يقدحُ فيهِ فقد تواتَرتِ الأخبَارُ بتطوُّرهِم في صُورٍ شتَّى، انتهى.
          وأقول: قال ابنُ قاسمِ العبَّاديُّ في ((حاشية التُّحفة)) عندَ قولها: نقلاً عن الشَّافعيِّ: ومَن زعَمَ أنَّهُ رآهُم رُدَّتْ شهَادتُهُ وعزِّرَ / لمخَالفتِهِ القرآنَ، انتهى.
          قال: هو مشكلٌ فإن غايةَ ما في الآية إثباتُ حالةٍ مخصُوصةٍ، وهي تمكُّنُهُم من رؤيتِنَا في حالةٍ لا نراهُم فيها وليسَ فيها عمومٌ ولا حصرٌ، وذلكَ لا يُنافي أنَّ لنا حالةً أُخرى نراهُم فيها خُصُوصاً وقد وردَتِ الأدلةُ برؤيَتهِم، فليتأمَّلْ، انتهى.
          وقال النوويُّ في ((شرح مسلم)) في كتابِ الصَّلاة في قوله عليه السَّلام: ((أردْتُ أن أربطَهُ حتى تُصبِحُوا تنظرُوا إليه أجمعُونَ أو كُلُّكُم)) قال: فيه دليلٌ على أنَّ الجنَّ موجُودونَ، وأنهم قد يراهُم بعضُ المؤمنين.
          قال: وأمَّا قولُهُ تعالى: {إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ} [الأعراف:27] فمحمُولٌ على الغَالبِ، فلو كانت رؤيتُهُم مُحالة لما قال النَّبيُّ ما قالَ.
          ثم قال النوويُّ: وأمَّا قولُ القاضِي: إن رؤيتَهُم على خِلقتِهم الأصليَّةِ ممتنعَةٌ لظَاهرِ الآية إلَّا للأنبياءِ ومن خرقَتْ له العادةُ، وإنما يراهُم بنو آدمَ في غيرِ صُورِهِم، كما جاءَ في الآثارِ، انتهى: فهي دعوةٌ مردُودةٌ إن لم يصحَّ لها مستندٌ، انتهى كلامُ النوويِّ ☼.
          وقال الحافظُ وغيرُهُ: وقد تواتَرتِ الأخبَارُ بتطوُّرِهم في الصُّورِ، واختلفَ أهلُ الكلامِ في ذلك، فقيلَ: هو تخييلٌ فقط ولا ينتقلُ أحدٌ من صُورتِهِ الأصليةِ؛ لأنَّ انتقالَهُ إلى أُخرى إنما يكونُ بنقضِ البُنيَةِ وتفريقِ الأجزاءِ، وإذا انتقلَتْ بطلَتِ الحياةُ، وإذا بطلَتْ استحَالَ إيجادُها لنفسِهَا، وقيلَ: بل ينتقلونَ لكنْ لا باقتدَارِهِم على ذلكَ بل بضربٍ من الفعلِ أو القولِ، فإذا فعلَهُ أو قالَهُ انتقلَ كالسِّحرِ.
          وهذا قد يرجِعُ إلى الأوَّلِ، وفيه أثرٌ عن عُمرَ أخرجَهُ ابنُ أبي شيبة بإسنادٍ صَحيحٍ: أن الغِيلَانَ ذُكِرُوا عند عمرَ فقال: إنَّ هذا لا يستطيعُ أن يتحوَّلَ عن صُورتِهِ التي خلقَهُ اللهُ عليها، ولكن لهم سحرةٌ كسحرَتِكُم فإذا رأيتُم ذلك فأذِّنُوا، انتهى.
          وجُمِعَ بين القولينِ بأن معنى قدرتِهم على ذلك أنهم قادِرُون على قولٍ أو فعلٍ علَّمَهُم اللهُ إياهُ إذا صدرَ منهم نقلَهُم اللهُ من صورةٍ إلى أُخرى بحسبِ ما أرادوا، ومعنى عَدمِ قُدرتِهم على ذلك؛ أي: بأنفسِهِم من غيرِ قولٍ أو فعلٍ، وكذا القولُ في الملائكةِ عليهم الصَّلاة والسَّلام.
          والجنُّ أصنافٌ فقد روى ابنُ أبي الدُّنيا في ((مكائد الشَّيطان)) والحكيمُ الترمذيُّ وأبو الشَّيخ: أنه عليه الصَّلاة والسَّلام قال: ((خلقَ اللهُ الجنَّ ثلاثةَ أصنافٍ: صنفٌ حيَّاتٌ وعقاربٌ وخشاشُ الأرضِ، وصنفٌ كالريحِ في الهواء، وصنفٌ عليهم الحسَابُ والعقَابُ)).
          قال السُّهيليُّ: ولعلَّ الصنفَ الثاني هو الذي لا يأكلُ ولا يشربُ.
          وقال السُّهيليُّ أيضاً: كما نقله العينيُّ: الجنُّ ثلاثةُ أصنافٍ كما في الحديث: صنفٌ على صورةِ الحيات، وصنفٌ على صُورةِ الكلابِ سودٌ، وصنفٌ ريحٌ طيَّارة _أو قال: هفافةٌ_ ذو أجنِحةٍ وهم يتطوَّرونَ في صُورةِ الحيَّاتِ والعقَاربِ، وفي صُورةِ الإبلِ والبقرِ والغنمِ والخيلِ والبغالِ والحميرِ، وفي صورةِ الطيرِ، وفي صُورِ بني آدمَ.
          وروى الحاكمُ بسندٍ صَحيحٍ، والطبرانيُّ بسندٍ حسنٍ عن أبي ثعلبةَ الخشنيِّ ☺، أنَّ النَّبيَّ صلعم قال: ((الجنُّ ثلاثةُ أصنافٍ: صنفٌ لهم أجنِحةٌ يطيرُونَ في الهواء وصنفٌ حيَّاتٌ وعقاربُ، وصنفٌ يحلونُ ويظعنون)).
          وروى ابن حبَّانَ عن أبي الدرداء مرفوعاً بسندٍ فيه يزيد بن سفيان الرهاوي، وقد ضعَّفَهُ أحمدُ ويحيى بنُ معينٍ وعليُّ بنُ المدينيِّ ولفظه: ((خلقَ اللهُ الجنَّ ثلاثةَ أصنافٍ: صنفٌ حياتٌ وعقاربُ وخشاش الأرض، وصنفٌ كالرِّيحِ في الهواء، وصنفٌ كبني آدمَ عليهم الحسابُ والعقاب، وخلقَ اللهُ بني آدمَ أصنافاً: صنفٌ كالبهائمِ، قال تعالى: {إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً} [الفرقان:44] وصنفٌ أجسادُهُم أجسادُ بني آدم وأرواحُهُم أرواحُ الشياطين، وصنفٌ في ظلِّ اللهِ يومَ لا ظلَّ إلَّا ظلُّهُ)).
          وقال في ((الفتح)): وروى ابنُ أبي الدنيا من طريقِ يزيدَ بنِ يزيدَ بنِ جابرٍ أحدِ ثقَاتِ الشَّامِيِّين من صغارِ / التَّابعين، قال: ما من أهلِ بيتٍ إلَّا وفي سقفِ بيتهِم من الجنِّ إذا وضعَ الغَداء نزلوا فتغدُوا معهم والعَشاء كذلك، انتهى.
          ومن تصوُّرِهِم كبني آدمَ ما ثبتَ أن الشَّيطانَ أتى قريشاً في صُورةِ سُراقةَ بنَ مالكِ بنِ جُعشمٍ لما أرادُوا الخروجَ إلى بدرٍ، وقال: {لَا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ} [الأنفال:48]، وفي صُورةِ شيخٍ نجديٍّ لما اجتمعوا بدارِ النَّدوةِ.
          ومن تصوُّرِهِم كالحيَّاتِ ما رواهُ الترمذيُّ عن أبي سعيدٍ الخدريِّ رفعه: ((إنَّ بالمدينةِ نَفراً من الجنِّ فإذا رأيتُم من هذه الهوام شيئاً فآذِنُوهُ ثلاثاً، فإنْ بدا لكُم فاقتُلُوه)).
          ومنه ما رواهُ البيهقيُّ عن عُمر بن عبدِ العزيزِ: أنه رأى حيَّةً ميِّتةً وهو قاصدٌ مكَّةَ فحفرَ لها وكفَّنها في خرقةٍ ودفنها فسمعَ قائلاً يقول: رحمكَ اللهُ يا شرفُ، وأشهدُ لسمعتُ رسولَ اللهِ صلعم يقول: ((تموتُ يا شرفُ بفلاتٍ من الأرضِ فيدفنُكَ خيرُ أمتي)) فقال له عمرُ: من أنتَ رحمكَ اللهُ؟ قال: أنا رجلٌ من الجنِّ وهذا شرفٌ، ولم يبقَ ممَّن بايعَ رسولَ الله صلعم من الجنِّ غيري وغيره، وأشهدُ لسمعْتُ رسولَ الله صلعم يقولُ: ((تموتُ يا شرفُ بفلاتٍ من الأرضِ فيدفنُكَ خيرُ أمَّتي)).
          وجاءَ عن ابنِ مسعودٍ أنه كان في نفرٍ من أصحابِ النَّبيِّ صلعم، ووجدوا حيَّةً قتيلةً فكفَّنَها بعضُهم ببعضِ ردائِهِ ودفنهَا، فلمَّا جنَّ اللَّيلُ رأوا امرَأتينِ يسألان عنه وأخبرنَاهُم أن فسقَةَ الجنِّ اقتتَلُوا معَ المؤمنين فقتلوهُ وأنَّه من النَّفرِ الذين استمِعُوا القرآنَ من النَّبيِّ صلعم ثمَّ ولُّوا إلى قومِهِم منذِرينَ.
          وأخرجَ ابنُ أبي الدُّنيا: أنَّ جمَاعةً من الصَّحابةِ رأوا حيَّتينِ اقتتلا فقتلَتْ إحدَاهُما الأخرَى فعجِبُوا من طيبِ ريحهَا وحُسنِها فكفَّنَها أحدُهُم ثمَّ دفنَهَا، فسمِعُوا قوماً يسلِّمُون عليهم، وأخبرُوهُم أن المقتولَ ممَّن أسلمَ مع النَّبيِّ صلعم فقتلَهُ كافرٌ منهم.
          وجاءَ: أنَّ رجلاً أخبرَ عثمان ☺ بنحوِ ذلك، وأنَّه رأى حيَّاتٍ ما رأتْ عينَاهُ مثلها كثرةً، وأنَّه شمَّ من أحدِهِما ريحَ المسكِ فكفَّنهَا ودفنَهَا فسمعَ من يخبرُهُ بأنهمَا حياتِ من الجنِّ اقتتلوا، وأنَّ هذا الذي دفنَهُ ممَّن سمعَ الوحيَ من رسُولِ الله صلعم.
          وأخرجَ ابنُ أبي الدُّنيا وأبو نُعيمٍ عن أبي الرَّجاءِ العطارديِّ: أنه ضَربَ في بعضِ أسفَارِهِ حيَّات على ماءٍ فرأى حيَّةً تضطرِبُ فصبَّ عليها ماءً فسكنتْ ثمَّ ماتت فكفَّنَها ودفنها، فسارَ بقيَّةَ يومهِ وليلتِهِ حتى أصبحَ ونزلَ على الماءِ فسمِعَ أكثرَ من ألفٍ يسلِّمُون عليه ويدعونَ له ويُثنُون عليه بما صنعَ، وأن ذلك آخرُ من بقيَ ممَّن بايعَ النَّبيَّ صلعم.
          وأخرجَ أحمدُ والباروديُّ والحاكمُ والطبرانيُّ وابنُ مردويهِ عن صفوانَ بنِ المعطِّلِ: أنَّهم خرجُوا حجَّاجاً، فلمَّا كانوا بالعرجِ رأوا حيةً تضطربُ ثمَّ ماتتْ، فكفَّنَها بعضُهم ودفنها، فلمَّا وصلوا مكَّةَ سمعوا من يسألُ عن دافنِهَا ويثني عليه، وأخبرَهُم أنه آخرُ التسعةِ الذين أتَوا رسولَ الله صلعم يستمعونَ القرآنَ موتاً.
          وقد وردَ من ذلك شيءٌ كثيرٌ.
          ومن أصناف الجنِّ: الغول:
          قال العينيُّ: وهو العفريتُ، قالوا: إن الغُولَ حيوانٌ لم تحكمْهُ الطبيعةُ، وأنَّه لما خرجَ منفَرداً توحَّشَ ولم يستأنسْ، وطلبَ القفارَ ويتلونُ في ضروبٍ من الصُّورِ، ويتراءى في اللَّيلِ وفي أوقَاتِ الخلواتِ لمن كانَ مسَافراً وحدَهُ فيتوهَّمُ أنه إنسَانٌ ويضلُّ المسافرَ عن الطَّريقِ.
          ومنهم السُّعلاةُ: وهي مغَايرةٌ للغولِ، وأكثرُ ما توجدُ في الغِياضِ، إذا ظفرتْ بإنسَانٍ ترْقصُهُ وتلعبُ به، كمَا تلعبُ السِّنَورُ بالفَأرِ.
          ومنهم الغدَّار: وهو يوجدُ بأكنَافِ اليمنِ، وربَّما يوجدُ في أرضِ مصرَ، إذا عاينَهُ الإنسانُ خرَّ مَغْشيًّا عليه.
          ومنهم الولهان: يوجدُ في جزائرِ البحرِ، وهو في صُورةِ إنسانٍ راكبٌ على نعَامةٍ يأكلُ الناس الذين يقذِفُهم البحرُ.
          ومنهم الشِّقُّ: كنصْفِ آدميٍّ بالطُّولِ / زعمُوا أنَّ النَّسنَاسَ مركبَهُ يظهرُ للنَّاسِ في أسفَارِهِم.
          ومنهم: مَن يأنسُ بالآدميين ولا يؤذِيهِم.
          ومنهم: من يختطِفُ النساء الأبكار.
          ومنهم: من هو على صُورةِ الوَزَغِ.
          ومنهم: من هو على صورةِ الكلابِ.
          الوجهُ الخامسُ: في بيانِ أنَّهم هل يأكُلُون ويشربُون ويتناكحون ويتوالدون أو لا.
          ففي ((الفتح)): قيل: بالنفِي، وقيل: بمقابلِهِ، ثمَّ اختلفوا، فقيل: أكلُهُم وشربهم تشمُّمٌ واسترواحٌ لا مضْغَ ولا بلعَ، قال: وهو مردودٌ بما رواه أبو داودَ من حديثِ أميَّة بن مُخَشًّى قال: كان رسولُ الله صلعم جالساً ورجلٌ يأكل ولم يسمِّ حتى لم يبقَ من طعامِهِ إلَّا لقمة فلمَّا رفعها قال: بسمِ اللهِ أوَّلِهِ وآخرِهِ، فضَحِكَ رسولُ الله صلعم ثم قال: ((ما زالَ الشَّيطانُ يأكلُ معه، فلمَّا ذكرَ اسمَ اللهِ استقاءَ ما في بطنِهِ)).
          وفي ((الصحيحين)): أن الجنَّ سألوا النَّبيَّ عليه السَّلام الزادَ فقال: ((كلُّ عظمٍ ذُكِرَ اسمُ اللهِ عليه يقعُ في يدِ أحدِهِم أوفرَ ما يأكلونَ لحماً، وكلُّ بعرٍ علَفٌ لدوابِّهم)).
          وفي البخاريِّ: أنَّ الرَّوثَ والعظمَ طعامُ الجنِّ، وفي أبي داود: ((كلُّ عظمٍ لم يذكرِ اسمُ اللهِ عليه)).
          فالأوَّل: محمُولٌ على مؤمنيهِم، والثاني: في حقِّ كُفَّارِهِم، وقيل: لا يأكلونَ ولا يشرَبونَ أصلاً، وأوَّلُوا قوله صلعم: ((إنَّ الشَّيطانَ يأكلُ بشِمَالِهِ ويشرَبُ بشمَالِهِ)) على المجازِ؛ أي: أكلُ الشِّمالِ يحبُّهُ الشَّيطانُ ويدعو إليه ويزيِّنُهُ.
          وردَّهُ ابنُ عبدِ البرِّ فقال: هذا التأويلُ ليسَ بشيءٍ، إذ لا معنَى لحملِهِ على المجازِ معَ إمكانِ الحقيقةِ، وكذا قولُ من قال: إنَّهُ شمٌّ واسترواحٌ، وأمَّا المضغُ والبلعُ فلذَوِي الجُثثِ والأجسَادِ ولا دليلَ عليه بل هُم أجسَامٌ، وهي لا يمتنعُ عليها ما ذُكِرَ وإن كانَتْ رقيقةً.
          والصَّحيحُ أنَّ الجنَّ مطلقاً يأكلون ويشربونَ، وقيل: لا مطلقاً، وهذا القولُ ساقطٌ، وقيل: بالتفصيلِ فقد سُئلَ وهبُ بن منبِّه عن الجنِّ فقال: هم أجناسٌ، فأمَّا خالصُهُم فهم ريحٌ لا يأكلونَ ولا يشربونَ ولا يتوالدونَ ولا يموتونَ.
          قال الحسنُ البصريُّ، كما في العينيِّ: الشَّياطينُ أولادُ إبليسَ لا يموتون إلَّا معه، والجنُّ يموتون قبلَهُ، وأنَّ إبليسَ كلَّما يهرمُ يعودُ ابن ثلاثين سنة، كذا في ((الفتاوى)) وقالَ فيها أيضاً: ومرَّ في خبرِهَا به ممَّا يدلُّ على طُولِ أعمَارِهِم، وبلغَ الحجَّاجُ أن بأرضِ الصِّين مكاناً إذا أخطأوا فيه الطَّريقَ سمعوا صوتاً، يقول: هلمُّوا الطَّريقَ فبعثَ ناساً وأمرَهُم أن يتخَاطُّوها عمداً فإذا كلَّمُوهم يحمِلونَ عليهِم، فقالوا: وينظرونَ ما هُم، فلمَّا فعلُوا حملُوا عليهم، فقالوا: إنَّكُم لن ترَونا، قالوا: منذ كمْ أنتُم هاهنا؟ قالوا: لا نُحصِي السِّنينَ غير أن الصَّينَ خربت ثمان مراتٍ وعمرَتْ ثمان مراتٍ، ونحن هاهنا.
          وأخرجَ ابنُ ماجه عن أبي هريرةَ قال: وُكِّلَ ملكُ الموتِ بقبضِ أرواحِ المؤمنينَ والملائكةِ، وملكٌ بالجنِّ، وملكٌ بالشَّياطينِ، وملكٌ بالطَّيرِ والوحوشِ والسِّباع والحيَّاتِ فهم أربعةُ أملاكٍ، انتهى.
          ولم يُسلم أحدٌ من أولاد إبليسَ إلَّا هامةُ بن هيمِ بنِ لاقيس بنِ إبليسَ، وقد أدركَ قتلَ قابيل لهابيلَ واستمرَّ حيًّا إلى زمن نبيِّنا محمَّد صلعم وآمن بنوحٍ ومن بعدَهَ من الأنبياءِ وأقرأَ السلامَ لنبينا من عيسَى عليهما السَّلام، كما في ((الفتاوى الحديثية)).
          وأما غيرُهُم فيأكلونَ ويشربونَ ويتوَالدونَ ومنهم السَّعالي والغُولُ والقُطرُبُ.
          قال في ((الفتح)): وهذا إن ثبتَ كانَ جامعاً للقولينِ الأوَّلين، وممَّا يدلُّ للقولِ بأنَّهم يتنَاكحُون قوله تعالى: {لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلَا جَانٌّ} [الرحمن:56] وبقولهِ تعالى: {أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي} [الكهف:50].
          قال في ((الفتح)): والدَّلالةُ من ذلك ظاهرةٌ، قال: واعتلَّ من أنكرَ / ذلك بأنَّ اللهَ تعالى أخبرَ أن الجانَّ خُلِقَ من نارٍ، وفي النَّار من اليُبوسةِ والخفَّةِ ما يمنعُ معه التَّوالدَ.
          والجوابُ: أن أصلَهُم من النارِ كمَا أن أصلَ الآدمِيِّ من الترابِ، انتهى.
          وقال القسطلَّانيُّ بعد ذكرِ الأقوالِ في ذلك: وبالجملةِ فالقَائلونَ بأنَّ الجنَّ لا تأكلُ ولا تشربُ، إن أرادُوا جميعَهُم فباطلٌ لمصَادمتهِم الأحاديثَ، وإن أرادُوا صِنفاً منهم فمحتَمِلٌ، لكن العُموماتُ تقتَضِي أن الكلَّ يأكلونَ ويشربونَ، ثمَّ قالَ بعد ذكر الآية الثانية: فإنَّها تدلُّ على أنهم يتناكحونَ لأجل الذُّرِّيةِ ورقَّتُهم لا تمنعُ من توالدِهِم إذا كان ما يلدونَهُ رقيقاً، ألا ترى أنَّا قد نرى من الحيوان ما لا يتبيَّنُ للطافتِهِ إلَّا بالتأملِ ولا يمنع ذلك من التوالد؛ أي: المترتبِ على التناكُحِ.
          وفي ((ربيع الأبرار)) للزمخشريِّ: عن أبي هريرة رفعَهُ، وفي ((الفتاوى الحديثية)) لابن حجر المكي: أخرجَ أبو الشَّيخِ في ((العظمة)) عن قتادةَ في قولهِ تعالى: {أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ} [الكهف:50] قال: هم أولادُهُ يتوالدونَ كما يتوالدُ بنو آدمَ وهُم أكثر عدداً.
          وأخرج عبدُ الرَّزاق وابنُ جرير وابنُ المنذر وابنُ أبي حاتم والحَاكمُ عن ابن عُمر قال: إنَّ اللهَ جزَّأَ الإنسَ والجنَّ عشرة أجزاءٍ فتسعةٌ منهم الجنُّ والإنسُ جزءٌ واحدٌ، فلا يلدُ من الإنسِ ولدٌ إلا ولد من الجنِّ تسعة.
          وأخرجَ البيهقيُّ عن ثابتٍ قال: بلغنَا أنَّ إبليسَ قال: يا ربِّ إنك خلقتَ آدمَ وجعلتَ بينِي وبينه عداوةً فسلِّطنِي على أولادِهِ، فقال: صدُورُهم سكنٌ لك، قال: يا ربِّ زدْنِي، قال: لا يولدُ لآدمَ ولدٌ إلَّا ولدَ لك عشرةٌ، قال: يا ربِّ زدْنِي، قال: اجلبْ عليهم بخيلكَ ورَجلِكَ وشاركْهُم في الأمْوالِ والأولادِ.
          وأخرجَ ابنُ المنذر عن الشَّعبي: أنه سُئل عن إبليسَ هل له زوجةٌ؟ قال: إنَّ ذلك العرس ما سمعتُ به.
          ثمَّ قالَ: وأخذَ من {وَشَارِكْهُمْ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَولَادِ} [الإسراء:64] أنه قد يقعُ التَّناكحُ بين الجنِّي والإنسيَّةِ وعكسُهُ خلافاً لمن أحالَهُ.
          قال بعضُ الحنَابلةِ والحنفيَّةِ: لا غُسلَ بوطءِ الجنِّي، والحقُّ خلافه إن تحقَّقَ الإيلاجُ.
          قيل: أحدُ أبوَي إبليس كان جنِّيًّا، وفيه حديث رواه أبو الشيخ وابنُ مردويه وابنُ عساكر.
          قال: واختلفُ العلماءُ في مناكحتِهِم شرعاً، وجاء عن مالكٍ ☼ أنه أجازَهُ لكن كرهَهُ لئلا تدَّعي الحبالى من الزِّنا أنه من الجنِّ، وكذا كرهَهُ الحكمُ وقتادةُ والحسنُ وعقبةُ الأصمُّ والحجَّاجُ بنُ أرطَاة.
          وأخرجَ جريرٌ عن أحمدَ وإسحاقَ: أنَّه صلعم نهى عنهُ، ومن ثم كرهَهُ إسحاقُ.
          لكن في ((الفتاوى السراجية)) للحنفيةِ: أنه لا تجوزُ المناكحةُ بين الإنسِ والجنِّ، وإنسان الماء لاختلاف الجنسِ، وبه أفتى شيخُ الإسلام البَارزِي من أئمَّتنا؛ لأن اللهَ تعالى امتنَّ علينا أنَّ لنا من أنفسنا أزواجاً، فلو جاز نكاحُ الجنِّ ما حصلَ الامتنانُ بذلك.
          قال المفسِّرونَ: معنى الآية {جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ} [الشورى:11] أي: من جنسِكُم ونوعِكُم وعلى خلقكم، قال: وصوَّب ابنُ العمادِ قولَ ابن يونس في ((شرح الوجيز)) على نكاحِهِم.
          وصحَّ عن الأعمشِ أنَّه قال: تزوَّجَ إلينا جنِّيٌ، فقلتُ له: ما أحبُّ الطَّعامِ إليكم؟ قال: الأرز، قال: فأتينَاهُم به فجعلتُ أرى اللُّقمَ تُرفعُ ولا أرى أحداً، فقلتُ: فيكم من هذِهِ الأهواءِ التي بيننَا؟ قال: نعم، / قلتُ: فما الرَّافضَةُ فيكُم؟ قال: شرُّنا، انتهى.
          وأقول: رجَّح الرمليُّ جواز المناكحَةِ المذكُورةِ، وجرى ابنُ حجر في ((التحفة)) على اختيارِ عدمِ جوازِها كمالكٍ، وعليه: فلا تحلُّ ذبيحتُهم، وبذلك صرَّحَ الحنفيةُ.
          الوجهُ السادسُ: هل هم مكلَّفُون أو لا؟
          قال ابنُ عبد البَرِّ: الجنُّ عند الجماعةِ مكلَّفون مخاطَبون بالأحكامِ الشرعيَّةِ لقولهِ تعالى: {يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ} [الرحمن:33] الآية، وقال عبدُ الجبار: لا نعلمُ خلافاً بين أهل النَّظر في ذلك إلَّا ما حكى زرقان عن بعضِ الحشويَّة أنهم مضطرُّون إلى أفعَالهم وليسُوا مكلَّفِين، قال: والدَّليلُ للجماعةِ ما في القرآنِ من ذمِّ الشياطينِ والتحرُّز من شرِّهم، وما أعدَّ من العذابِ، وهذه الخصالُ لا تكون إلَّا لمن خالفَ الأمر وارتكب النَّهي مع تمكُّنِه أن لا يفعلَ، والآياتُ والأخبارُ الدَّالةُ على ذلك كثيرةٌ، كذا في ((الفتح)).
          وقال القسطلَّانيُّ: وإذا تقرَّر أنَّهم مكلَّفون فهم مكلَّفون بالتَّوحيدِ وأركانِ الإسلامِ، وأمَّا ما عداهُ من الفروعِ فاختُلِفَ فيها لما ثبتَ من النَّهي عن الرَّوث والعظمِ وأنهمَا زادُ الجنِّ، وسيأتي في السِّيرةِ النبويَّةِ حديثُ أبي هريرةَ وفي آخره، فقلتُ: ما بال الرَّوث والعظْمِ؟ قال: ((هما طعامُ الجنِّ...)) الحديث.
          فدلَّ جوازُ تناولهم للرَّوثِ معَ أنَّه حرامٌ على الإنسِ.
          لكن بيَّن السبكيُّ في ((فتاويه)): أنهم مكلَّفون بشريعةِ نبينا في كلِّ شيءٍ، نبَّه عليه ابنُ حجرٍ في ((الفتاوى)) قال: وكذا روى أحمدُ والحاكمُ عن ابن عبَّاسٍ قال: خرجَ رجلٌ من خيبرَ فتبعَهُ رجلان وآخرُ يتلوهمَا، يقول: ارجِعَا، حتَّى ردَّهمَا ثمَّ لحقَه فقال له: إنَّ هذين شيطَانان فإذا أتيتَ رسولَ الله صلعم فاقرأْ عليه السَّلامَ وأخبرْهُ أنا في جمع صدَقاتِنا ولو كانت تصلحُ له لبعثنَا بها إليه، فلمَّا قدمَ الرجلُ المدينةَ أخبرَ النَّبيَّ صلعم بذلكَ، فنَهى عن الخَلْوةِ؛ أي: عن السفرِ منفرداً.
          وقال: وإذا تقرَّرَ أنهم مكلَّفون فقد اختلفُوا هل كانَ فيهم نبيٌّ منهم أم لا، فروى الطَّبريُّ من طريق الضَّحاكِ بنِ مزاحِمٍ إثباتَ ذلك، قال: ومَن قال بقولِ الضَّحاكِ، احتجَّ بأنَّ اللهَ تعالى أخبرَ أن من الجنِّ والإنسِ رُسُلاً أُرسلوا إليهم فلو جازَ أنَّ المرادَ برسلِ الجنِّ رسلُ الإنسِ إليهم لجازَ عكسُهُ، وهو فاسدٌ، وجمهورُ العلماءِ سلفاً وخَلفاً على أنَّه لم يكنْ من الجنِّ نبيٌّ رسولٌ قط، ولم يكنْ رسلٌ إلَّا من الإنسِ، ونُقِلَ هذا عن ابنِ عبَّاسٍ ومجاهدٍ وابنِ جُريج والكلبيِّ وأبي عبيدةَ والواحديِّ، وتقدَّمَ عن ابنِ عبَّاسٍ: أنَّ الجنَّ قتلُوا لهم نبياً قبلَ آدمَ عليه السَّلام اسمُهُ: يوسف، والله بعثَ إليهم رسولاً وأمرَهُم بطاعتهِ.
          وأجاب الجمهورُ عن الآية: بأنَّ معنَاها أنَّ اللهَ أرسلَ رُسُلَ الإنسِ إلى الجنِّ فسمعَ رسل الجنِّ الذين بثَّهم اللهُ في الأرضِ كلام الرُّسلِ من الإنس وبلَّغوا قومَهم، ولهذا قالَ قائلهُم: {إِنَّا سَمِعْنَا كِتَاباً أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى} [الأحقاف:30] الآية.
          واحتجَّ ابن حزمٍ: بأنَّه عليه السَّلام قال: ((وكانَ النَّبيُّ يُبعَثُ إلى قومِهِ)) قال: وليس الجنُّ من قومِ الإنسِ، فثبتَ أنَّه كانَ منهم أنبياءُ إليهم، قال: ولم يُبعَثْ إلى الجنِّ من الإنسِ إلَّا نبيُّنا صلعم لعمومِ بعثتهِ إلى الجنِّ والإنسِ باتفاقِ.
          وقال ابنُ عبد البَرِّ: لا يختلفونَ أن نبيَّنا صلعم بعثَ إلى الإنسِ والجنِّ، وهذا ممَّا فضِّلَ به على الأنبياءِ، ونُقِلَ عن ابن عبَّاسٍ في تفسيرِ قولهِ تعالى في سُورة غافر: {وَلَقَدْ جَاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ} [غافر:34] قال: هو رسولُ الجنِّ.
          وقال إمامُ الحرمينِ في ((الإرشاد)): وقد علِمنَا ضَرورةَ أنَّه عليه السَّلام ادَّعى كونهِ مبعُوثاً إلى الثَّقلين.
          وقال ابنُ تيميَّة: اتَّفقَ على ذلك علماء السَّلفِ من الصَّحابةِ والتابعين / وأئمَّةِ المسلمين.
          قال في ((الفتح)): ثبتَ التَّصريحُ بذلك في حديثٍ أخرجَه البزَّارُ بلفظ: ((كان النَّبيُّ يُبعَثُ إلى قومِهِ، وبُعثْتُ إلى الإنسِ والجنِّ)) وعن ابن الكلبيِّ: كان النَّبيُّ يبعث إلى الإنس فقط، وبُعث محمدٌ صلعم إلى الإنسِ والجنِّ، وإذا ثبتَ أنَّهم مكلَّفون فثبتَ لهم أنهم يُثابُون على الطَّاعاتِ ويعاقبون على المعاصِي، وهو مذهبُ جمهورِ العلماءِ منهم البُخاريُّ وابن عبَّاسٍ وابنُ أبي ليلى ومالكٌ والأوزاعيُّ وأبو يوسف ومحمدٌ، ونقلَ عن الشافعيِّ وأحمد.
          وقال في ((الفتح)): لم يختلفْ من أثبتَ تكليفَهم أنَّهم يُعاقبون على المعاصي، واختُلِفَ هل يثابون؟
          فروى الطبريُّ وابن أبي حاتمٍ، من طريق أبي الزِّناد موقُوفاً قال: إذا دخلَ أهلُ الجنَّة الجنَّةَ، وأهلُ النَّار النَّارَ، قال اللهُ لمؤمني الجنِّ وسائرِ الأممِ _أي: ممَّن غير الإنس_ كونوا تراباً، فحينئذ يقول الكافرُ: يا ليتني كنتُ تُراباً، ورُوي عن أبي حنيفةَ نحو هذا القولِ، وذهَبَ الجمهُورُ إلى أنهم يُثابُون على الطَّاعةِ وهو قولُ الأئمَّة الثلاثةِ والأوزاعيِّ وأبي يوسف ومحمَّدِ بن الحسن وغيرهم.
          قال: ثمَّ اختلفُوا هل يدخُلُون مدخلَ الإنس؟
          على أربعةِ أقوالٍ: أحدها: نعم، وهو قولُ الأكثرِ، وثانيها: يكونونَ في ربضِ الجنَّةِ، وهو منقولٌ عن مالكٍ وطائفة، وثالثها: أنَّهم أصحَابُ الأعرافِ، رابعها: التَّوقُّف، انتهى.
          وقال العينيُّ: اختلفُوا هل يأكلونَ فيها ويشربونَ؟
          فروى سفيانُ الثوريُّ في ((تفسيره)) عن جُويبر عن الضَّحاكِ: أنَّهم يأكلونَ ويشربونَ، وعن مجاهدٍ: يدخلونَها، ولكنْ لا يأكلونَ ولا يشربونَ ويُلهَمون من التَّسبيحِ والتَّقديسِ ما يجدهُ أهل الجنَّةِ من لَذة الطَّعامِ والشَّرابِ، وذهبَ الحارثُ المُحاسبي: إلى أنهم يدخلونها ونراهُم فيها ولا يرونا، عكسَ ما كانوا عليه في الدُّنيا.
          القول الثَّاني: لا يدخلون الجنَّةَ بل يكونون في ربَضِها يراهم الإنسُ من حيث لا يرَونَهم، وهذا القولُ مأثورٌ عن مالكٍ والشَّافعيِّ وأحمد وأبي يوسف ومحمَّدٍ، حكاه ابنُ تيميةَ، وهو خلاف ما حكاه ابن حزمٍ عن أبي يوسف.
          القول الثالثُ: أنهم على الأعرافِ، روى الحافظُ أبو سعد محمد بن عبد الرَّحمنِ الكنجروديُّ في ((أماليه)): بإسنادِهِ إلى أنس عن النَّبيِّ صلعم قال: ((إنَّ مؤمني الجنِّ لهم ثوابٌ وعليهم عقَابٌ)) فسألنا عن ثوابِهِم، فقالَ: ((على الأعرَافِ وليسُوا في الجنَّةِ)) فقالوا: ما الأعرافُ؟ قال: ((حائطُ الجنَّةِ يجرِي منه الأنهارُ، وينبتُ فيه الأشجارُ والثِّمارُ)).
          لكن قال الذهبيُّ: هذا حديثٌ منكرٌ جدًّا.
          القول الرابعُ: الوقفُ.
          وإذا دخلوا الجنَّةَ هل يرونَ الله تعالى؟
          ففي كلام العزِّ بن عبد السلام في ((القواعد الصغرى)) ما يدلُّ على أنَّهم لا يرونَ اللهَ تعالى، وأن الرؤيةَ مخصُوصةٌ بمؤمني البشرِ، فإنَّه صرَّحَ بأنَّ الملائكةَ لا يرونَ اللهَ في الجنَّةِ، ومقتضَاهُ: أنَّ الجنَّ لا يرونَهُ تعالى، انتهى.
          لكن قال ابنُ حجر المكي في ((فتاواه الحديثية)): وذهَبَ بعضُ الحنفيةِ إلى أنَّهم لا يرونَ اللهَ وإليه يميلُ كلامُ ابن عبد السَّلام، لكن الأرجحُ أنَّ الملائكةَ يرونَهُ تعالى، كما نصَّ عليه أبو الحسن الأشعري في ((الإبانة في أصول الدِّيانة)) وتابعَه البيهقيُّ وابنُ القيِّم وكذا الجلالُ البُلقِيني، بل قال الجلالُ: وكذا الجنُّ يرونهُ لعمومِ الأدلَّة، وكلُّ وجهٍ من هذه الوجُوهِ التي ذكرَها تشتملُ على أبحاثٍ كثيرةٍ.
          (لِقَوْلِهِ تعَالى) وفي بعضِ الأصُولِ: <╡>، وهذه الآياتُ في أواخرِ سورةِ الأنعامِ هذا تعليلٌ، للترجمَةِ جميعِها أم لقولهِ: ((وثوابهم وعقَابهم))؟ والأولى: الأولُ؛ لأنَّ قوله: ({يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ})... إلخ يدلُّ لوجُودِهِم، وكذا لثوابِهِم وعقابِهِم، أما الأول فظاهرٌ، وكذا الأخيرين فإنْ قوله / : ({أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا} [الأنعام:130]) أي: يوم القيَامةِ، يدلَّ على العقَابِ، وقولهِ في آخرِها: {وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا} [الأنعام:132] يدلُّ على الثوابِ، فإن قوله: {ولِكُلٍّ...} إلخ يشمل الجنَّ والإنسَ، لكن قال البيضاويُّ وغيرُهُ من المفسِّرين: الرُّسلُ من الإنسِ خاصَّةً، لكن لما جمعُوا مع الجنِّ في الخطَابِ صحَّ ذلك كقولهِ تعالى: {يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ} [الرحمن:22].
          وقعَ للأكثرِ هكذا: <{يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي}> (إِلَى قَوْلِهِ: {عَمَّا يَعْمَلُونَ} [الأنعام:132]) وسقَطَ: <إلى قوله: {عَمَّا يَعْمَلُونَ}> لأبي ذرٍّ، وقالَ بدله: <الآية> واستدلَّ ابنُ وهبٍ لذلك بقولهِ تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ} [الأحقاف:18] الآية، فإنَّ بعدها أيضاً: {وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا} [الأحقاف:19].
          ونُقِلَ عن مالكٍ أنه استدلَّ لذلك بقولهِ تعالى: {ولِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ. فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} [الرحمن:46-47] والخطابُ للإنسِ والجنِّ.
          تنبيه: جملة: {يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي} صفةٌ ثانيةٌ لـ{رُسُلٌ} أو حالٌ منه، أو من ضَميرِهِ المستترِ في {مِنْكُمْ}.
          وقال الفرَّاءُ: في الآيةِ حذفُ مضَافٍ؛ أي: من أحدكم وهم الإنسُ بناء على اختصَاصِ الرُّسلِ بالإنسِ، وقيل: الإشَارةُ إلى تقديرِ أنَّ الرُّسلَ من الجنِّ رسلُ الرُّسلِ؛ لقولهِ: {وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ} [الأحقاف:29] وجرى جماعةٌ منهم الضَّحاك على ظاهرِ الآيةِ، فقال: أُبعث إلى كلٍّ من الثقلينِ رسلٌ منهم، وأنَّ اللهَ تعالى أرسلَ إلى الجنِّ رَسولاً منهم اسمه: يُوسف.
          وأمَّا الذين قالوا: لقوله: إنَّ اللهَ أخبرَ أن من الجنِّ رسلاً أرسلَهُم إليهم، ولو جازَ أن يكونَ خبرُهُ عن رسلِ الجنِّ بمعنى أنَّهم رُسُلُ الإنسِ، جازَ أن يكون خبرُهُ عن رسلِ الإنسِ بأنهم رسلُ الجنِّ، وفي فسَادِ هذا ما يدلُّ على أنَّ الخبرَ عن الفريقينِ على ظَاهرِهِ.
          وقال في ((آكام المرجان)): ويدلُّ لما قالَهُ الضَّحاكُ حديثُ ابن عبَّاسٍ عند الحاكمِ في تفسير: {وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ} [الطلاق:12] قال: سبعُ أرضين في كلِّ أرضٍ نبيٌّ كنبيكُم، وآدمُ كآدمكُم، ونوحٌ كنوحكُم، وإبراهيمُ كإبراهيمكُم، وعيسى كعيسى.
          وإسنادُهُ حسنٌ كما قاله الذَّهبيُّ، وله شاهد عند الحاكم أيضاً عن ابن عبَّاسٍ قال: في قوله تعالى: {سَبْعَ سَمَوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ} قال: في كلِّ أرضٍ نحو إبراهيم صلعم.
          قال الذَّهبيُّ: حديثٌ على شرطِ الشَّيخين، بل رجالُهُ أئمةٌ وقد جرى المصنِّف على عادتهِ الغَالبةِ في تفسيرِ مفرداتٍ تناسبُ الباب فقال: ({بَخْساً}: نَقْصاً) يريدُ تفسير {بَخْساً} من قولهِ تعالى في: سورة الجنِّ حكايةً عنهم: {فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلَا يَخَافُ بَخْساً وَلَا رَهَقاً} [الجن:13] قال يحيى: البَخْسُ: النقصُ، والرَّهَق: الظلمُ بالزِّيادةِ.
          وقال البيضَاويُّ: {بَخْساً وَلَا رَهَقاً} نقصاً في الجزاء؛ ولا أن يرهقه ذلةٌ أو جزاءُ البخسِ؛ لأنه لم يبخسْ حقاً ولم يرهقْ ظلماً؛ لأنَّ من حقِّ المؤمن بالقرآنِ أن يجتنِبَ ذلك، انتهى.
          والمرادُ بالبَخْسِ في الآية: النقصُ من حسناتِهِ، وبالرَّهقِ: الظُّلمُ بالزِّيادة في سيئاتِهِ ومفهومُ الآيةِ أن من كفرَ خافَ، والخوفُ يدلُّ على التَّكليفِ فتكون الجنُّ مكلَّفين؛ لأنَّ الآية فيهم.
          (قَالَ) ولأبي الوقتِ: <وقال> (مُجَاهِدٌ: {وَجَعَلُوا بَيْنَهُ}) أي: بين اللهِ ({وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَباً} [الصافات:158] كُفَّارُ قُرَيْشٍ) برفع ((كفَّار)) خبرٌ لمحذوفٍ؛ أي: هم، فهو تفسير لواو {جَعَلُوا} هذا مقتضَى كلامِ القسطلَّانيِّ الساقطِ منه: <قال> ثانياً، والَّذي رأيتُهُ في النُّسخ إثبَاتهَا وفاعلُهُ لمجاهدٍ، وعليه فـ((كفَّار)) مفعوله.
          وقوله: (الْمَلاَئِكَةُ بَنَاتُ اللَّهِ) مبتدأٌ وخبرٌ، والجملةُ مقول ((قال)) وأمَّا هو فجعلها مقولاً لـ((قالوا)) محذوفةً (وَأُمَّهَاتُهُمْ) ولأبي ذرٍّ: <وأمهاتهنَّ> بضمير المؤنَّثِ، وهو جائزٌ لا أنَّه خطأٌ كما قيل، نعم الأول أولى، فتأمَّل.
          (بَنَاتُ سَرَوَاتِ الْجِنِّ) يعني: مرادُ كفَّارُ قريشٍ _لعنهم الله_ أنَّ اللهَ ╡ أبو الملائكةِ وأن أمَّهاتَ الملائكةِ بناتُ أشرَافِ الجنِّ، تعالى اللهُ عمَّا يقولونَ علوًّا كبيراً ما اتَّخذ اللهُ صَاحبةً ولا ولداً / .
          قال البرمَاويُّ: {وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَباً} يعني: الملائكةَ، ذكرَهُم باسمِ جنسِهِم وصفاً منهم أن يبلغُوا هذه المرتبة، وقيل: قالوا: إنَّ اللهَ صَاهرَ الجنَّ فخرجَتِ الملائكةُ، وقيلَ: قالوا اللهُ والشَّياطين إخوانٌ، انتهى.
          قال في ((الفتح)): وهذا التَّعليقُ وصلَهُ الفريابيُّ عن مجاهدٍ، وفيه فقالَ أبو بكر: فمِنْ أمَّهاتِهِم قالوا: بنات سرواتِ الجنِّ... إلخ والـ((سَّرَوَات)) بفتحِ السِّين المهمَلةِ والرَّاء والواو.
          جمع: سَراة _بالفتحِ_،جمع: سري وهو نادرٌ شاذٌّ؛ لأنَّ فعلة لا تجمَعُ على فعلات، كذا في ((التَّوضِيح)).
          وهو مخالفٌ لما قاله الجوهريُّ: جمعُ السَّرِيِّ: سراة، وهو جمعٌ عزيزٌ أن يجمَعَ فعيلٌ على فعلة، ولا يعرفُ غيره، وجمعُ السَّرَاة: سَرَوات، انتهى.
          فجُعِلَ النَّادرُ: جمع: سرى على سَرَاة، لا جمع سَرَاة على سَرَواتٍ فلعلَّ في نسخِ ((التوضيح)) تحريفاً، والأصلُ لأنَّ فعيلاً لا يجمعُ على فعلة، فتأمَّل.
          (قَالَ اللَّهُ: {وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ}) بكسرِ الجيمِ؛ أي: الملائكةُ، سمُّوا جنًّا لاستتَارهِم عن أبصَارنا ({إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ} [الصافات:158]) هذه الآيةُ كالتي قبلهَا في أواخرِ الصَّافات (سَتُحْضَرُ لِلْحِسَابِ) ببناءِ ((ستحضر)) للفَاعلِ أو للمَفعولِ، هذا أيضاً من كلامِ مجاهدٍ، وصلَهُ الفريابيُّ أيضاً عن مجاهدٍ.
          قال البيضَاويُّ: {وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ} أي: الكفَرةُ أو الإنسُ أو الجنُّ ((إن)) فسِّرَتْ بغيرِ الملائكَةِ {لَمُحْضَرُونَ} أي: في العذَابِ.
          وقال العينيُّ: إذا فسَّرْنَا {الجِنَّةَ} بالشَّياطينِ يجوزُ أن يكونَ الضَّمير في {إِنَّهُمْ} للشَّياطين، والمعنى: ولقد علمَتِ الشَّياطينُ أنَّهم لمحضَرونَ؛ يعني: أنَّ الله يُحضِرهُم النارَ ويُعذِّبهم.
          وقوله: ({جُنْدٌ مُحْضَرُونَ} عِنْدَ الْحِسَابِ) قال الكرمانيُّ: هذا في آخرِ يس، ولا تعلُّقَ له بالجنِّ، لكن ذكرَهُ لمناسبَةِ الإحضَارِ للحسَابِ، قال: ويحتملُ أن يقالَ: لفظةُ {آلهة} في أوَّلِ الآيةِ متنَاولٌ للجنِّ؛ لأنَّهم أيضاً اتَّخذوهُم معابيدَ، انتهى.
          تنبيه: {مُحْضَرُونَ} بالجمعِ نعتٌ لـ{جُنْدٌ}.
          قال في ((الفتح)): وقعَ لغيرِ الكُشميهنيِّ: <جند محضر> بالإفرادِ، وروايتهُ أشبَهُ.
          وقال القسطلَّانيُّ: ولأبي ذرٍّ عن الحمويِّ والمستمليِّ: <محضر> بالإفرادِ، والصَّوابُ الأولُ، وهو لفظُ القرآنِ، انتهى.
          وأقول: لعلَّها قراءةٌ شاذةٌ.