الفيض الجاري بشرح صحيح الإمام البخاري

باب صفة الشمس والقمر

          ░4▒ (بابُ صِفَةِ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ) أي: باب بيانِ صفة جريانِهِما (بِحُسْبَانٍ) بضمِّ الحاء وسكون السِّين المهملتين، قال الزَّمخشري: أي: بحساب معلوم (قَالَ مُجَاهِدٌ كَحُسْبَانِ الرَّحَى) أي: الطَّاحون والجار والمجرور نعتُ ((حُسبانٍ)).
          قال في ((الفتح)): وصله الفِريابِي في تفسيره عن مجاهد قال: ومراده أنَّهما يجريانِ على حَسَبِ الحركة الرَّحويَّة الدوريَّة وعلى وضعها.
          (وَقَالَ غَيْرُهُ: بِحُسبَانٍ) بضمِّ الحاءِ؛ أي: بحسبان، ووقعَ في أكثرِ الأصُولِ: <بحساب> (وَمَنَازِلَ لاَ يَعْدُوَانِهَا) بضمِّ الدال المهملةِ وواو فألف التثنية؛ أي: لا يجاوزُ الشَّمسُ والقمرُ تلك المنازل، قيل: المراد بـ((غيره)) هو ابن عبَّاس، ويؤيِّده أنه وقعَ في نسخةِ الصَّغاني بعد قوله: وقال غيرُه هو ابن عبَّاس، وروى الحربي والطبريُّ عن ابن عباس نحوَهُ بإسناد صحيحٍ وبه جزم الفرَّاء.
          وقوله: (حُسْبَانٌ: جَمَاعَةُ الحِسَابِ، مِثْلُ شِهَابٍ وَشُهْبَانٍ) من تفسيرِ أبي عبيدة في ((المجاز)) ((حسبان)) بضمِّ الحاء، مبتدأ، و((جماعة الحساب)) خبرُ المبتدأ سقطتْ اللام من الحسابِ لغير أبوي ذرٍّ والوقت، وجماعةٌ بمعنى: الجمع الاصطلاحي.
          قال في ((الفتح)): يعني: أن حُسبان جمع: حِساب، كشُهبان جمع: شِهاب، وقال الإسماعيليُّ من جعله من الحِسَاب احتمل الجمعَ واحتمل المصدرَ، تقول: حسبتُ حسباناً، ثم هو يعني: حسبت من الحسَاب _بالفتح_ ومن الظنِّ بالكسر، والمعنى: يجريان متعَاقبين بحسابٍ معلومٍ مقدرٍ في بروجِهِما ومنازلِهِما وتتسق بذلك أمورُ الكائنات السُّفلية وتختلفُ الفصُول والأوقات وتُعلم السُّنون والحساب.
          ({ضُحَاهَا}) أي: في قوله تعالى: {وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا} [الشمس:1] (ضَوْءُهَا) وصله عبدُ بن حُميد عن مجاهدٍ قال: {وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا} قال: ضوءها.
          قال الإسماعيليُّ: يريد أن الضُّحى يقع في صدرِ النَّهار وعنده يشتدُ إضَاءة الشَّمسِ، وروى ابن أبي حاتم عن قتادة والضَّحاك قال: {ضُحَاهَا} النهار.
          ({أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ}) يريد قوله تعالى في سورة يس: {لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ} [يس:40] قال مجاهدٌ في تفسيرها ممَا وصله الفريابيُّ: (لاَ يَسْتُرُ) بضمِّ الفوقية بعد السِّين المهملةِ الساكنة؛ أي: لا يُعطي (ضَوْءُ أَحَدِهِمَا ضَوْءَ الآخَرِ وَلاَ يَنْبَغِي لَهُمَا ذَلِكَ) يعني: لا يصحُّ للشَّمسِ والقَمرِ أن يُدرِكَ أحدهما الآخر في السِّير فلا يستُرُ ضوء أحدهما ضوءَ الآخر، فافهم.
          وأشار بقوله: ((لا يستر ضوءَ أحدهما الآخرُ)) إلى النَّعيم، وأنه ليس خاصًّا بالشَّمس، وقال عكرمةُ: لكلٍّ منهما سلطانٌ فلا ينبغي للشَّمسِ أن تطَّلع بالليل ولا يستقيمُ لوقوعِ التَّدبير على المعاقبةِ وما ألطف قولَ ابن الجوزِيِّ وقد وصفَ أثر منافع الشَّمس في العالَمِ على سبيلِ التَّذكير والتَّعريف بصنع الله الحكيم اللطيف حيث قال: تبرز الشُّمس بالنَّهار في حُلَّةِ الشَّعاع لانتفاعِ البصرِ فإذا ذهب النَّهار نَشَرتْ رداءَها المعَصفر ونزلت عن الأشْهُب فركِبَتْ الأصفرَ فهي تستترُ بالليل لسكونِ الخلقِ وتظهرُ بالنَّهار لمعايشِهِم فتارةً تبعدُ ليرطبَ الجوُّ وينعقِدَ الغيمُ ويبردَ الهوى ويبرزَ النَّباتُ وتارةً تقربُ ليجفَ الحبُّ وينضجَ الثَّمرُ.
          ({سَابِقُ النَّهَارِ}) يريد قوله تعالى في يس أيضاً: {وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ} [يس:40] بإضافة {سَابِقُ} قال مجاهدٌ فيما وصلهُ الفريابيُّ عنه: (يَتَطَالَبَانِ) أي: الليل والنَّهار (حَثِيثَانِ) أي: سريعان ومنه قوله تعالى: {يَطْلُبُهُ حَثِيثاً} [الأعراف:54] ولأبوي ذرٍّ والوقت والأصيلِيِّ وابن عسَاكر: <حثيثين> بالنصب على الحال، وأما الرَّفع فعلى أنَّه خبرٌ لمحذوفٍ والجملةُ حاليةٌ، وفي الكلام حذفُ مضافين؛ أي: لا تسبق آيةُ اللَّيلِ وهي: القمر آيةَ النَّهار وهي الشَّمس وقيل: {لا} في قوله: {وَلَا اللَّيْلُ} أي: زائدة؛ لأن اللَّيل قبل النَّهارِ؛ لأن الظُّلمة قبل النُّور.
          ({نَسْلَخُ}) يريد قوله تعالى في يس: {وَآَيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ} [يس:37] (نُخْرِجُ) بضمِّ النون (أَحَدَهُمَا مِنَ الآخَرِ) وصلَهُ الفِريَابِيُّ عن مجاهد بلفظ: يخرجُ أحدهما من الآخر، ولأبي ذرٍّ عن الحمويِّ والمستملي: <ينسلخ: يخرج> بمضارعِ الغائب فيهما وفتحِ أول كل منهما.
          (وَيجْرِي كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا) أي: يسيرُ في فلكه فـ((يجري)) بفتحِ أولِهِ وكسرِ الرَّاء و((كلَّ)) فاعله، وهذه رواية أبي ذرٍّ عن الحمويِّ والمستملي، ولغيره: <ويُجزِئ> بضمِّ أوله وكسرِ الزاي وفي قوله: ((نخرج أحدهما من الآخر)) إشارةٌ / إلى أنَّ الإخراجَ لا يختص بالنَّهار بل العكس كذلك، ولا يخفَى ما في {نَسْلَخُ} من الاستعارةِ التَّبعيَّة.
          وقال ابنُ كثير: المعنى في هذا أنَّهُ لا فترة بين اللَّيلِ والنَّهارِ بل كلٌّ منهما يَعقُبُ الآخرَ بلا مهْلةٍ لأنَّهما مسخرانِ دائبين يتطالبان طلباً حثيثاً.
          وقال البيضاويُّ: {لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا} أي: يصح لها ويَسْهُل أن تدرِكَ القمرَ في سرعةِ سيرِهِ فإن ذلك يُخِلُّ بتكون النَّباتِ وتعيُّش الحيوان أو في آثارِهِ ومنافعِهِ أو مكانه بالنُّزول إلى محله أو سلطانه فينطمس نورُهُ قال: والـ((لا)) حرف النفي للشَّمس للدلالةِ على أنَّها مُسخَّرةٌ لا يتيسَّر لها إلا ما أريدَ بها {وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ} يسبقه فيفوته ولكن يعاقبه.
          وقيل: المراد بهما آيتاهما وهما النِّيران وبالسَّبق سبق القمرِ إلى سلطان الشَّمس، فيكون عكساً للأول وتبديل الإدراك بالسَّبق؛ لأنَّه الملائم لسرعةِ سيرِهِ، انتهى.
          وقال في ((الانتصاف)): يؤخذ من قوله تعالى: {وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ} أنَّ النَّهار تابعٌ للَّيل إذ جَعل الشَّمسَ التي هي آيةُ النَّهار غيرَ مُدرِكةٍ للقمرِ الذي هو آية الليلِ فنفى الإدراكَ الذي يمكن أن يقعَ وهو يستدعِي تقدمَ القمرِ وتبعيةَ الشَّمس فإنَّه لا يقال أدرك السَّابقُ اللَّاحقَ لكن يقال: أدركَ اللَّاحقُ السَّابقَ فالليلُ إذاً متبوعٌ والنَّهارُ تابعٌ.
          فإن قيل: فالآية مصرِّحة بأن الليلَ لا يسبق النَّهارَ؟
          فجوابه: أنه مشترك الإلزامِ؛ إذ الأقسام المحتملة ثلاثةٌ: إمَّا تبعيَّة النهار للَّيل كمذهبِ الفقهاء أو عكسِهِ وهو منقولٌ عن طَائفةٍ من النُّحاةِ أو اجتمَاعِهِما فهذا القسم الثَّالث منفيٌّ بالاتِّفاق فلم يبقَ إلَّا تبعيَّة النَّهارِ اللَّيلَ وعكسُهُ، والسُّؤال واردٌ عليهما، لا سيِّما من قال: إنَّ النَّهار سابقُ اللَّيل، يلزمُ من طريق البلاغةِ أن يقول: ولا اللَّيلُ يدركُ النَّهارَ؛ فإنَّ المتأخر إذا نُفِيَ إدراكه كان أبلغ من نفي سَبْقيَّته مع أنه ناءٍ عن قوله: {لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ} [يس:40] نأياً ظاهراً، فالتَّحقيق أن المنفيَّ: السبقيةُ الموجبة لتراخِي النَّهار عن اللَّيل وتخلُّل زمنٍ آخرَ بينهما فيثبتُ التَّعاقبُ، وحينئذٍ يكون القولُ بسبقِ اللَّيل مخالفاً لصدرِ الآية فإن بين عدم الإدراك _الدَّال على التأخر والتَّبعية_ وبين السَّبق بوناً بعيداً، ولو كان تابعاً متأخراً؛ لكان حَرِيًّا أن يوصَفَ بعدم الإدراك، ولا يُبلغ به عدمُ السَّبق فتقدمُ اللَّيل على النَّهار مطابقٌ لصدرِ الآية صَريحاً، ولعجزِها بتأويلٍ حسنٍ، انتهى. فتأمله.
          تنبيه: يحتملُ أن يريدَ البخاريُّ بقوله: ((ويجري كل واحد منهما)) تفسيرَ قوله تعالى: {وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} [يس:40] أو تفسير: {وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا} [يس:38] أي: والقمر مثلها فأشارَ إلى التَّعميم فأشارَ إلى أنَّ الحكمَ عام لهما، كما قال فيما تقدم آنفاً في: {لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ} لا يستر ضوء أحدهما ضوء الآخرٍ، فتدبر.
          ({وَاهِيَةٌ}) يريد قوله تعالى في الحاقة: {فَهِيَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ} [الحاقة:16] (وَهْيُهَا) بفتحِ الواو وسكون الهاء مبتدأ (تَشَقُّقُهَا) بفتحِ الفوقية والشِّين المعجمةِ والقاف الأولى المشدَّدة مصدر خبر ((وهيها)) وهذا قول الفراء، وروى الطبريُّ: عن ابن عبَّاس في قوله: واهية قال: متمزِقة ضعيفةٌ، وقال البيضاويُّ: ضعيفة مسترخيةٌ.
          ({أَرْجَائِهَا}) يريد قوله تعالى: {وَالْمَلَكُ عَلَى أَرْجَائِهَا} [الحاقة:17] (مَا لَمْ يَنْشَقَّ مِنْهَا) ((ما)) موصُولة أو نكرةٌ موصُوفة و((يَنْشَقَّ)) بفتحِ التحتيَّة وسكون النون وفتحِ الشِّين المعجمةِ فقاف واحدة مشددة، وفي بعض الأصُول: <يَتشقَّق> بمثناة فوقية مفتوحة بدل النون وبقافين أولاهما مشددة وضمير ((منها)) كـ{أَرْجَائِهَا} عائد إلى السماء في قوله: {وَانْشَقَّتِ السَّمَاءُ} والأرجاء بالمد وتثنيتُهُ رَجوان كعصوان جمع: رجا _بالقصرِ_:الجوانب.
          (فَهْيَ) أي: الملائكة، ولأبي ذرٍّ: <فهو> أي: الملَكُ، ولابن عسَاكر: <فهم> أي: الملائكة لأن اللام في: {وَالْمَلَكُ عَلَى أَرْجَائِهَا} للجنس (عَلَى حَافَتَيْهِ) بالتثنيةِ وتخفيفِ الفاء وتذكيرِ الضَّمير وإن رجعَ للسَّماء لتأويلهِ بمكان مثلاً وإلا فالسَّماءُ مؤنثةٌ ولذلك وقعَ في رواية الكُشميهَنيِّ: <على حافتيها> بالتأنيثِ.
          وقال شيخُ الإسلام: ((على حافتيه)) أي: حافتي ما لم ينشق منها، وفي البغويِّ: قال الضَّحاك: تكون الملائكةُ على حافاتها حتى يأمرَهُم الرَّبُّ فينزِلون فيُحيطون بالأرضِ ومن عليها.
          (كَقَوْلِكَ عَلَى أَرْجَاءِ البِئْرِ) أي: في أنَّ المرادَ على حافتيها فضَمير {أَرْجَائِهَا} في الآيةِ للسَّماء، وقيل: للدنيا.
          ففي ((الفتح)): روى الطبريُّ: عن سعيد بن جُبير: / على حافات الدُّنيا، قال: وصوَّب الأول، وأخرج عن ابن عبَّاس قال: والملكُ على حافاتِ السَّماء حين تشقَّق.
          وقال البيضاويُّ: في الآية {وَالْمَلَكُ} أي: والجنس المتعارف بالملَكَ {عَلَى أَرْجَائِهَا} أي: جوانِبِها جمع رَجا بالقصر، قال: ولعله تمثيلٌ لخرابِ السماءِ بخرابِ البُنيان وانضواء أهلها إلى أطرافِها وحواليها وإن كان على ظاهرِهِ فلعلَ هلاكَ الملائكة إِثْرَ ذلك، انتهى. فتأمله.
          ({أَغْطَشَ}) أي: من قوله تعالى في النازعات: {أَغْطَشَ لَيْلَهَا} [النازعات:29] (وَ{جَنَّ}) من قوله تعالى في سورة الأنعام: {فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ} [الأنعام:76] (أَظْلَمَ) تفسيرٌ للَّفظينِ، وتفسيرُ الأولِ منقولٌ عن قتادةَ لكن توقف فيه الإسماعيلي فقال: معنى {أَغْطَشَ لَيْلَهَا}: جعله مظلماً، وأمَّا {أَغْطَشَ} غير متعدٍّ فإن ساغ فهو صَحِيحُ المعنى، ولكنَّ المعروف: أظلمَ الوقتُ: جاءت ظلمتُهُ، وأظلمنا: وقعنا في ظلمَةٍ.
          ورده في ((الفتح)) فقال: لم يُرِدْ البخاريُّ القاصرَ؛ لأنه في الآية متعدٍّ، وإنما أرادَ تفسير: {أَغْطَشَ} فقط، قال: وأمَّا الثاني فهو تفسيرُ أبي عبيدة لكنَّه قال: أي: غطى عليه وأظلمَ.
          (وَقَالَ الْحَسَنُ كُوِّرَتْ) بتشديد الواو مبني للمفعول يُريد في قوله تعالى: {إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ} [التكوير:1] (تُكَوَّرُ) بتشديد الواو مبنيٌ للمفعول؛ أي: الشَّمسُ (حَتَّى يَذْهَبَ ضَوْؤُهَا) هذا التَّفسير وصلهُ ابن أبي حاتم عن الحسنِ.
          قال في ((الفتح)): وكأنَّ هذا يقوله قبل أن يسمعَ حديثَ أبي سلمةَ عن أبي هُريرة الآتي في هذا الباب، وإلَّا فمعنى التَّكوير: اللَّف، تقول: كوَّرتُ العمَامةَ: إذا لففتَها، والتكويرُ أيضاً الجمع: تقول كورتُهُ إذا جمعتَهُ، قال: وأخرج الطبريُّ عن ابن عباس: {إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ} يقول: أظلمتْ، وعنه: {كُوِّرَتْ} رُمِيَ بها، وعن مجاهد: {كُوِّرَتْ} اضمحلَّتْ.
          قال الطبريُّ: التَّكوير في الأصْلِ الجمعُ، وعلى هذا فالمرادُ بها تُلَفُّ ويُرمَى بها فيذهبُ ضوءُها، انتهى.
          وقال البيضاويُّ: {كُوِّرَتْ} لفت من كَوَّرتُ العمَامةَ: إذا لفَفتَها، بمعنى: رُفِعَتْ؛ لأن الثَّوب إذا أريد رفعُهُ لُفَّ، أو لُفَّ ضوءُها فذهب انبسَاطه في الآفاقِ وزالَ أثرُه، وألقيتُ عن فلكِها من طعَنَهُ فكوَّرَهُ إذا ألقَاهُ مجتمعاً قال: والتركيبُ للإدارةِ والجمعِ.
          ({وَاللَّيْلِ وَمَا وَسَقَ}) ولابن عسَاكر زيادة: <يقال: وَسَقَ> (جَمَعَ مِنْ دَابَّةٍ) أي: لسكونها فيه وانضمام بعضِ الدوابِّ إلى بعضٍ فيه، ومنه: الوَسَقُ: ستُّون صاعاً لانضمامِ بعض الصِّيعان إلى بعض وزاد قتادةُ: ونجم، وقال عكرمةُ: ما سَاقَ من ظُلمَةٍ.
          ({اتَّسَقَ} اسْتَوَى) يريد في الموضعينِ قوله في الانشقاق: {وَاللَّيْلِ وَمَا وَسَقَ. وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ} [الإنشقاق:17-18] وقد وصلهما عبد بن حُميد عن الحسن البَصْري، وقال البيضاويُّ: {وَاللَّيْلِ وَمَا وَسَقَ} أي: وما جمعه وستره من الدَّوابِّ وغيرها، يقال: وسَقَه فاتَّسَقَ واستَوْسَق، قال: مُسْتَوسِقَاتٍ لو يجدن سائِقا أو طرده إلى أماكنه من الوسقة، {وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ} أي: إذا اجتمع وتمَّ بدراً.
          ({بُرُوجًا}) أي: في قوله تعالى في الفرقان: {تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجاً} [الفرقان:61] (مَنَازِلَ الشَّمْسِ وَالقَمَرِ) تفسير البُخاري {بُرُوجاً} بـ((منازل الشمس والقمر)) لم أرَ من نسبه إلى معينٍ فضلاً عمَّن وصلَهُ لكن رأيتُ في بعض نسخِ ((فتح الباري)) على الهامشِ قال: وصلَهُ عبدُ بن حُميد فليحرَّر.
          وقال في ((الفتح)): وروى الطبريُّ من طريق مجاهدٍ قال: البروجُ: الكواكبِ، ومن طريقِ أبي صالح قال: هي النُّجوم الكِبَار، وقيل: هي قصُورٌ في السَّماء، وقيل: قصورٌ على أبوابِ السَّماء فيها الحرس، وعند أهلِ الهيئةِ: البروجُ غيرُ المنازلِ، فالبروجُ اثنا عشر، والمنازلُ ثمانية وعشرون، وكلُّ برجٍ عبارةٌ عن منزلتين وثلث منها.
          وقال البيضاويُّ هنا: سمِّيتْ بالبروجِ وهي القصُورُ العالِيَةِ؛ لأنَّها الكَواكبُ السَّيَّارة كالمنازلِ لسكانها، واشتقاقه من التبرُّجِ لظُهورِهِ، وقال: في تفسير {وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ} أي: قدَّرنا سيرهُ في منازلِ هي ثمانية وعشرون: الشَّرطين البطين الثريا الدبران الهقعة الهنعة الذراع النثرة الطرف الجبهة الزبرة الصرفة العواء السماك الغفر الزباني الإكليل القلب الشولة النعائم البلدة سعد الذابح سعد بلع سعد السعود سعد الأخبية فرغ الدلو المقدم فرغ الدلو المؤخر الرشا وهو بطن الحوت ينزل _أي: القمر_ كلَّ ليلةٍ في واحدة منها لا يتخطاها ولا يتقاصر عنها، فإذا كان في آخرِ منازلهِ وهو الذي يكون القمر قُبَيل الاجتماع دقَّ واستقوس، انتهى.
          وهذه البروج تقطعها الشَّمسُ في كلِّ سَنَةِ / مرةً، ولعلَّ هذه المشَارق والمغاربُ تكون للقمرِ أيضاً كما أنَّ البروجَ تكون للشَّمسِ أيضاً لكن السَّير فيهما مختلف، فليراجع.
          وفي البغويِّ: قال ابن عبَّاس: هي البروجُ الاثني عشر التي هي منازلُ الكواكبِ السَّبعة السيَّارة وهي: الحمل والثَّور والجوزاء والسَّرطان والأسد والسُّنبلة والميزان والعقرب والقوس والجدي والدَّلو والحوت فالحملُ والعقربُ بيتا المريخ، والثورُ والميزانُ بيتا الزُّهرة، والجوزاءُ والسُّنبلةُ بيتا عطارد، والسَّرطان بيت القمر، والأسد بيت الشَّمس، والقوس والحوت بيتا المشتري، والجدي والدَّلو بيتا زحل، وهذه البروج منسوبةٌ على الطِّباعِ الأربع فيكون نصيبُ كلِّ واحدٍ منهما ثلاثةُ بروج تُسمى المثلثات: فالحمل والأسد والقوس مثلثة نارية، والثور والسنبلة والجدي مثلثة أرضية، والجوزاء والميزان والدلو مثلثة هوائية، والسرطان والعقرب والحوت مثلثة مائية.
          ({الحَرُورُ}) يريد قوله في سورة فاطر: {وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ} [فاطر:21] ولأبي ذرٍّ: <فالحرور> بالفاءِ (بِالنَّهَارِ مَعَ الشَّمْسِ) هذا تفسير أبي عبيدة، كما وصلَهُ إبراهيمُ الحربيُّ عن الأشرمِ عنه (وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ الحَرُورُ) ولأبي ذرٍّ وابن عسَاكرَ: <قال ابن عبَّاس _ورؤبة؛ أي: ابن العجَاج_ الحرور> (بِاللَّيْلِ وَالسَّمُومُ بِالنَّهَارِ) هذا تفسيرُ ابن عبَّاس، وقال الفرَّاء: {الْحَرُورُ} الدَّائم _ليلاً كان أو نهاراً_ والسَّموم بالنَّهار.
          قال في ((الفتح)): أمَّا قول ابن عبَّاس فلم أرهُ موصُولاً عنه، وأمَّا قولُ رؤبة؛ أي: ابن العجَاجِ التَّميمي الرَّاجز، فذكره أبو عُبيدَةَ عنه في ((المجاز)) وقال السُّدي: المراد بالظِّلِ والحرورِ في الآية: الجنَّة والنار أخرجه ابنُ أبي حاتم عنه.
          وعبارةُ البيضَاويِّ: ولا الثَّواب ولا العقاب، و((لا)) لتأكيدِ نفِي الاستواء وتكررها على سبيلِ الشِّقين لمزيد التَّأكيد، والحَرُورُ: فعول، من الحرِّ غلبَ على السَّموم، وقيل: السَّموم ما يهبُّ نهاراً والحَرور ما يهبُّ ليلاً.
          (يُقَالُ: {يُولِجُ} يُكَوِّرُ) يريد تفسير قولهِ تعالى: {يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ} [الحديد:6] وقد وقعَ في سورٍ كثيرةٍ منها في أوائل آل عمران لكن بالفوقية أوله.
          قال الكرمانيُّ ومن تبعَه: واعلمْ أنَّ هذه الكلمات من قولِهِ: ((قال مجاهد...إلخ)) لم توجدْ في بعضِ النُّسخِ، فاعرفه.
          قال البيضاويُّ: الولوجُ: الدُّخولُ في مضيقٍ، وإيلاجُ اللَّيل والنَّهارِ إدخالُ أحدهما في الآخرِ بالتَّعقيبِ أو الزِّيادةِ والنَّقص، انتهى.
          و((يكوِّر)) بتشديدِ الواو، وبراءٍ آخره، قال في ((الفتح)): كذا في رواية أبي ذرٍّ قال: ورأيتُ في رواية ابن شَبُّويه يكون بالنون وهو أشبَه، انتهى. فليتأمل.
          فإنَّ الظَّاهرَ رواية الرَّاء ثم رأيتُ العينيَّ اعترضه فقال: الأشبهُ بالرَّاء لأنَّ معنى يكوِّر يلُّف النَّهارَ في اللَّيلِ، وقال أبو عبيدة: {يُولِجُ} أي: يُنقِصُ من اللَّيلِ فيزيدُ في النَّهار، وكذلك النَّهار؛ أي: فيولجُ من النَّهارِ فيزيدُ في اللَّيلِ.
          ({وَلِيجَةً}) يريد من قوله تعالى: {وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَا رَسُولِهِ وَلَا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً} [التوبة:16] في براءة (كُلُّ شَيْءٍ أَدْخَلْتَهُ فِي شَيْءٍ) هذا تفسير أبي عبيدةَ، وزادَ بعد قوله: ((في شيءٍ)) ليس منه فهو وليجةٌ، والمعنى في الآيةِ: لا تتَّخذوا ولياً ليسَ من المسلمين.
          وقال البيضاويُّ: {وَلِيجَةً} بطانةً؛ أي: من غيرِ المؤمنين يوالونَهُم ويُفْشُون إليهم أسرَارهُم.
          وقال العينيُّ: قال المفسِّرون: الوليجَةُ: الخيَانةُ.
          تنبيه: {وَلِيجَةً} في الآية منصوبٌ على أنَّهُ مفعول: {وَلَمْ يَتَّخِذُوا} فإن حكاه كانَ مرفوعاً بضمةٍ مقدرةٍ منعَ من ظهورِها حركةُ الحكايةِ على أنَّه مبتدأ، وإن لم تحكِهِ فالرفع ظاهرٌ وخبرُهُ ((كلُّ شيءٍ)) وجملة: ((أدخلتَهُ في شيءٍ)) صفة: ((كل)) أو ((شيء)) فافهم.