الفيض الجاري بشرح صحيح الإمام البخاري

باب ما جاء في قوله: {وهو الذي أرسل الرياح نشرًا بين يدى رحمته}

          ░5▒ (باب مَا جَاءَ) أي: ورَدَ (فِي قَوْلِهِ تعالى) وفي بعضِ الأصُول: <╡> بدل: ((تعَالى)) أي: في سورةِ الأعرافِ ({وَهُوَ}) أي: الله ({الَّذِي يُرْسِلُ}) الموصُول: خبر الضَّمير، والجملة الفعليَّة: صلةُ الموصُول (الرِّيَاحَ) جمع: الرِّيح ويُجمع أيضاً على أرواح وأرياح، والياء مقلوبةٌ عن الواو، وقرأ ابنُ كثيرٍ وحمزةَ والكسائيُّ: ▬الريح↨ مفرداً.
          (▬نُشُراً↨) حال وهو: بضمَّتين جمع نشورٍ بمعنى: ناشِرٍ، وقرأ ابنُ عامر: ▬نشْراً↨ بسكونِ الشِّين حيث وقعَ، وقرأ حمزةُ والكسائيُّ: ▬نَشْراً↨ بفتحِ النون وسكون الشِّين حيث وقع على أنَّهُ مصدرٌ في موضع الحال بمعنى: ناشراتٍ أو مفعول مطلق فإنَّ الإرسالَ والنَّشرَ متقاربان، وقرأ عاصم: {بُشْراً} بضمِّ الموحَّدة وسكون الشِّين مخفف بُشُر _بضمتين_ جمع بَشيرٍ، وقُرئ به شاذاً، وقُرئ: ▬بَشراً↨ بفتحِ الموحَّدة مصدر بشره بمعنى: باشراتٍ، وقُرئ: ▬بُشْرَى↨ كزُلْفَى مصدر باشر من البِشَارة.
          (بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ) أي: قُدَّام رحمتِهِ، وهي المطرُ، فإنَّ الصِّبا تثير السحاب والشِّمال تجمَعُهُ، والجنوب تدرُّهُ، والدَّبُور تفرِّقُهُ، وسيأتي تفسير نشراً بمتفرِّقَةٍ، قال البغويُّ: وهي الرِّياح التي تهبُّ من كلِّ ناحيةٍ، ثم فسر الرَّحمة بالمطر، وقد جرى البخاريُّ على عادتهِ الغالبةِ من تفسير كلمات قرآنيَّة متفرِّقة لأدنى مناسبةٍ، فقال: ({قَاصِفاً}) يريد من قوله تعالى في الإسراء: {فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قَاصِفاً مِنَ الرِّيحِ فَيُغْرِقَكُمْ بِمَا كَفَرْتُمْ} [الإسراء:69] (تَقْصِفُ) بفتحِ أولِهِ وسكون القاف وكسرِ الصَّاد؛ أي: تَحْطُم (كُلَّ شَيْءٍ) أي: تكسرُهُ: إذا مرَّت عليه.
          وروى الطبريُّ منقطعاً عن ابن عبَّاس أنَّه قال: القاصفُ التي تفرِّق ذكره ابن جُريج ففي ((القامُوس)): قصفَهُ يقصِفُهُ: كسَرَه، والرَّعدُ وغيره قَصيفاً: اشتدَّ صوتُهُ، قال: وفي الحديث: ((أنا والنَّبيُّونَ فُرَّاطٌ القاصِفينَ)) همُ المزدَحِمونَ، كأنَّ بعضَهم يقصِفُ بعضاً لِفَرْطِ الزِّحامِ بداراً إلى الجنَّةِ؛ أي: نحن متقدِّمونَ في الشَّفاعةِ لقومٍ كثيرينَ مُتَدافِعين، انتهى.
          ({لَوَاقِحَ}) يريد قولهُ تعالى في الحِجْر: {وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ} [الحجر:22] (مَلاَقِحَ) بفتحِ الميمِ (مَلْقَحَةً) بفتحِ الميمِ / والحاء، وهو من النَّوادرِ، يقال: أَلقَحَ الفحلُ النَّاقةَ والرِّيحُ السَّحابَ، ورياحٌ لواقحُ، قاله الكرمانيُّ.
          وقال البيضاويُّ: {لَوَاقِحَ} حوامل شبَّهَ الريحَ التي جاءت بخيرٍ من إنشاءِ سحابٍ ماطِرٍ بالحامل كما شبَّهَ ما لا يكون كذلك بالعَقيمِ، أو ملقحاً للشَّجرِ والسَّحابِ ونظيرُهُ الطوائِحُ بمعنى المُطيحاتِ في قوله: ومُختَبِطٌ مِمَّا تطيحُ الطَّوائح، وقُرئ: ▬وأرسلنا الريح↨ على تأويل الجنس، انتهى.
          وقال في ((الفتح)): يريد أنَّ أصلَ {لَوَاقِحَ} ((مَلَاقِحُ)) واحدها: مُلقَّحَةٌ، وهو قول أبي عُبيدة وفاقاً لابن إسحاق وأنكرَهُ غيرهما، قالوا: لواقِحُ جمع: لاقحةٍ ولاقِحٍ، وقال الفرَّاءُ: فإن قيل الريحُ ملقِّحةٌ؛ لأنها تُلقِّحُ الشَّجرَ فكيف قيل لها: لواقِحُ؟ فالجواب فيها على وجهين:
          أحدهما: أن تُجعَلَ الريحَ هي التي تُلقِّحُ بمرورها على الترابِ والماءِ فيكون فيها اللِّقاحُ، فيقال: ريحٌ لاقِحٌ كما يقال: ماءٌ لاقِحٌ ويؤيده وصفُ الريحِ بأنها عقيمٌ.
          ثانيهما: أنَّ وصفها باللَّقحِ لكون اللَّقح يقعُ فيها كما تقولُ ليلٌ نائمٌ، وقال الطبريُّ: الصَّواب أنَّها لاقحَةٌ من وجهٍ ملقِّحةٌ من وجهٍ؛ لأن لقحَهَا حملُها بالماءِ وإلقاحُها عملُها في السَّحابِ، ثم أخرَجَ من طريقٍ قويٍّ عن ابن مسعودٍ، قال: يرسلُ اللهُ الرياحَ فتحمل الماء فتُلَقِّحُ السَّحاب وتمرُّ به فتُدِرُّ كما تُدِرُّ اللَّقْحةُ ثم تمطِرُ، وقال الأزهريُّ: جعلَ الريح لاقحاً؛ لأنها تُقِلُّ السحابَ وتصرفه ثم تمرُّ به فتستدره والعرب تقول للرَّيح الجنُوب: لاقحٌ وحاملٌ، وللشَّمال: حاملٌ وعقيمٌ، انتهى.
          وقال ابن عبَّاس: تُلقِّحُ الرياحُ الشَّجر والسَّحاب تمرُّ به والذَّارياتُ والمرسلاتُ والمبشِّراتُ، وأمَّا العذابُ فالعَاصفُ والقَاصفُ، وهما في البحر، والصَّرصرُ والعقيمُ وهما في البَرِّ.
          ({إِعْصَارٌ}) بكسرِ الهمزةِ (رِيحٌ عَاصِفٌ تَهُبُّ مِنَ الأَرْضِ إِلَى السَّمَاءِ كَعَمُودٍ فِيهِ نَارٌ) يريد تفسير: {إِعْصَارٌ} من قوله تعالى في سورة البقرة: {فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ} [البقرة:266] وهذا تفسيرُ أبي عُبيدة بلفظِهِ.
          وروى الطبريُّ: عن السديِّ قال: الإعصَارُ: الريح، والنَّارُ السَّموم، وعن الضَّحاك: الإعصَار: ريح فيها بردٌ شديدٌ، والذي فسَّر به البخاريُّ أظْهَر لقولهِ تعالى: {فِيهِ نَارٌ}، وقيل: الإعصَارُ: ريحٌ عاصفٌ فيها سمومٌ، وقيل: هي التي تسمِّيها الناسُ: الزَّوبعة.
          وقال البيضاويُّ: الإعصَارُ ريحٌ عاصفٌ تنعكسُ عن الأرضِ إلى السَّماء مُستديرة كعمودٍ، والمعنى: تمثيلُ حالٍ ممن يفعل الأفعالَ الحسنةَ ويضم إليها ما يحبِطها كرباً وإيذاء في الحسرَةِ والأسفِ إذا كان يوم القيامة واشتدَّتْ حاجتُهُ إليها وجدَها محبَطةً بحالِ من هذا شأنه مَن جَالَ بسرِهِ في عالم الملكوت وترقَّى بفكرِهِ إلى جانبِ الجبروتِ، ثم نقضَ على عقبَيْهِ إلى عالم الزُّور والتفَتَ إلى ما سوى الحقِّ وجعلَ سعيهُ هباءً منثوراً.
          ({صِرٌّ} بَرْدٌ) يريد تفسير قولهِ تعالى في آل عمران: {كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ} [آل عمران:117] وهذا تفسيرُ الحسنِ البصرِيِّ، وقال أبو عبيدةَ: الصِّرُّ: شدَّة البردِ.
          وقال البيضاويُّ: {صِرُّ} بردٌ شديدٌ والشَّائع إطلاقُهُ للرِّيح الباردَةِ، كالصَّرصَرِ فهو في الأصلِ مصدرٌ نُعِتَ به أو نعتٌ وُصِفَ به البردُ للمبالغةِ كقولك: بردٌ باردٌ (نُشُراً: مُتَفَرِّقَةً) هو ما في الآية المذكورة أوَّلَ الباب، وهذا التَّفسيرُ مُقتضَى كلام أبي عُبيدة فإنه قال: نُشُراً؛ أي: من كلِّ مَهَبٍ وجانِبٍ وناحيَةٍ.