الفيض الجاري بشرح صحيح الإمام البخاري

باب: في النجوم

          ░3▒ (بابٌ فِي النُّجُومِ) أي: في بيان ما جاء فيها، وهي بضمِّ النون، جمع: نَجْمٍ، بفتحها.
          قال في ((القامُوس)) النَّجم: الكوكَبُ، والجمع: أنجُمٌ وأنْجامٌ ونُجومٌ ونُجُمٌ، ومن النَّبات: ما نَجَمَ على غير ساقٍ، والثُّريَّا والوقتُ المَضروبُ، واسمٌ، والأصلُ، وكلُّ وظيفةٍ من شيءٍ، انتهى.
          وفي ((المصباح)): قال ابن فارسٍ: النَّجمُ وظيفةُ كلِّ شيءٍ وكلُّ وظيفة نجمٌ، وإذا أطلقت العرب النَّجم أرادوا به الثُّريَّا، وهو علَمٌ عليها بالألف واللام، والنَّجمُ من النَّباتِ: ما لا ساقَ له يعظُمُ ويقومُ به.
          تنبيه: الكواكبُ على قسمين:
          سيَّارةٌ وهي سبعةٌ: أحدها القمر في السَّماءِ الدُّنيا، عُطارد في السَّماءِ الثانية، الزُّهرة في السَّماءِ الثالثة، الشَّمس في السَّماءِ الرابعة، المِرِّيخ في الخامسة، المُشتَري في السادسة، زُحل في السابعة.
          وكواكبُ ثوابت: وهي ما عدا السَّيَّارة والكلام على ذلك جميعاً مبسوطاً في علم الهيئة فهي تقتضي أنَّ الكواكبَ الثوابتَ فيما فوق هذه الأفلاك السبعة فإنَّهم جعلوا الأفلاكَ تسعةً والسبعة لما تقدم والفَلَك الثامن للكواكب الثوابت، وأما التَّاسع فهو فَلَك الأفْلَاك ويسمَّى: الفَلَك الأطلس.
          (وَقَالَ قَتَادَةُ) بفتحِ القاف وتخفيف الفوقية؛ أي: ابن دُعامة ({وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا}) أي: في تفسير هذه الآية، والدنيا نعمت السَّماء وهي المِظلةُ للأرض ({بِمَصَابِيحَ}) متعلقٌ بـ{زَيَّنَّا} جمع مصباحٍ، وهو في الأصل السِّراج، ثم تُجُوِّزَ به عن الكوكَبِ.
          قال البيضاويُّ: {وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا} أي: أقربُ السَّماواتِ إلى الأرضِ {بِمَصَابِيحَ} بكواكبَ مضيئةٍ بالليل إضاءةَ السَّرج فيها، ولا يَمنع من ذلك كون بعض الكواكبِ مَركُوزةً في سماواتٍ فوقها إذ التَّزيين بإظهارها عليها وتنكيرُ مصابيح للتَّعظيم.
          وقوله: (خَلَقَ هَذِهِ النُّجُومَ لِثَلاَثٍ) تفسيرٌ من قتادةَ للآيةِ و((لثلاثٍ)) متعلق بـ((خلَقَ)) على أنه علةٌ له وبيَّن الثلاثَ بقوله: (جَعَلَهَا) أي: النُّجوم، والفاعلُ هو الله (زِينَةً لِلسَّمَاءِ) مفعولٌ ثانٍ لـ((جعلها)) أي: مزيِّنَةً للسَّماء بحسنها وإضاءَتها وهو أَوْلى من قولِ القسطلَّاني: تُضِيء باللَّيل إضاءةَ السُّرجِ، فافهم.
          (وَرُجُوماً لِلشَّيَاطِينِ) عطف على ((زينة)) أي: وجعلها اللهُ مَرجوماً بها الشَّياطين، وقال القسطلَّاني _تبعاً لشيخ الإسلام_ الضَّمير في قوله تعالى: {وَجَعَلْنَاهَا} يعودُ على جنسِ المصَابيح لا على عينِها؛ لأنَّهُ لا يُرمى بالكواكبِ / التي في السَّماءِ بل بشُهُبٍ من دونِها وقد تكون مُستَمَدَّة منها، انتهى.
          وقال البيضَاويُّ: وجعلنا لها فائدةً أخرى وهي: رجمُ أعدائكَ بانقضَاضِ الشُّهب المسبَّبَة عنها وقيل: معناه جعلناها رُجوماً وظنوا بالشياطين الإنس وهم المُنجِّمون، والرُّجُوم جمع: رَجْمٍ بالفتح وهو مصدرٌ سمي به ما يرجم به، انتهى.
          وأقول: قوله: بانقضاضِ الشُّهب عنها هو كما قال الخفاجِي وغيره: مبنيٌّ على مذهبِ الحكماء أن الكواكبَ نفسها غير منقضَّةٍ وإنما المنقضُّ شُعُلٌ ناريةٌ تحدثُ من أجزاء متصَاعدة لكُرَةِ النَّار لكنها بواسطةِ تسخينِ الكواكبِ للأرضِ.
          (وَعَلاَمَاتٍ) جمع: علامة (يُهْتَدَى بِهَا) بالبناء للمفعولِ قال تعالى: {وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ} [النحل:16] قال البيضاويُّ: المراد: {بالنَّجمِ} الجنس ويدلُّ عليه قراءة: ▬وبالنُّجُم↨ بضمتين وبضم وسكون على الجمع، وقيل: الثُّريا والفَرقَدان وبنات نعشٍ والجدي ولعلَّ الضَّمير لقريشٍ؛ لأنهم كانوا كثيري الأسْفارِ للتِّجارة مشهورونَ بالاهتداءِ في مسَايرهِم بالنُّجوم.
          (فَمَنْ تَأَوَّلَ فِيهَا) في الآية المذكورة كذا للحموِيِّ والمستملي، وسقط: <فيها> لغيرهما وفي بعض النُّسخ: <منها> (بِغَيْرِ ذَلِكَ) أي: فمَن فسَّر الآية بغير هذه الثَّلاثةِ من عِلْمِ أحكامِ ما تدلُّ عليه حركاتُها ومُقَارناتُها في سَيرها وأن ذلك يدلُّ على حوادثَ أرضيةٍ تقع في هذا العام فقد (أَخْطَأَ) أي: لأنَّهُ تأويل بما لا دَلالة عليه (وَأَضَاعَ نَصِيبَهُ) بفتحِ النون؛ أي: حظَّهُ ومقدارَهُ وفي بعض الأصول: <أو ضاع نصيبه> بـ((أو)) التي للتنويع (وَتَكَلَّفَ) بفتحِ اللام المشدَّدة (مَا لاَ عِلْمَ لَهُ بِهِ) أي لأنَّ أكثر ذلك حدْسٌ وتخمينٌ ودعاوي باطلةٌ وظُنونٌ كاذبةٌ.
          وهذا التعليقُ وصلَهُ كما في ((الفتح)): عبدُ بنُ حُميد من طريق شيبانَ عنه وزادَ في آخره وأنَّ ناساً جهلةً بأمرِ الله قد أحدَثُوا في هذه النُّجومِ كهانةً: من غَرَسَ بنجم كذا كان كذا، ومن سافرَ بنجمِ كذا كان كذا، ولعَمري ما من النُّجوم نجمٌ إلا ويولدُ له الطَّويلُ والقصيرُ والأحمرُ والأبيضُ والحسنُ والذَّميمُ وما عِلْمُ هذه النُّجوم وهذه الدَّابة وهذا الطَّائر بشَيءٍ من هذا الغيبِ، انتهى.
          وقال فيه: وبهذه الزِّيادةِ تظهر مناسبةُ إيرادِ المصنِّف ما أوردَهُ من تفسيرِ الأشياء التي ذكرَها من القرآنِ وإن كان بعضها ذُكِرَ استطراداً.
          وقال الدَّاوديُّ: قول قتادةَ في النُّجومِ: حسنٌ، إلَّا قوله: أخطأَ وأضَاع نصيبَه، فإنه قصَّرَ في ذلك بل قائلُهُ كافرٌ، انتهى.
          وردَّ عليه في ((الفتح)): بأنه لا يتعيَّنُ الكفرُ في حقِّ من قالَ ذلك إلا إنْ نسبَ الاختراعَ والإيجادَ إليها تأثيراً، وأمَّا من جعلها علامةً على حدوثِ أمرٍ في الأرض فلا، انتهى.
          وفي ((العمدة)): وقد رَوى الخطيبُ البغداديُّ في كتاب ((ذمِّ النجومِ)) له: من حديثِ إسماعيل بنِ عيَّاش عن عُمر مرفوعاً: ((لا تسألوا عن النُّجوم)) ومن حديثِ عُبيد الله بن موسى عن عليٍّ: ((نهاني رسولُ الله عن النَّظر في النُّجوم))، وعن أبي هُريرةَ وابن مسعودٍ وابن عباسٍ وعائشةَ نحوه، وعن الحسنِ أن قيصر سأل قِسْ بن ساعدةَ: هل نظرت في النُّجوم؟ قال: نعم، نظرت فيما يُراد به الهدايةُ ولم أنظرْ فيما يُراد به الكِهانةُ.
          وفي كتابِ ((الأنواء)) لأبي حنيفة: المنكرُ والمذمُومُ من شأن النُّجومِ نسبةُ الأمرِ إليها وأنَّها هي المؤثِّرةُ، وأمَّا من نسَبَ التَّأثيرَ إلى خالِقِهَا وقال: إنَّه تعالى نصَبَها علاماتِ وصيَّرها آثاراً لِما يُحدِثهُ تعالى فلا جُناحَ عليه في ذلك.
          وقال في ((الفتح)): وذكر ابنُ دِحيَةَ في ((التنوير)): عن سلمانَ الفارِسيِّ أنَّه قال: النُّجوم كلها معلقةٌ كالقناديلِ في السَّماءِ الدُّنيا كتعليقِ القنَاديلِ في المساجدِ، انتهى.
          وقال الزركشيُّ في ((التنقيح)): هذا أي: قول قتادةَ المذكور، من أحسنِ ما يُرَدُّ به على القائلين بالنُّجوم وهو يقتضِي أنَّ الرَّجم بها لم يزلْ قبل البعثةِ.
          وقال ابنُ عبد السَّلام في ((أماليه)): إن كان المرادُ الكواكبَ الظَّاهرةَ فهي على الأصحِّ يُرجَم بها من زمان عيسَى عليه السلام إلى الآن فكيف يُجمعُ بين ذلك وبين ما يقولُهُ أهلُ التَّاريخِ والأرصَادِ لها وأنَّهُ يقتضِي ثبوتها في أماكنها وأنَّها لم يُفْقَد منها شيء ولا هي ترجِعُ إلى مواضعِهَا وإلا لرأيناهَا.
          وأجابَ بأنَّ الذي يُرجَمُ به شهبٌ تُخلق عند الرَّجم، ولذلك قال أبو عليٍّ الفارسي في قوله تعالى: {وَجَعَلْنَاهَا رُجُوماً لِلشَّيَاطِينِ} [الملك:5] الضَّمير للسَّماء؛ أي: وجعلنا شُهُبَها / على حذف المضاف فصار الضَّمير للمضافِ إليه ولم يدلْ ذلك على أنَّها عند المبْعَثِ ولا عند المولدِ.
          بل الأصح ما ذكرَ المؤرِّخون لما رُويَ أنه عليه السَّلام قال للعرب: ((ما كنتُم تعدُّون هذا في الجاهليَّةِ؟)) يعني: رمي الشُّهب، قالوا: مولدٌ عظيمٌ أو فقدٌ عظيمٌ وهو في الصِّحاح، انتهى.
          قال الزركشيُّ: وفيما قاله نظرٌ وما حكاه البخاريُّ عن قتادةَ عزاه الشَّيخ ابن عبد السَّلام لابن عبَّاس، وقال: إنه لم يصح وليس كما قال، انتهى. فتدبَّره.
          وقد جرى البُخاري على عادتِهِ الغالبةِ في ذكر تفسير كلماتٍ لها أدنى مناسبةً تكمِيلاً للفَائدةِ فقال: (وقَالَ) بالواو ولأبي ذرٍّ: <قال> قال: (ابْنُ عَبَّاسٍ) ☻ ({هَشِيماً}) بفتحِ الهاء وكسرِ الشِّين المعجمةِ (مُتَغَيِّراً) بضمِّ الميمِ وفتحِ الفوقيةِ والغين المعجمةِ وكسرِ التحتيَّة المشدَّدة.
          قال في ((الفتح)): لم أره عنه من طريقٍ موصُولةٍ لكن ذكره إسماعيل بنُ أبي زياد في تفسيرِهِ عن ابن عبَّاس، وقال أبو عُبيدة: {هَشِيماً} أي: يابساً متفتتاً و{تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ} أي: تفرِّقُهُ ولا مُنافَاة بين التَّفسيرين.
          (وَالأَبُّ) بتشديد الموحَّدة من قوله تعالى في سورة عبس: {وَفَاكِهَةً وَأَبّاً} (مَا يَأْكُلُ) بالفوقية والتحتيَّة {مَا} الموصولةُ أو النَّكرةُ الموصُوفةُ خبر ((والأَبُّ)) و((يأكل)) صلة أو صفة والعائد محذوف؛ أي: تأكله (الأَنْعَامُ) أي: الدَّواب، قال في ((الفتح)): هذا تفسير ابن عباس أيضاً وصلَهُ ابن أبي حاتم من طريق عاصمِ بن كُليب عن أبيه عنه قال: الأَبُّ ما أنبتت الأرضُ مما تأكله الدَّواب ولا يأكلُهُ النَّاس.
          ومن طريق ابن عباس قال: الأَبُّ الحشيش، ومن طريق عطاء والضحاك: الأَبُّ كلُّ شيءٍ يَنبُت على وجه الأرض، زاد الضحاك: إلا الفاكهةَ، وروى ابنُ جريرٍ من طريقِ إبراهيمَ التَّيمي أنَّ أبا بكر الصدِّيق سُئِلَ عن الأَبِّ فقال: أيُّ سماءٍ تُظلُّني وأيُّ أرضٍ تُقلُّني إذا قلت في كتابِ الله بغير علم، وهذا منقطع.
          وعن عُمر أنه قال: عرفنا الفاكهةَ فما الأَبُّ؟ ثم قال: إنَّ هذا لهو التَّكلفُ، وهو صحيح عنه أخرجه عبد بن حُميد من طرقٍ صحيحةٍ عن أنس عن عمر ☺.
          (والأَنَامُ: الْخَلْقُ) سقطتْ الواو لغير أبي ذرٍّ، وفي بعضِ الأصُول: <للأنام للخلق> هذا تفسير ابن عبَّاس ☻ أخرجَهُ ابنُ أبي حاتم عنه في قوله تعالى في الرحمن: {وَالْأَرْضَ وَضَعَهَا لِلْأَنَامِ} [الرحمن:10] قال: الخلق، والمرادُ بالخلقِ: المخلُوقُ، وعنه أيضاً قال: الأنامُ: الناس، وهذا أَخَص من الذي قبله، وعنه أيضاً قال: الأنام: الجنُّ والإنسُ، وعن الشَّعبي قال: هو كلُّ ذِي رُوح.
          (بَرْزَخٌ) أي: في قولهِ تعالى في سورة الرحمن أيضاً: {بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لَا يَبْغِيَانِ} [الرحمن:20] (حَاجِبٌ) بموحدة في آخره؛ أي: بين البحرِ الحُلو والمالحِ حاجبٌ وحاجزٌ يحُولُ بينهما فلا يختلطانِ، ولابن عسَاكر وأبي ذرٍّ عن المستملي والكُشميهَنيِّ: <حاجز> بالزاي بدل الموحَّدة وهذا تفسير ابن عبَّاس أيضاً.
          (وَقَالَ مُجَاهِدٌ) أي: ابن جَبر ({أَلْفَافاً}) أي: في قوله تعالى في عم: {وَجَنَّاتٍ أَلْفَافاً} (مُلْتَفَّةً) بتشديد الفاء المفتوحة؛ أي: ملتفاً بعضها على بعضٍ (وَالْغُلْبُ) بضمِّ الغين المعجمةِ وسكون اللام (الْمُلْتَفَّةُ) يريد قوله تعالى: {وَحَدَائِقَ غُلْباً} في عبس وصلَهُ وما قبلَهُ عبد بن حُميد عن مجاهد.
          وروى ابنُ أبي حاتم عن ابن عبَّاس قال: الحدائقُ: ما التفتَ، والغُلب: ما غلُظ، وعنه: الغُلب: شجرٌ بالجبلِ لا يحمِل يُستَظَلُ به، وعنه: {وَجَنَّاتٍ أَلْفَافاً} أي: مجتمعة.
          وقال أهلُ اللغة: الألفاف: جمع لَفٍّ أو لَفِيفٍ، وعن الكسَائي: هو جمعُ الجمع.
          وقال الطبريُّ: اللُّفافُ جمع: لفيف، وهي: الغليظةُ وليس الالتفافُ من الغِلَظِ في شيءٍ إلَّا أن يراد أنه غَلُظَ بالالتفافِ، ذكره في ((الفتح)).
          ({فِرَاشاً}) أي: من قوله تعالى في سورة البقرة: {الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشاً} [البقرة:22] (مِهَاداً كَقَوْلِهِ تعالى: {وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ} [البقرة:36]) هذا تفسيرُ قتادة والرَّبيع بن أنسٍ، كما وصله الطبريُّ عنهما، ورواه السُّدي بأسانيد عنه قال فيها: فراشاً يمشِي عليها، وهي المهادُ والقرار.
          ({نَكِداً}) بكسرِ الكافِ من قولهِ تعالى في سورةِ الأعرافِ: {وَالَّذِي خَبُثَ لَا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِداً} [الأعراف:58] (قَلِيلاً) وقال ابنُ أبي حاتم: / النكِدُ: الشَّيء القليل الذي لا يَنفَع، وأخرج ابنُ أبي حاتم عن ابن عبَّاس قال: هذا مَثَلٌ ضُرِبَ للكافرِ كالبلدِ السَّبخةِ المالحةِ التي لا تَخرج منها البركة.