الفيض الجاري بشرح صحيح الإمام البخاري

باب صفة النار وأنها مخلوقة

          ░10▒ (باب صِفَةِ النَّارِ) أي: نارِ جهنَّم أعاذنا الله منها، وهي مؤنَّثة، وألِفهَا منقلبةٌ عن واو بدليل تصغيرها على نُويرة، وعرَّفوا النارَ من حيثُ هي بأنَّها جسمٌ لطيفُ يطلبُ العلو (وَأَنَّهَا) أي: النارُ (مَخْلُوقَةٌ) أي: موجُودةٌ الآن خلافاً للمُعتزِلَةِ في إنكارِ وجُودهَا الآن وخلافاً لبعضِ فرقَ الضَّلالِ في إنكارِ وجُودها، وأنَّها لا توجدَ أصلاً كالجنَّة، كما مرَّ في بابِ ما جاءَ في صفةِ الجنَّة، وأنَّها مخلوقةٌ فراجعْهُ.
          تنبيه: لم يتعرَّض المصنِّفُ لبيانِ طبقَاتِ النَّارِ كم هي ولا لمقدَارِ أبوابهَا، فأمَّا أبوابها: فسبعةٌ؛ لقولهِ تعالى: {لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ} وأمَّا طبقاتُها: فسبعٌ أيضاً كمَا قاله العلماءُ أعلاهَا جهنَّم ثمَّ تحتها لَظَى ثمَّ الحطمةُ ثمَّ السَّعيرُ ثمَّ سقَرُ ثمَّ الجحيمُ، وفيها أبو لهبٍ، ثمَّ الهاويةُ، وباب كلٍّ من داخلِ الأخرَى على الاستواءِ، كما قال ابنُ عطيَّة وغيره، كذا في ((شرح الجوهرة)) للقانيِّ.
          وقال البيضَاويُّ في تفسير: {وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ. لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ لِكُلِّ بَابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ} [الحجر:43-44] أي: يدخلونَ فيها لكثرَتِهم وطبقَاتٌ ينزلونَها بحسَبِ مراتِبهِم في المتَابعةِ، وهي سبعةٌ كما تقدَّم في كلام اللَّقانيِّ.
          وقال: لعل تخصيصُ العددِ لانحصَارِ مجَامعِ المهلكاتِ في الرُّكونِ إلى المحسُوساتِ، ومتَابعةِ القوَّةِ الشَّهويَّة والغضبيَّة، أو لأنَّ أهلها سبعُ فرقٍ، ثمَّ قالَ في أبوابهَا: فأعلاهَا للمُوحِّدينَ العصَاة، والثَّاني لليهودِ، والثالثُ: للنَّصارى، والرابعُ: للصَّابئين، والخامسُ: للمُجوسِ، والسَّادسُ: للمشركينَ، والسَّابع: للمنافقين، انتهى فتأمَّلْه.
          وما ذكره البخاريُّ في هذا الباب يدلُّ على صفةِ النارِ ولو بالعنايةِ، وعلى أنَّها مخلوقةٌ، وجاء في صفتِهَا أحاديثُ منها ما رواه التِّرمذيُّ عن أبي هريرةَ أنَّ النبي صلعم قال: ((أوقدَ على النَّار ألفُ سنةٍ حتى احمرَّتْ، ثمَّ أوقدَ عليها ألفَ سنةٍ حتَّى ابيضَّتْ، ثمَّ أوقدَ عليها ألفُ سنةٍ حتى اسودَّتْ، فهي سوداءُ مُظْلمةٌ)) وقد جرى المصنِّف على عادتهِ الغالبةِ في تفسيرِ كلماتٍ قرآنيَّة تناسبُ البابَ.
          وقال الكرمانِيُّ: اعلم أنَّ النسفيَّ لم يروِ هذه اللغاتِ، ولم يوجَدْ في نُسْختهِ شيء منها، وأمثالُ هذه سمعَها الفِرَبريُّ من البخاريِّ عندَ سماعَ الكتابِ فألحقَهَا بهِ، قال: والأَولى بوضْعِ هذا الجَامعِ عدمُ ذكرهَا إذ موضُوعُه رسولُ اللهِ صلعم من جهةِ أقوالهِ وأفعالهِ وأحوالهِ، فينبغِي أن لا يتجَاوزَ البحثُ فيه عن ذلك، انتهى.
          ونحن نتعرَّضُ لها تبَعاً للفِرَبريِّ وللشرَّاحِ، فنقول: قال:
          ({غَسَاقاً}) أي: منْ قولهِ تعالى في سُورة عمَّ: {لَا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْداً وَلَا شَرَاباً. إِلَّا حَمِيماً وَغَسَّاقاً} [النبأ:24-25] (يُقَالُ: غَسَقَتْ عَيْنُهُ، وَيَغْسِقُ الْجُرْحُ، وَكَأَنَّ الْغَسَاقَ، وَالْغَسْيقَ وَاحِدٌ).
          قال في ((الفتح)): وهذا التَّفسيرُ مأخُوذٌ من كلامِ أبي عُبيدةَ، فإنَّه قال في قولهِ تعالى: {إِلَّا حَمِيماً وَغَسَّاقاً} الحميمُ: الماء الحارُّ، والغسَّاقُ: ما هميَ وسالَ، يقال: غسقَتْ عينُه: سالَ ماؤهَا / .
          وأقول: لو زادَ البخاريُّ عقب غسقت عينُه سال ماؤها لظهرَ المراد.
          قال في ((القاموس)): الغسَقُ _محركة_:ظلمةُ أولِّ الليلِ، وغسقَتْ عينُه كضَرَب وسمعَ، غسوقاً وغسقاناً محركة: أظلَمَت أو دمعت، والجرح غسقاناً سال منه ماءٌ أصفر، انتهى.
          والمرادُ في الآيةِ من غسَّاقاً ماءٌ سالَ من أهلِ النارِ من الصَّديدِ أو من دمُوعِهِم.
          قال البيضَاويُّ: قرأ حمزةُ والكسَائيُّ وحفص بالتشديد؛ أي: وقرأ الباقونَ بالتخفيف، وقيل: الغساقُ: الباردُ الذي يحرقُ ببردِهِ.
          وقال أبو عبيد الهرويُّ: الغسَّاق _بالتَّشديد_ السَّائلُ، وبالتَّخفيفِ: الباردُ، وقيل: الغسَّاقُ: المنتنُ، ويشهدُ له ما أخرجَهُ التِّرمذيُّ والحاكمُ عن أبي سعيدٍ الخدريِّ مرفُوعاً: ((لو أنَّ دلواً من غسَّاقٍ يهراقُ إلى الدُّنيا لأنتنَ أهلُ الدُّنيا)).
          وأخرجَ الطَّبريُّ عن عبدِ الله بن عُمروٍ موقُوفاً: الغسَّاقُ: القيحُ الغليظُ لو أنَّ قطرةً منه تهرَاقُ بالمغربِ لأنتنَ أهلُ المشرقِ، وقال ابنُ دريدٍ: الغسَّاقُ هو صُديدُ أهلِ النَّار تَصْهرهُم النارُ فيجمعُ صَديدُهُم في حيَاضٍ فيُسْقونَهُ.
          وقوله: وكأنَّ الغسَّاقَ والغسقَ واحدٌ، كأَنَّ بفتح الهمزةِ وتشديد النُّون أشارَ بهذا إلى تردُّدِهِ في أنَّ معنَاهمَا واحدٌ إذ الغسَقُ معناهُ: الظَّلام، وكذا الغسِيق _بكسرِ السِّين مخففة_ وهي روايةُ أبي ذرٍّ، وفي بعضِ الأصُولِ: <والغَسْق> بفتحِ الغين وسكونِ السِّين، وهو روايةُ الأكثرِ.
          وأمَّا الغسَّاقُ: فمَعانيهِ المتقدِّمةِ لا تُفِيدُ الظَّلام إلا بالعنايةِ، ولذا قال العينيُّ: وليسَ بواحدٍ لكن قال في ((الفتح)): قال الطَّبريُّ في قولهِ تعالى: {وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ} [الفلق:3] الغاسقُ: اللَّيل إذا لبسَ الأشياءَ وغطَّاها.
          وإنما أريدَ بذلكَ هجومه على الأشياءِ هُجومَ السَّيلِ قال: وكأنَّ المرادَ بالآيةِ السَّائلُ من الصَّديدِ الجامعِ بينَ شدَّة البردِ وشدَّة النتنِ، وبهذا تجتَمعُ الأقوالُ، انتهى فتأمَّلْه.
          ({غِسْلِينَ} كُلُّ شَيْءٍ غَسَلْتَهُ فَخَرَجَ مِنْهُ شَيْءٌ فَهُوَ غِسْلِينَ)... إلخ، هذا كلامُ أبي عُبيدةَ في المجاز، وفسَّر ابنُ عبَّاسٍ الغسلينَ بصَديدِ أهل النَّار، وأرادَ تفسيرَ قولهِ تعالى: {غِسْلِينٍ} من قوله تعالى: {فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هَاهُنَا حَمِيمٌ. وَلَا طَعَامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ} [الحاقة:35-36] وقوله: فهو؛ أي: للخارجِ أو الشَّيء (فِعْلِينَ) بكسرِ الفاء، وزانُ {غِسْلِينٍ} (مِنَ الْغَسْلِ) بفتحِ الغينِ المعجمةِ؛ أي: مأخوذٌ من الغسلِ غالباً، والنُّون من غسلينَ زائدتان.
          (مِنَ الْجَرْحِ) بفتح الجيمِ، تعليلٌ للغسلِ متعلِّقٌ به، وضبطهُ القسطلَّانيُّ بضمِّها، وهو الموجودُ في أكثرِ الأصُولِ، ووقَعَ في بعضِها ضبَطُه بالوجهَين (وَالدَّبَرِ) بفتحِ الدَّالِ المهملةِ والموحَّدةِ، ما يُصيبُ الإبلَ من الجرَاحاتِ.
          قال في ((الصِّحاح)): الدَّبَرَة واحدةُ الدَّبَر، والأَدبَار مثلُ شجرةٍ وشجرٍ وأشجارٍ، يقال منه: دبِر البعيرُ _بالكسر_،انتهى.
          تنبيه: حصرُ طعَامهِم في الآيةِ في الغِسلين يعارِضُه ظاهرُ آيةِ: {لَيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ} [الغاشية:6].
          قال في ((الفتح)): وجمعَ بينهما بأنَّ الضَّريعَ من الغِسْلين، قال: وهذا يردُّه ما سيأتي في التَّفسيرِ أن الضَّريعَ نباتٌ له شوكٌ، وقيلَ: الاختلافُ بحسَبِ من يطعَمُ من أهلِ النَّار فهذه لطَائفَةٍ وذاكَ لآخرين بحسَبِ استحقَاقِهِم.
          (وَقَالَ عِكْرِمَةُ) بكسرِ العَين والرَّاء؛ أي: ابنُ نافع ({حَصَبُ جَهَنَّمَ} [الأنبياء:98] حَطَبٌ) بتنوينِ ((حطب)) في أكثرِ الأصُولِ وبحذفِهَا في بعضِهَا لتقديرِ المضَافِ إليه، فافهم (بِالْحَبَشِيَّةِ) يريدُ: تفسيرَ {حَصَبُ جَهَنَّمَ} في أواخرِ الأنبياء.
          قال شيخُ الإسلامِ كالعينيِّ: أرادَ أنَّها حبشيَّةُ الأصْلِ سمعتْهَا العربُ فتكلَّمَتْ بها فصَارَتْ عربيَّة، وإلَّا فليسَ في القرآنِ غير العربيَّةِ، وقيل: الحصبُ ما هي للوقُودِ من الحطَبِ، فإنْ لم يهيأْ له فليسَ بحصَبٍ، انتهى.
          وقوله: ليسَ في القرآنِ غير العربيَّة هو أحدُ قولين، وعليه فلا يخرجُ ذلك القرآن عن كونِهِ عربيًّا لنُدْرتهِ، والكلامُ في غيرِ الأعلامِ، وإلَّا فهيَ فيه واقعةٌ اتفاقاً، / فاعرفه.
          (وَقَالَ غَيْرُهُ) أي: غير عكرمةَ ({حَاصِباً}) أي: من قولهِ تعالى: {أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِباً} [الإسراء:68] في سورة الإسراءِ (الرِّيحُ الْعَاصِفُ) تفسيرُ {حاصباً} بالموحَّدة.
          قال في ((الصحاح)): الحاصبُ: الريحُ الشَّديدةُ تثيرُ الحصباءَ، وكذلك الحصبةُ.
          (وَالْحَاصِبُ مَا تَرْمِي بِهِ الرِّيحُ وَمِنْهُ) أي: ومن معنَاهُ الثَّاني ({حَصَبُ جَهَنَّمَ} يُرْمَى) بالبناء للمفعولِ (بِهِ فِي جَهَنَّمَ مِنْ حَصَبُهَا) وفي أكثرِ الأصُولِ: <هُم حصبُهَا>؛ أي: أهل النَّار حصَبُ جهنَّم، وقال الكرمانِيُّ: أي: هُم ومعبُودهُم حصَبُ جهنَّم.
          وقال البَيضَاويُّ: {حَصَبُ جَهَنَّمَ} ما يُرمَى بهِ إليها وتهيجُ به مِنْ حصبَهُ يحصِبُه: إذا رمَاهُ بالحصبَاءِ، وقُرئ بسكونِ الصَّاد وصفاً بالمصدرِ، انتهى.
          قال في ((الفتح)): أمَّا قولُ عكرِمةَ فوصَلُهُ ابنُ أبي حاتمٍ عنه، قال: وروى الطَّبريُّ عن مجاهدٍ مثله لكنْ لم يقلْ: بالحبشيَّةِ.
          قال: وروى الفراءُ عن عليٍّ وعائشةَ أنَّهما قرآهَا: ▬حطبُ↨ بالطاء، قال: وروى الطَّبريُّ عن ابنِ عبَّاسٍ ☻ أنَّه قرأها بالضَّاد المعجمةِ، قال: وكأنَّه أرادَ أنهُم الَّذينَ تسجرُ بهم النار؛ لأنَّ كلَّ شيءٍ هيجتْ به النَّار فهو حصبٌ لها.
          وأمَّا قولُ غيرِه فقال: أبو عُبيدة في قولهِ تعالى: {أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِباً} أي: ريحاً عاصباً عصب، وفي قوله: {حَصَبُ جَهَنَّمَ} كلُّ شيءٍ ألقيتَه في النارِ فقد حصبتَهَا به، وروى الطَّبريُّ عن الضَّحاكِ قال في قولهِ: {حَصَبُ جَهَنَّمَ} قال: تحصبُ بهم جهنَّم، وهو الرَّمي يقول: يُرمَى بهم فيها، انتهى.
          وقوله: أنَّه قرأهَا بالضَّاد المعجمَةِ؛ أي: مفتوحة، كالحاءِ بمعنى: الحضب.
          قال في ((القاموس)): الحَضَبُ _محركةً_:الحصَبُ، وقد تسكَّنُ، وحضَبَ النارَ يحضِبُها: رفَعَها، أو ألقَى عليها الحطَبَ كأحضَبَها، انتهى.
          (وَيُقَالُ: حَصَبَ) بفتح الحاء والصَّاد المهملتين (فِي الأَرْضِ ذَهَبَ) أي: سارَ فيها، كذا في ((الصِّحاح)) فهو لازمٌ، ويستعملُ حصَبَ متعدِّياً ففي ((المصباح)) حصبتُه حصباً من باب ضَرَب، وفي لغةٍ: من باب قتلَ رميتُهُ بالحصْبَاء، وحصبْتُ المسجدَ وغيره: بسطتُه بالحصبَاءِ، وحصَّبتُه _بالتشديد_ مبالغة فيه.
          (وَالْحَصَبُ) بفتحتين (مُشْتَقٌّ مِنْ الحَصْبَاءِ) بفتحِ الحاءِ وسكونِ الصَّاد المهملتين والمدُّ وبالألفِ واللام في أوَّله لأبي ذَرٍّ (الْحِجَارَةِ) بالجرِّ بدلٌ من الحصبَاء، ويجوزُ رفعه خبراً لمحذوفٍ نحو: هي، ووقعَ لأكثرِ الرُّواة: من حصباءِ الحجَارة بحذفِ أل والإضَافة على أنها بيانيَّة، روى الطَّبريُّ عن ابنِ جُريجٍ في قولهِ: {أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِباً} قال: مطرُ الحجَارةِ.
          ({صَدِيدٍ}) بالرفعِ للأكثرِ، وبالجرِّ لأبي ذَرٍّ حكايةً للَفظِ الآيةِ (قَيْحٌ وَدَمٌ) هذا تفسيرُ أبي عُبيدةَ لصديد في قوله تعالى في سورة إبراهيم: {وَيُسْقَى مِنْ مَاءٍ صَدِيدٍ} [إبراهيم:16] وقال البَيضَاويُّ: {صديد} عطفُ بيانٍ لـ{ماء} وهو ما يسيلُ من جلودِ أهلِ النَّار ({خَبَتْ} طَفِئَتْ) يريدُ: تفسيرَ {خبت} من قولهِ تعالى: {كُلَّمَا خَبَتْ} [الإسراء:97] في سورة الإسراءِ، و{خبت} معتلٌّ لا مهموزٌ.
          ففي ((القاموس)): خبتِ النارُ والحربُ خَبْواً وخُبُوًّا: سكنَتْ وطَفِئَتْ، وأخبيْتُها أطفَأتُها، انتهى.
          وما ذكره البخاريٌّ هو تفسيرُ مجاهدٍ، وقال ابنُ عبَّاسٍ: سكنَتْ وتبعَه أبو عُبيدة.
          قال في ((الفتح)): ورجِّحَ؛ لأنَّهم يقولون للنار إذا سكنَ لهبُها وعلا الجمرَ رمادٌ: خبت، فإن طُفِئَ معظمُ الجمرِ قالوا: خمدَتْ، فإن طُفِئَ كلُّه قالوا: همدَتْ، ولا شكَّ أن نارَ جهنَّم لا تُطْفَأُ، انتهى.
          وطفئت لازمٌ ففي ((القاموس)): طَفِئتِ النارُ، كسَمِعَ طُفُوءاً: ذهبَ لهبُها، كانطفأَتْ وأطفأْتُها، انتهى.
          وقال في ((المصباح)): طفئتِ النارُ تُطْفَأ _بالهمزِ_ من غير تعَبٍ طُفُوءاً، على فعولٍ، خمدَتْ وأطفَأْتُها، ومنه أطفَأت الفتنةَ: إذا سكَّنْتَها على الاستعارَةِ.
          ({تُورُونَ} تَسْتَخْرِجُونَ، أَوْرَيْتُ: أَوْقَدْتُ) هذا تفسيرُ أبي عُبيدةَ لقولهِ تعالى في الواقعةِ: {أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ} [الواقعة:71] قال: وأكثرُ ما يقال: وَرَيْتُ انتهى.
          و{تورون} من أوريْتُ الزِّنادَ من الإيراء وهو الإيقادُ، وقال العينيُّ: أصلُه من ورى الزِّندَ _بالفتح_ يري ورياً: / إذا خرجَتْ نارُه، وفيه لغةٌ أخرى: وَرِيَ الزندُ يَرِي _بالكسرِ فيهما_،وأوريتُهُ أنا وكذلك وريتهُ تورية، وأصلُ تورون: توريون نقلَتْ ضمةُ الياء إلى الرَّاء وحذفت الياءُ لالتقاءِ السَّاكنينَ فصارَ تورونَ على وزن تفحونَ.
          ({لِلْمُقْوِينَ} لِلْمُسَافِرِينَ، وَالْقِيُّ: القَفْرُ) هذا تفسيرُ ابن عبَّاسٍ ☻ للمُقْوينَ في قولهِ تعالى في سورة الواقعة: {تَذْكِرَةً وَمَتَاعاً لِلْمُقْوِينَ} [الواقعة:73].
          وروي عنه أنَّه قال {لِلْمُقْوِينَ} أي: المستمتعينَ المسافرُ والحاضرُ، وقال الفرَّاءُ: أيُّ: منفعةٍ للمُسافرين إذا نزَلوا بالأرضِ القِيِّ، والقِيُّ _بكسرِ القاف وتشديدِ التحتيَّة_:القَفرُ الذي لا شيءَ فيه من نباتٍ وماءٍ واحدٍ، ويجمعُ على قفارٍ، ورجَّح هذا الطَّبريُّ.
          واشتقاقُهُ من أقوى الرَّجل: إذا نزلَ المنزل القواء، وهو الموضعُ الذي لا أحدَ فيه، ويقال: المقوِي من لا زادَ لهُ، وقيل: المُقوِي الذي له مالٌ، وقيل: المقوِي الذي أصحابُه وإبلُه أقوياءَ، وقيل: هو من معَه دابَّة.
          (وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ ☻: {صِرَاطُ الْجَحِيمِ} سَوَاءُ الْجَحِيمِ) وصلهُ الطَّبريُّ عن ابن عبَّاسٍ في تفسير {صِرَاطِ} من قولهِ تعالى في الصَّافات: {فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ} [الصافات:23] ولقوله فيها: {فَاطَّلَعَ فَرَآَهُ فِي سَوَاءِ الْجَحِيمِ} [الصافات:55] فسواء _بفتح السِّين والمدِّ_ مرادفُ وسط ({لَشَوْباً مِنْ حَمِيمٍ} يُخْلَطُ طَعَامُهُمْ وَيُسَاطُ) ببناء الفعلَين للمجهولِ، ويساطُ _بالسِّين المهملةِ_ من السَّوط، وهو الخلطُ والمزجُ.
          ومنه المسواطُ وهو الخشبةُ التي يساطُ بها، ولأبي ذرٍّ عن الكُشميهَنيِّ: <ويحرك>.
          (بِالْحَمِيمِ) قال أبو عبيد: كلُّ شيء خلطته بغيرِهِ فهو مشوبٌ ({زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ} صَوْتٌ شَدِيدٌ وَصَوْتٌ ضَعِيفٌ) لفٌّ ونشرٌ مرتَّب.
          وهذا تفسير ابنِ عباسٍ لقولهِ تعَالى في أواخرِ هودٍ في أهل النَّار: {لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ} [هود:106] وعنه أنَّه قال: الزَّفيرُ في الحلقِ، والشَّهيقُ في الصَّدر.
          وعنه أيضاً أنه كصوتِ الحمَارِ أوَّله زفيرٌ، وآخرهُ شهيقٌ.
          ({وِرْداً} عِطَاشاً) هذا تفسيرُ ابن عبَّاسٍ في قولهِ تعالى في مريم: {وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْداً} [مريم:86] وعنه منقطعةً أعناقُهُم من الظَّمأِ.
          قال في ((الفتح)): وِرداً مصدر وردْتُ، والتقديرُ: ذوي وردٍ، قال: وهذا يُنافي العطشَ لكن لا يلزمُ من الورودِ على الماء الوصُولِ إلى تنَاولِهِ، فسيأتي في حديثِ الشَّفاعةِ أنَّهم يشكونَ العطشَ فترفعُ لهم جهنَّمُ سرابَ ماءٍ فيقال: ألا تردونَ فيَرِدونَها فيتسَاقَطونَ فيها.
          ({غَيّاً} خُسْرَاناً) يريدُ تفسير {غياً} في قوله تعالَى في سورة مريم: {فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيّاً} [مريم:59] وروى الطَّبريُّ وابنُ أبي حاتم عن ابنِ مسعودٍ قال: الغيُّ: وادٍ في جهنَّم بعيدُ القَعرِ خبيثُ الطَّعمِ، والمعنى عليه: فسوفَ يلقَونَ جزاءَ الغيِّ.
          وفي ((البدور السافرة)) من أثناءِ حَديثٍ رواهُ ابنُ المباركِ قال: وإنَّ في جهنَّمَ وادياً يدعَى غيًّا يسيلُ قيحاً ودماً، انتهى.
          (وَقَالَ مُجَاهِدٌ {يُسْجَرُونَ}) مبنيٌّ للمجهولِ يريد قوله تعالى في سورة غافر: {ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ} (تُوقَدُ بِهِمُ النَّارُ) ولأبي ذرٍّ: <لهم> باللام والأُولى أظهر ({وَنُحَاسٌ} الصُّفْرُ يُصَبُّ عَلَى رُؤوسِهِمْ) أي: بعد إذابتِهِ هذا منقولٌ عن مجاهدٍ في تفسيرِ قوله تعالى: {يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِنْ نَارٍ وَنُحَاسٌ} [الرحمن:35] وقال العَينيُّ: قلت الصُّفر _بالضمِّ_ النحاسُ الجيدُ الذي يعملُ منه الآنية.
          (يُقَالُ: {ذُوقُوا} بَاشِرُوا وَجَرِّبُوا، وَلَيْسَ هَذَا مِنْ ذَوْقِ الْفَمِ) أشارَ بهذا إلى تفسيرِ قولهِ تعالى: {وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ} [آل عمران:181] وغرضُه أنَّ الذوقَ هنا بمعنى المبَاشرةِ والتَّجربةِ لا بمعنى ذوقِ الفمِ فهو من المجازِ.
          قال في ((الفتح)): لم أرَ هذا لغيرِ المصنِّف إذ الذَّوقُ يطلقُ ويرادُ به حقيقَتُه، وهو ذوقُ الفمِ ويطلَقُ، ويرادُ به الذَّوقُ المعنويِّ وهو الإدراكُ، / وهو المرادُ في قولهِ: {ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [العنكبوت:55] وقوله: {ذَلِكُمْ فَذُوقُوهُ} [الأنفال:14] وقوله: {ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ} [الدخان:49] وكذا في قولهِ: {لَا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ} [الدخان:56].
          قال: وبلغنِي عن بعضِ علمَاءِ العصرِ أنَّه فسَّره هنا بمعنى التَّخيلِ، وجعلَ الاستثناءَ متَّصلاً وهو دقيقٌ.
          وروى ابنُ أبي حاتمٍ عن أبي برزةَ الأسلميِّ مرفُوعاً، والطَّبريُّ عن ابنِ عَمرو موقوفاً: ((لم ينزلْ على أهلِ النارِ آيةٌ أشدُّ من قولهِ تعالى: {فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذَاباً} [النبأ:30])).
          ({مَارِجٌ} خَالِصٌ مِنَ النَّارِ) هذا التَّفسير منقولٌ عن ابن عبَّاسٍ في قوله تعالى: {وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ} [الرحمن:15] وعنه أيضاً قال: خلقَتِ الجنُّ من مارجٍ وهو لسانُ النَّار الذي يكون في طرَفِها إذا التهبَتْ.
          وقال الفرَّاءُ: المارجُ النارُ دون الحجَابِ، ويرى خلقَ السَّماءَ منها، ومنها هذه الصَّواعقُ.
          (مَرَجَ الأَمِيرُ رَعِيَّتَهُ) هذا الكلامُ إلى آخره ذكره المصنِّفُ لمناسبتهِ للفظِ مارج، قاله شيخُ الإسلام (إِذَا خَلاَّهُمْ) بتشديد اللَّام؛ أي: تركهم (يَعْدُو بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ) أي: يتظَالمونَ.
          ({مَرِيجٍ} مُلْتَبِسٌ) يشيرُ إلى تفسير {مريج} في قولهِ تعالى في ق: {فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ} [ق:5] روى الطَّبريُّ عن ابن عبَّاسٍ أنه قالَ: مَن تركَ الحقَّ مرجَ عليه رأيه والتَبسَ، ومُلتبس _بضمِّ الميم وسكونِ اللام وفتحِ المثناة الفوقيَّة وكسر الموحَّدة_ من الالتباسِ، كذا للأكثرِ، ورواه أبو ذرٍّ عن الكُشميهَنيِّ منتَشِر _بسكونِ النون بدل اللام وبفتحِ الفوقية وكسر الشِّين المعجمة_ فراءٌ من الانتشَارِ، وهو تصحيفٌ، قاله في ((الفتح)).
          لكن قد يقال: إنَّ انتشارَ الشيءِ قد يفضِي إلى التباسِهِ فلا تصْحيفَ، فليتأمَّلْ.
          (مَرِجَ) بكسرِ الرَّاء (أَمْرُ النَّاسِ اخْتَلَطَ) أي: التبَسَ ({مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ} مَرَجْتَ) بفتح التاء (دَابَّتَكَ تَرَكْتَهَا) هذا تفسيرُ أبي عبيدةَ، فإنه كما في ((الفتح)) قال: {مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ} [الرحمن:19] هو كقولك: مرجْتَ دابتَكَ: خلَّيتَ عنها وتركتَهَا.
          وقال الفرَّاءُ: أرسلتَها ثمَّ يلتقيَانِ بعدُ، انتهى فليتأمَّلْ.
          وأقولُ: {مرج} في الموضِعينَ بالفتح فعلٌ ماضٍ ومضارعُه بالضمِّ.
          ففي ((الصِّحاح)): مرجْتُ الدَّابةِ أمرُجُها _بالضم_ مرجاً: أرسلتها ترعَى، ومعناه: تركَ وخلَّى فمعنى {مرج البحرين يلتقيان}... إلخ أي: جعلهما لا يلتبسُ أحدُهما بالآخرِ.
          وقال النَّسفيُّ: {مرج البحرينِ} يعني: أرسلَ البحرينِ العذبَ والملحَ متجَاورينَ يلتقيَانِ لا فصلَ بينَ المائين في مرأى العَينِ، {بينهُمَا برزخٌ} حاجزٌ وحائلٌ من قدرةِ الله تعالى وحكمتِهِ، {لا يبغيَانِ} لا يتجاوزان حدَّيهِمَا، ولا يبغِي أحدُهما على الآخرِ بالممازَجَة ولا يختلطَانِ ولا يتغيَّران.
          وقال قتادةُ: بحرُ فارسَ والروم بينهما برزخٌ وهي الجزائرُ.
          وروى الطَّبريُّ عن ابن عبَّاسٍ أنَّه قال: المرادُ بالبحرينِ هنا بحرُ السَّماء، وبحرُ الأرض يلتقِيَانِ كلَّ عامٍ.
          قال الطَّبريُّ: وهو أولى لأنَّه سبحانَه وتعالى قال بعدَ ذلك: {يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ} [الرحمن:22] وإنما يخرجُ اللؤلؤُ من أصدافِ بحرِ الأرضِ عن قَطْرِ السَّماءِ.
          قال في ((الفتح)): وفي هذا دفعٌ لمن جزمَ بأنَّ المرادَ بهما البحرُ الحلو، والبحرُ الملحُ، وجعلَ قوله: {منهما} من مجازِ التَّغليبِ، انتهى.
          وقال البيضَاويُّ: المعنى: أرسلَ البحرَ الملحَ، والبحرَ الحلوَ يلتقيَانِ يتجاورانِ ويتماسَّ سطوحُهُما أو بحرَي فارس والرُّوم يلتقيانِ في المحيطِ؛ لأنَّهما خليجان يتشعَّبان منه بينهما برزخٌ حاجزٌ بقُدرةِ الله تعالى أو من الأرضِ، لا يبغيانِ؛ أي: لا يبغِي أحدُهما على الآخرِ بالممَازجَةِ وإبطالِ الخاصيَّة، أو لا يتجَاوزانِ بإغراقِ ما بينهُما، انتهى.