الفيض الجاري بشرح صحيح الإمام البخاري

وقول الله جل وعز: {وإذ صرفنا إليك نفرًا من الجن}

          ░13▒ (باب قَوْلِ اللَّهِ ╡) وفي بعضِ الأصُولِ: <باب قولهِ تعَالى> وسقطَ لفظُ: <باب> لغيرِ أبي ذرٍّ، وثبتَ: ((واوٌ)) بدله فيكون عطفاً على قوله من: ((لقوله: {يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ})) أي: باب بيانِ قولِه تعالى في سورة الأحقاف: ({وَإِذْ صَرَفْنَا}) أي: أملْنَا ووجهْنا، كما يأتي ({إِلَيْكَ}) أي: يا محمَّد ({نَفَراً مِنَ الْجِنِّ}) النَّفرُ ما دونَ العشرةِ من الرِّجَالِ، ويجمَعُ على أنفَارٍ، قاله البيضَاويُّ.
          وقال في ((المصباح)): النَّفَرُ _بفتحتين_ جماعةُ الرِّجَالِ من ثلاثةٍ إلى عشرةٍ، وقيل: إلى سبعةٍ ولا يقال: نفرٌ فيما زادَ على العشَرةِ.
          قال ابنُ عبَّاسٍ: كانوا سبعةً من جنِّ نصيبينَ، وقيل: كانوا اثني عشَرَ ألفاً، وعن مجاهدٍ: كان ثلاثةٌ من حرَّان، وأربعةٌ من نصِيبين سمَّى منهم ابن دريدٍ وغيرُهُ: شاصر وماصر ومنشى وماش والأحقب، وعند ابنِ إسحاق: حسا ومسا والأبين والأخصم، وعند ابنِ سلام: عَمرو بن جابر، وذكرَ ابنُ أبي الدُّنيا منهم: زوبعة، ومنهم: شرق.
          (إِلَى قَوْلِهِ) أي: اقرأْ الآياتِ إلى قولهِ: ({أُولَئِكَ فِي ضَلاَلٍ مُبِينٍ} [الأحقاف:29-32]).
          قال البيضَاويُّ: رُوي أنَّهم وافوا رسُولَ الله صلعم بوادِي النَّخلةِ عند منصَرفِهِ من الطائفِ يقرأ في تهجُّدهِ.
          وقال العينيُّ: ملاقاةُ هؤلاء الجنِّ مع النَّبيِّ صلعم حينَ انصرفَ من الطَّائفِ راجعاً إلى مكَّة حينَ يئسَ من خَبرِ ثقيفٍ، حتَّى إذا كانَ بنخلةٍ قائماً من جوفِ اللَّيل يصلِّي فمرَّ به نفرٌ من جنِّ أهلِ نصِيبينَ، وكان سببُ ذلك أن الجنَّ كانَتْ تسترقُ السَّمعَ، فلمَّا حرسَتِ السَّماءُ ورُجِموا بالشُّهبِ قال إبليسُ: إنَّ هذا الذي حدَثَ في السَّماء لِشيءٍ حدثَ في الأرضِ، فبعَثَ سرَايا ليعرفَ الخبر فكانَ أولُ بعثٍ ركبٌ من أهلِ نصيبين، وهم أشرافُ الجنِّ وسادَاتِهم، فبعثَهُم إلى تِهامَةَ فاندفعوا حتَّى بلغُوا وادِي نخلةَ فوجَدوا رسُولَ الله صلعم يصلِّي صَلاةَ الغدَاةِ ويتلوا القرَآنَ فاجتمَعُوا إليه، قالوا: {أَنْصِتُوا} يعني: أصغوا إلى قراءتِهِ {فَلَمَّا قُضِيَ} أي: فرغَ النَّبيُّ صلعم من صلاته {وَلَّوا} أي: رجعُوا إلى قومِهِم {مُنْذِرِينَ} أي: محذِّرينَ لهم من عذَابِ اللهِ إن لم يؤمنُوا، انتهى.
          وأقول: بينَ قولِهِ آخراً: ((يصلِّي صلاةَ الغدَاةِ... إلخ)) وبينَ قولِهِ أولاً: ((قائماً من جوفِ اللَّيلِ يصلِّي)) مخالفةٌ إلَّا أن يُجمَعَ بأنَّهم استمرُّوا حتى صلَّى الغدَاةَ، فتأمَّل.
          وسيأتي الكلامُ على ذلكَ في التفسيرِ مبسوطاً.
          ({مَصْرِفاً} مَعْدِلاً) يريدُ تفسير: {مَصْرِفاً} بـ((معدلاً)) في قولهِ تعَالى في سورةِ الكهفِ: {وَلَمْ يَجِدُوا عَنْهَا مَصْرِفاً} [الكهف:53] هذا تفسيرُ أبي عبيدةَ، واستشهدَ بقولِ أبي كبيرة _بالموحَّدة_ الهذليِّ:
أَزُهَيْرُ هَلْ عَنْ شَيْبَةٍ مِنْ مَصْرِفِ                     أَمْ لا خُلُوْدَ لِبَاذِلٍ مُتَكَلِّفِ
          ({صَرَفْنَا} أَيْ: وَجَّهْنَا) يريدُ تفسيرَ ما في هذهِ الآيةِ.
          تنبيه: قالَ في ((الفتح)): لم يذكرِ المصنِّفُ في هذَا البابِ حديثاً، واللَّائقُ به حديثُ ابنِ عبَّاسٍ المتقدِّم في صفةِ الصَّلاةِ في توجُّه النَّبيِّ صلعم إلى عُكاظٍ واستمَاعِ الجنِّ لقرَاءتِهِ، وأشارَ إليه المصنِّفُ / بالآية التي صدَّرَ بها هذا الباب، انتهى.
          وتقدَّمَ الكلامُ عليه في ذلك البابِ بأبسطَ.
          ومطابقةُ الآيةِ للترجمةِ ظاهرةٌ.