الفيض الجاري بشرح صحيح الإمام البخاري

باب ما جاء في صفة الجنة وأنها مخلوقة

          ░8▒ (باب مَا جَاءَ) أي: وردَ من الأخبَارِ والآيات القرآنيَّة (فِي صِفَةِ الْجَنَّةِ وَأَنَّهَا) أي: الجنَّة (مَخْلُوقَةٌ) أي: موجُودةٌ الآن؛ لآيات كقولهِ تعالى: / {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ} [آل عمران:133] ومثلها النَّار فهي مخلوقةٌ؛ لنحو قوله تعالى: {فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ} [البقرة:24] ويأتي ذكرها في هذا الصَّحيحِ بعد بابين.
          قال في ((الفتح)): ذكر المصنِّفُ في البابِ أحَاديثَ كثيرةً دالَّة على ما ترجَمَ به فمنها ما يتعلَّقُ بكونها موجُودةً الآن، ومنها ما يتعلَّقُ بصفتِهَا، وأصرحُ ممَّا ذكرَهُ في ذلك ما أخرجَهُ أحمدُ وأبو داود بإسناد قويٍّ عن أبي هريرةَ عن النَّبيِّ صلعم قال: ((لمَّا خلقَ اللهُ الجنَّة، قال: لجبريلَ اذهبْ، فانظرْ إليها)) الحديث، انتهى.
          وأقول: تتمَّته، كما في ((البدور السافرة)) ((فذهبَ فنظرَ إليها، فقال: أي ربِّ وعزَّتِكَ لا يسمعُ بها أحدٌ إلا دخلها، ثمَّ حفَّها بالمكارِهِ، ثمَّ قال: يا جبريلُ، اذهَبْ، فانظرْ إليها فذهَبَ فنظرَ إليها ثمَّ جاءَ فقال: أي ربِّ وعزَّتِك لقد حسبتَ أن لا يدخلها أحدٌ، فلمَّا خلقَ الله النَّار، قال: يا جبريل اذهبْ فانظرْ إليها، فذهبَ فنظرَ إليها ثمَّ جاء فقال: أي ربِّ وعزَّتك لا يسمعُ بها أحدٌ فيدخلها فحفَّها بالشَّهوات، ثمَّ قال: يا جبريلُ اذهبْ فانظر إليها، فذهبَ فنظرَ إليها، فقال: أي ربِّ وعزَّتِك لقد خشيتُ أن لا يبقَى أحدٌ إلا دخلَها)).
          وأقول: مثلُه ما أخرجَه الطَّبرانيُّ عن ابن عبَّاسٍ بلفظ: ((لما خلقَ اللهُ جنةَ عدنٍ خلقَ فيها ما لا عينٌ رأتْ)) الحديث، ومثلُه ما في نسخةِ سمعان بنِ المهديِّ عن أنسٍ بلفظ: ((لما خلقَ اللهُ الجنَّة قالَ لها: تكلَّمِي فتكلَّمَتْ، فقال لها: تزيَّني فتزيَّنَتْ، فقال: طُوبى لمن رضيتْ عنه)) كذا في ((تخريج مسند الفردوس)) وفي ذلك ردٌّ على من زعمَ من المعتزلة أنهما لا يوجدان إلا يوم القيامةِ؛ لأنَّه وقتُ الحاجَة إليهما، وكذا فيه ردٌّ على من أنكرَ وجُودهمَا بالكليَّة، وقال: إنَّهمَا لا يوجدانَ أصلاً، قال اللاقاني في جوهرتهِ:
والنَّار حقاً أُوجدَت كالجنَّة                     فلا تَمِل لجاحِدٍ ذِي جِنَّة
دارا خلودٍ للسَّعيد والشَّقي                     معذَّبٌ منعَّمٌ مهمَا بَقِي
          وقال في شرحها: قال بعضُهم: اتَّفقَ سلفُ الأمَّةِ، ومن تابعَهُم على إجراءِ الآياتِ والأحاديثِ على ظاهرِهَا من غيرِ تأويلٍ وأجمعُوا على أنَّ تأويلها من غير ضرورةٍ إلحاد في الدين، وقوله: فلا تمل لجاحد ذي جنة ردٌّ على المخالف فقد أنكرَت جماعةٌ من الفلاسفةِ وجودَهمَا بالمرَّة وحملوا الجنَّة على اللَّذَّات العقليةِ والنَّار على الآلام العقليَّة، ثم قال: وملخَّصُ الجوابِ: أن الجنَّة والنَّار موجُودتَان الآن في عالمٍ يعلمه اللهُ الذي أحاطَ بكلِّ شيءٍ علماً.
          قال: وفي الحديثِ: أنَّ هرقلَ كتبَ إلى النَّبيِّ صلعم تدعُونَني إلى جنَّة عرضُها السَّماوات والأرض، فأينَ النَّار فقال عليه السَّلام: ((سبحانَ اللهِ أينَ الليل إذا جاءَ النَّهار)) وهو حديثٌ صحيحٌ يشهد لهُ ما أخرجَه الحاكمُ وصحَّحه عن أبي هريرة قال: جاءَ رجلٌ إلى النَّبيِّ صلعم فقال: يا محمَّدُ أرأيت جنةً عرضها السَّماواتُ والأرضِ فأينَ النار، فقال: ((أرأيت الليلَ إذا لبسَ كلَّ شيءٍ فأين جعلَ النَّهار)) فقال السَّائل: الله أعلم فقال عليه السَّلام: ((كذلك الله يفعلُ ما يشاءُ)) انتهى.
          وأقول: ما ذكره اللاقاني من أنَّ الجنَّة والنار في عالَمٍ يعلمُه الله... إلخ هو أحدُ قولين فيها ثانيهما وجرَى عليه كثيرون بل الأكثرون منهم السُّيوطِيُّ، فإنه ذكرِ في ((البدور السافرة)) وفي غيرِها حديثاً عن ابنِ مسعودٍ أنَّه قال: الجنَّة في السماء السَّابعة _أي: فوقها_ والنَّار في الأرضِ السَّابعة السُّفلى، وذكر عن ((تاريخ أصبهان)) عن ابنِ عمرَ قال: قال رسولُ الله: ((إنَّ جهنَّم محيطةٌ بالدُّنيا، وإنَّ الجنَّة مِن ورائها)) فلذلك كانَ الصِّراطُ على جهنَّم طريقاً إلى الجنَّة، انتهى.
          تنبيه: قال في ((الصحاح)) الجنَّة لغةً البُستانُ، / وقال في ((المصباح)): الجنَّة _بالفتح_ الحديقةُ ذات الشَّجرِ، وقيل: ذات النَّخلِ، والجمعُ جنَّاتٌ على لفظِها وجنَان أيضاً، انتهى.
          وقال العينيُّ: الجنَّةُ البستانُ من الشَّجرِ المتكاثفِ الظلِّ بالتفافِ أغصَانهِ، والتركيبُ دائرٌ على السَّتر وكأنَّها لتكاثفِهَا وتظلُّلِها سمِّيتْ بالجنَّة التي هي المرَّة من مصدَر جَنَّهُ إذا سترَهُ كأنَّها سترةٌ واحدة لفرطِ التفافِهَا، وسمِّيتْ دارُ الثوابِ جَنَّة لما فيها من الجنَانِ، انتهى.
          ومثله في البَيضَاويِّ فهي في الأصلِ المرةُ ثمَّ سمِّي به البُستان المذكور، ثمَّ دار النَّعيمِ والثَّواب، واللَّام في الجنَّة للعهدِ أو للجنْسِ، وهي سبعٌ على ما ذكره البَيضَاويُّ عن ابن عبَّاسٍ قال: جنَّةُ الفردوسِ وجنَّة عدنٍ وجنَّة النَّعيمِ ودار الخلدِ وجنَّة المأوى ودارُ السلام وعِلِّيون، وفي كل واحدةٍ منها مراتبُ ودرجات متفَاوتةٌ على حسَبِ تفَاوتِ الأعمَالِ والعُمَّالِ، انتهى.
          وكذا ابنُ الجوزيِّ في ((بستان الواعظين))، وعبارته: روى وهبُ بن منبِّه عن ابن عبَّاسٍ قال: لمَّا خلقَ الله تعالى الجنَانَ يوم خلقَها وفضَّل بعضَها على بعضٍ وهي سبعُ جنَّاتٍ: دارُ الخلدِ، ودارُ السَّلام وجنةُ عدنٍ، وهي قصبةُ الجنَّة وهي مشرفةٌ على الجنَان كلِّها، وهي دار الرَّحمن تباركَ وتعَالى.
          وقال اللاقانيُّ: وهل هي سبعُ جنَّاتٍ متجَاورةٌ أوسطُهَا وأفضَلُها الفردوسُ وهو أعلاهَا، وفوقها عرشُ الرحمنِ، ومنها تفجرُ أنهارُ الجنَّة، كما جاء به الحديثِ، وجنَّةُ المأوى، وجنَّةُ الخلدِ، وجنَّةُ النعيمِ وجنةُ عدنٍ، ودارُ السَّلام، ودارُ الخُلد، أو أربعٌ ورجَّحَه جماعةٌ أخذاً من قولهِ تعالى: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ} [الرحمن:46] ثمَّ بعد وصْفِهما قال: {وَمِنْ دُونِهِمَا جَنَّتَانِ} [الرحمن:62] أو هي واحدةٌ والأسماءُ والصِّفاتُ كلها جاريةٌ عليها لتحقُّقِ معَانيها كلِّها؟ فيه خلافٌ بيَّنَّا وجهَه بالأصلِ، انتهى.
          وهل قيل بأنَّها ثمانيةٌ بزيادة عِلِّيونَ وغيرها فقد عدَّها القرطبيُّ سبعةً أيضاً مثل ما تقدم إلا أنَّه سمى بعضَها دارَ الجلال كما في ((البدور السافرة)) وقد جرى المصنِّف على عادتهِ الغالبةِ أنَّه يذكر تفسير كلمَاتٍ فقال:
          (قَالَ) وفي بعضِ الأصُولِ: <وقال> (أَبُو الْعَالِيَةِ) بالعين المهملة ثم تحتيَّة هو رفيع مصغراً الرَّياحِيُّ ممَّا وصلَه ابنُ أبي حاتم من طريقِهِ مفرَّقاً دونَ أولِهِ (مُطَهَّرَةٌ) أي: من قوله تعالى في سورة البقرةِ: {وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ} [البقرة:25] أي: (مِنَ الْحَيْضِ وَالْبَوْلِ وَالْبُزَاقِ) بالزاي ولأبي ذَرِّ: <والبصاق> بالصاد المهملة، وزادَ ابنُ أبي حاتم من طريق مجاهدٍ: ((ومن المنيِّ والولد))، ومن طريقِ قتادةَ لكن قال: ((من الأذى والإثم)) قال في ((الفتح)): ورُوي هذا عن أبي سعيد مرفوعاً ولا يصحُّ إسنادُه.
          ({كُلَّمَا رُزِقُوا} أُتُوا بِشَيْءٍ) مبنيٌّ للمجهول تفسيرٌ لـ{كلما رزقوا} (ثُمَّ أُتُوا بآخَرَ) مبنيٌّ للمجهولِ أيضاً واستفيدَ التَّكرار من {كلَّما}؛ أي: غيره ({قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ}) وقوله: (أُتِينَا مِنْ قَبْلُ) تفسير لما قبله، و((أتينا)) بالهمزِ من غير واوٍ، من الإتيانِ بمعنى المجيءِ، ولأبي ذَرٍّ عن الحمويِّ والمُستملِي: <أوتينا> بواو بمعنى الإعطاء وصوَّبه السَّفاقسيُّ وصاحب ((الفتح)).
          ({وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهاً} [البقرة:25] يُشْبِهُ بَعْضُهُ بَعْضاً) أي: في اللَّون (وَيَخْتَلِفُ فِي الطُّعُومِ) جمعُ طعمٍ ولأبي ذَرٍّ: <في الطعم> بالإفرادِ، قال في ((الفتح)): هو كقولِ ابنِ عبَّاسٍ: ليسَ في الدُّنيا ممَّا في الجنَّة إلا الأسماء، وقال الحسنُ: معنى قوله: {مُتَشَابِهاً} أي: خيارٌ لا رديءَ فيه، وقال في ((الفتح)) و((العمدة)) واللَّفظ ((للعمدة)): روى ابنُ أبي حاتم عن يحيى بنِ أبي كثيرٍ قال: عُشْبُ الجنَّة الزَّعفرانُ وكثْبَانها المسْكُ، ويطوفُ عليهِم الولدانُ بالفواكهِ، فيأكلُونها ثمَّ يؤتَونَ بمثلها فيقولُ لهم أهلُ الجنَّة: هذا الذي أتيتُمُونا آنفاً به، فيقولُ لهم الولدان: / كلُوا فإنَّ اللَّونَ واحدٌ والطَّعمُ مختلفٌ، وهو قوله تعالى: {وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهاً} واختلفَ في المرادِ بالقبليَّة على وَجهين:
          أحدهما: ما رواه النَّسائيُّ عن ابن عبَّاسٍ وابنِ مسعودٍ وناسٍ من الصَّحابة: {قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ} [البقرة:25] قال: إنهم أُوتوا بالثَّمرةِ في الجنَّة فلمَّا نظروا إليها: {قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ} في دار الدُّنيا.
          وثانيهما: ما قاله عكرمةُ: {قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ} قال: معناه مثلُ الذي كان بالأمسِ ورجَّح الطَّبريُّ الأوَّلَ من جهةِ أنَّ الآية دلتْ على عمومِ ذلك في كلِّ ما رزقوهُ قال: فيدخلُ في ذلك أولُ رزق رُزقوه فيتعيَّن أن لا يكونَ قبله إلَّا ما كانَ في الدُّنيا، انتهى.
          وقال البيضَاويُّ: {مِنْ قَبْلُ}؛ أي: من قبلِ هذا في الدُّنيا جعلَ ثمرةَ الجنَّةِ من جنسِ ثمرِ الدُّنيا لتميلِ النَّفسُ إليه أولَ ما ترَى فإنَّ الطباعَ مائلةٌ إلى المألوفِ متنفِّرةٌ عن غيرهِ وستَبينُ لها مزيَّته وكُنهُ النِّعمةِ فيه إذ لو كان جنساً لم يُعهدْ ظنت أنَّه لا يكون إلا كذلك أو في الجنَّة لأنَّ طعَامها متشَابهُ الصُّورة كما حُكِي عن الحسنِ أنَّ أحدَهُم يؤتى بالصَّحفة فيأكلُ منها ثم يُؤتَى بأخرَى فيراها مثل الأولى فيقولُ ذلك فيقول الملك كُل فاللَّون واحد والطعم مختلفٌ، أو لما روي أنه عليه الصَّلاة والسَّلام قال: ((والَّذي نفسُ محمَّدٍ بيدِهِ إنَّ الرجلَ من أهل الجنَّة ليتناولُ الثَّمرةَ ليأكلها فمَا هي واصلةٌ إلى فيه حتى يبدِّلَ الله مكانها مثلها)) فلعلَّهم إذا رأوها على الهيئةِ الأولى قالوا ذلك والأوَّلُ أظهرُ لمحافظتهِ على عموم ((كلَّما)) انتهى.
          ({قُطُوفُهَا}) بضمِّ القاف، جمعُ قطف _بكسرِ القاف_ قال البيضَاويُّ: وهو ما يجتنَى بسرعةٍ والقَطْفُ بالفتح المصدرُ؛ أي: عناقيدُها (يَقْطِفُونَ) بكسرِ الطاء (كَيْفَ شَاءُوا) رواه عبدُ بن حُميد عن البراء ({دَانِيَةٌ}) قريبةٌ، فسَّر {قُطُوفُهَا} بيقطفون؛ لأنَّ مِن شأنِها أن تُقطفَ، ولذا قال الكَرمَانيُّ: فإن قلتَ: كيف فسَّر القطُوفَ بيقطفُون؟ قلت: جعلَ {قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ} جملةً حاليَّة وأخذَ لازمَها، انتهى.
          وأقول: مثل الحالية الوصفيَّة؛ لقولهِ: {فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ} [الحاقة:22] وقال شيخُ الإسلامِ: لا يخفَى ما في تفسيرِ {قُطُوفُهَا} بذلك، انتهى.
          وتفسيرُ {دَانِيَةٌ} بقريبة رواهُ ابنُ أبي حاتم عن البراءِ من طريق الثَّوريِّ، ورواه من طريقِ قتادةَ عنه بلفظ: قال: دنَتْ فلا يرُدُّ أيديَهم عنها بُعدٌ ولا شَوك ({الأَرَائِكُ}) بالهمزِ جمعُ أريكةٍ (السُّرُرُ) بضمَّتين، جمعُ سريرٍ خبرٌ عن {الأَرَائِكُ} ويُجمَعُ على أسرَّة أيضاً، رواه عبدُ بن حُميد عن ابن عبَّاسٍ بلفظ: {الأَرَائِكُ} السُّرُر في الحجَالِ، ورواه عنه من طريقِ الحسنِ وعكرمةَ جميعاً أنَّ الأريكَةَ هي الحجلةُ على السَّرير، وعن ثعلبٍ الأريكةُ لا تكونُ إلَّا سَريراً متَّخذاً في قبةٍ عليه شوارٍ ومخدَّةٍ، والشِّوار _بضمِّ الشِّين المعجمةِ وتخفيف الواو_:متاعُ البيتِ.
          (وَقَالَ الْحَسَنُ) أي: البصريُّ (النَّضْرَةُ) يريد قوله تعالى: {وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُوراً} [الإنسان:11] (فِي الْوُجَه) وفي بعض الأصُولِ: <الوجوه> بالجمع (وَالسُّرُورُ فِي الْقَلْبِ) رواه عبدُ بن حُميد عن الحسنِ (وَقَالَ مُجَاهِدٌ: {سَلْسَبِيلاً} حَدِيدَةُ الْجِرْيَةِ) يريدُ تفسيرَ قولهِ تعالى: {عَيْناً فِيهَا تُسَمَّى سَلْسَبِيلاً} [الإنسان:18] وحَديدة _بفتح الحاء وبدالين مهملات_؛ أي: قويَّة الجريةِ، وصَلَه سعيدُ بن منُصورٍ وعبدُ بن حميدٍ كما في ((الفتح)).
          وذكرَ عياض أنَّ القابسيَّ رواها جَريدة _بفتح الجيمِ وراءٍ مكسورةٍ بدل الدَّال_ وفسَّرها بليَّنةٍ قال: والَّذي قاله لا يعرفُ، وإنَّما فسَّروا السَّلسبيلَ بالسَّهلَةِ اللَّينة الجريَةِ، قال في ((الفتح)): يشير _أي: عياض_ بذلك إلى تفسيرِ قتادة فإنَّه قال في قوله: {سَلْسَبِيلاً} قال: سلسةُ لهم يصرفُونها حيثُ شاؤوا، / وروي عن مجاهدٍ أنه قال: تجرِي شبيه السَّيل قال: وهذا يؤيِّد روايةَ الأصلِ أنَّه أراد قوَّةَ الجريِ، قال: والذي يظهرُ أنَّهما لم يتواردا على محلٍّ واحدٍ بل أرادَ مجاهدٌ صفةَ جريِ العين وأرادَ قتادةُ صفةَ الماء قال: وروى ابنُ أبي حاتم عن عكرمةَ قال: السَّلسبيلُ: اسمُ العين المذكورَةِ وهو ظاهرُ الآية لكنْ استُبعدَ؛ لوقُوعِ الصَّرفِ فيه، وأبعَدَ من زعمَ أنَّه كلامٌ مفصولٌ من فعل أمرٍ واسم مفعول، انتهى فتأمل.
          وقال البيضَاويُّ: {عَيْناً فِيهَا تُسَمَّى سَلْسَبِيلاً} لسلاسَة انحدارِها في الحَلْق وسهولَة مسَاغِها يُقال: شرابٌ سلسلٌ وسلسَالٌ وسلسَبيلٌ، ولذلك حكمَ بزيادةِ الباءِ، والمرادُ به أنَّه ينفِي عنها لدغَ الزَّنجبيل ويصفُها بنقيضِهِ، وقيل: أصلُه سلَّ سبيلاً فسمِّيتْ به كتأبَّطَ شرًّا؛ لأنَّه لا يشربُ منها إلَّا من سألَ إليها سبيلاً بالعملِ الصَّالح، انتهى.
          وفي العينيِّ: قال أبو العَاليَة ومقاتِلٌ وابنُ حبَّانَ: سمِّيتْ سلسبيلاً؛ لأنها تسيلُ عليهم في الظَّرف وفي منازِلِهم تنبعُ من أصلِ العرش من جنَّة عدَن إلى أهلِ الجنَان ({غَوْلٌ} وَجَعُ الْبَطْنِ) ولأبي ذَرٍّ: <وجع بطنٍ> بحذف ((الـ)) ({يُنْزَفُونَ} لاَ تَذْهَبُ عُقُولُهُمْ) أي: عند شربِ خمرِ الجنَّة بل هي ثابتةٌ مع اللَّذة والطربِ يشيرُ إلى تفسيرِ قوله تعالى في الصَّافات: {لَا فِيهَا غَوْلٌ وَلَا هُمْ عَنْهَا يُنْزَفُونَ} [الصافات:47] وهذا تفسيرُ مجاهد كما في ((الفتح)) ورُوي عن ابن عبَّاسٍ وقتادةَ: صُداع، وقال البيضَاويُّ: {لَا فِيهَا غَوْلٌ}؛ أي: غائلةٌ، كما في خمرِ الدُّنيا كالخمَارِ من غَاله يَغُوله: إذا أفسدهُ ومنها الغول.
          {وَلَا هُمْ عَنْهَا يُنْزِفُونَ} أي: يسكرون من نزفَ الشَّاربُ فهو نزيفٌ ومنزوفٌ إذا ذهبَ عقلُه أفردَه بالنَّفِي وعطفه على ما يعمُّه؛ لأنَّه من عِظَم مفاسدِهِ كأنَّه جنسٌ برأسِهِ وقرأ حمزةُ والكسَائي: ▬ينزِفون↨ بكسرِ الزاي، من أنزف الشَّاربُ: إذا نفد عقله أو شرابُه، وأصله للنَّفاد يُقال: نزف المطعونُ إذا خرجَ دمُه كلُّه، ونزَحتُ الركبة حتى نزفتُهَا.
          (وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ دِهَاقاً مُمْتَلِئاً) بالتذكير؛ لتأويله، وفي بعضِ الأصُول: <ممتلئة> وصله عبدُ بن حُميد عنه بلفظ: الكأسُ الدِّهاقُ: الممتلئةُ المتتابعةُ، وروى الطَّبريُّ عن مسلمٍ بن نسطاسٍ: أنَّ ابن عباس قال لغلامهِ: اسقني دهاقاً فجاءَ بها الغلامُ ملأى.
          ({كَوَاعِبَ} نَوَاهِدَ) وصلهُ ابنُ أبي حاتم عن ابنِ عبَّاسٍ يشيرُ به إلى تفسيرِ قولهِ تعالى: {وَكَوَاعِبَ أَتْرَاباً} [النبأ:33] الكواعبُ: جمع كاعبٍ، وفعله كَعَب من باب ضَرَب ونَصَر، والنَّواهد خبرُ {كَوَاعِبَ} جمع: ناهد، وهي التي بدا نهدُها؛ أي: ثديها، قال في ((القاموس)): نَهَدَ الثَّديُ، كمنَعَ ونصَرَ نهوداً كعب، والمرأةُ كعب ثديها كنهدتْ فهي منهدٌ وناهدٌ وناهدَةٌ، والرجل: نهضَ، ولعدِّوه: صمَدَ له.
          (الرَّحِيقُ الْخَمْرُ) أشار إلى تفسيرِ قولهِ تعالى: {مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ} [المطففين:25] وهذا وصله الطَّبريُّ عن ابن عبَّاسٍ في قوله تعالى: {رَحِيقٍ مَخْتُومٍ} قال: الخمرُ ختم بالمسكِ، وقيل: الرَّحيقُ الخالصُ من كلِّ شيءٍ وفي ((القاموس)): الرحيقُ الخمرُ أو أطيبها أو أفضَلُها أو الخالصُ أو الصَّافي كالرحاقِ.
          (التَّسْنِيمُ: يَعْلُو شَرَابَ أَهْلِ الْجَنَّةِ) يشيرُ إلى تفسيرِ قولهِ تعالى: {وَمِزَاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ} [المطففين:27] هذا وصلَه عبد بن حميدٍ بسند صحيحٍ عن ابن عباس وزاد: ((وهو صرفٌ للمقرَّبين ويمزجُ لأصحابِ اليمين)) ويعلوا _بالعين المهملة_ صفة لشيءٍ مقدَّر خبر التَّسنيمِ، وقال البيضَاويُّ: التسنيمُ علم العينِ بعينها سمِّيت تسنيماً لارتفاعِ مكانِها أو رفعة شرابها، وقال الجوهريُّ: التَّسنيمُ: اسمُ ماءٍ في الجنَّة سمِّي بذلك؛ لأنَّه جرى فوقَ الغرفِ والقصُور، انتهى.
          ({خِتَامُهُ} طِينَةُ مِسْكٌ) قال في ((الفتح)): وصلَهُ ابنُ أبي حاتم عن مجاهدٍ في قولهِ تعالى: {خِتَامُهُ مِسْكٌ} [المطففين:26] قال: طينُهُ مسكٌ، قال ابنُ القيِّم في ((حادي الأرواح)): تفسيرُ مجاهدٍ هذا يحتاجُ إلى تفسيرٍ والمراد: ما يبقى آخرَ الإناء / من الدُّرديِّ مثلاً، قال: وقال بعضُ الناس: معناه آخر شربِهم يختمُ برائحة المسكِ، قال: وهذا أخرجَه ابنُ أبي حاتم أيضاً من طريق أبي الدَّرداءِ قال في قوله: {خِتَامُهُ مِسْكٌ} قال: هو شرابٌ أبيضُ مثلُ الفضَّةِ يختمُون به آخرَ شَرابهِم، زاد القسطلَّانيُّ: ولو أنَّ رجلاً من أهل الدنيا أدخلَ إصبعَهُ فيه ثمَّ أخرجها لم يبقَ ذو روحٍ إلا وجدَ ريحها وما قيل: المرادُ بالختامِ: ما يبقَى في أسفلِ الشَّراب من التفلِ يدلُّ على أن أنهار الجنةِ تجري على المسكِ ولذلك يرسبُ من مائها في الإناءِ آخر الشرابِ كما يرسبُ الطِّين في آنيةِ الدنيا، وقال البيضَاويُّ: {خِتَامُهُ مِسْكٌ}؛ أي: مختومةٌ أوانِيهِ من الأكوابِ والأباريقِ بالمسكِ مكانَ الطين، قال: ولعله تمثيلٌ لنفاستِهِ، أو الذي له ختامٌ؛ أي: مَقطعٌ هو رائحةُ المسك، وقرأ الكسائيُّ: ▬خاتَمه↨ بفتح التَّاء؛ أي: ما يختم به ويُقطع.
          ({نَضَّاخَتَانِ} فَيَّاضَتَانِ) يشيرُ إلى تفسير قوله تعالى في الرحمن: {فِيهِمَا عَيْنَانِ نَضَّاخَتَانِ} [الرحمن:66] وهذا تفسيرُ ابن عباسٍ وصله عنه ابنُ أبي حاتم، وقال البَيضَاويُّ: {نَضَّاخَتَانِ} فوَّارتان بالماء، انتهى.
          وقال في ((القاموس)): نضَخَه كمنَعَه رشَّه أو كنضَخَه أو دونه، والماء اشتدَّ فورَانُه من ينبوعِهِ أو ما كان منهُ من سُفْلٍ إلى علوٍ (يُقَالُ: {مَوْضُونَةٌ} مَنْسُوجَةٌ مِنْهُ) وفي بعض النسخ: <ومنه> (وَضِينُ النَّاقَةِ) هذا قولُ الفرَّاء في تفسيرِ قولهِ تعالى في الواقعة: {عَلَى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ} [الواقعة:15] وقال أبو عبيدَةَ في ((المجاز)) في قوله: {عَلَى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ} يقول: متداخِلَةٌ، كما توصلُ حلقُ الدرعِ بعضِها في بعضٍ مضَاعفَةً، قال: والوَضِينُ: البطانُ إذا نسِجَ بعضُه على بعضٍ مضَاعفاً وهو وضينٌ في موضعِ موضُونٍ، انتهى.
          وقيل: الوضينُ للنَّاقة كالحزامِ للسَّرج، وقال السُّديُّ: موضُونةٌ منسوجةٌ بالذهبِ واللؤلؤِ، وقال عكرمةُ: مشبكة بالدُّرِّ والياقوتِ.
          (وَالْكُوبُ: مَا لاَ أُذُنَ لَهُ وَلاَ عُرْوَةَ، وَالأَبَارِيقُ: ذَوَاتُ الآذَانِ وَالْعُرَى) بضمِّ العين المهملة وفتحِ الرَّاء مقصور، ولأبي ذَرٍّ: <ذات> بالإفرادِ هذا قولُ الفرَّاء، وقال قتادةُ: الكوبُ الذي دونَ الإبريق ليسَ له عروةٌ، وهذا تفسيرٌ لقولهِ تعالى في سورةِ الواقعَةِ: {بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ} [الواقعة:18] الجارُّ والمجرورُ متعلقٌ بـ{يَطُوفُ} من قولهِ تعالى: {يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ} [الإنسان:19] والأكوابُ: جمع كُوْبٍ _بضمِّ الكاف وسكونِ الواو فموحدةٌ_،وعبارة البيضَاويِّ: الكوبُ: إناءٌ لا عروةَ له ولا خرطوم، والإبريقُ: إناءٌ له ذلك.
          ({عُرُباً} مُثَقَّلَةً، وَاحِدُهَا عَرُوبٌ، مِثْلُ صَبُورٍ وَصُبُرٍ) هذا قولُ الفراءِ تفسيراً لقولهِ تعَالى: {فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَاراً. عُرُباً} [الواقعة:36-37] في سورة الواقعةِ، أرادَ بمثقَّلةٍ مضمومةِ الرَّاء، وحُكي عن الأعمشِ أنَّه قال: كنتُ أسمعُهم يقولون: عُرْباً، بالتَّخفيف؛ أي: بسكونِ الرَّاء، وهو لغة تميمٍ وبكرٍ، قال الفرَّاء: الوجْهُ التَّثقيلُ؛ لأنَّ كلَّ فعولٍ أو فعيلٍ أو فعالٍ جمعَ على هذا المثالِ فهو مثقَّل مذكراً كانَ أو مؤنَّثاً، وقال الكَرمانيُّ: وقرئ: ▬عرْباً↨ بسكونِ الرَّاء.
          وقوله: (تُسَمِّيهَا) بالفوقيَّة والتحتيَّة؛ أي: العربُ أو العُروبُ (أَهْلُ مَكَّةَ الْعَرِبَةَ) بفتحِ العين المهملةِ وكسر الرَّاء وبموحَّدة، وقال الطَّبريُّ: كانت العربُ تقولُ إذا كانت المرأةُ حسنةَ التَّبعُّلِ إنَّها لعَرِبَة (وَأَهْلُ الْمَدِينَةِ) بعطفِ ((أهل)) على سابقِهِ؛ أي: وتسميها أهلُ المدينة (الْغَنِجَةَ) بفتحِ الغين المعجمَةِ وكسر النُّون وبالجيمِ فهاء تأنيث، من الغَنَج، وهو التَّكسر والتدلُّل في المرأةِ، وقد غنجَتْ وتغنَّجَتْ.
          (وَأَهْلُ الْعِرَاقِ) أي: وتسمِّيها أهلُ العراق (الشَّكِلَةَ) بفتح الشِّين المعجمَةِ وكسرِ الكافِ وفتحِ اللام فهاءُ تأنيثٍ، هي حسنةُ الخِلقَة، وقال في ((الفتح)): وأخرجَهُ ابنُ أبي حاتم عن عكرمةَ كذلك، قال: ومن طريقِ ابنِ بريدةَ، قال: هي الشَّكِلة، بلُغَة أهلِ مكة، والمَغْنُوجَة بلغةِ أهلِ المدينةِ، ومثله في كتاب ((مكة)) للفاكِهيِّ، وروى ابنُ أبي حاتمٍ من طريقِ زيدِ بن أسلم / قال: هي الحسنةُ الكلامِ، ومن طريق جعفرِ بن محمَّدٍ عن أبيهِ عن جدِّه مرفُوعاً: ((العربُ كلامهنَّ عربيٌّ)) وهو ضعيفٌ منقطعٌ، وعن ابن عبَّاسٍ: العربُ: العوَاشقُ لأزواجهنَّ وأزواجهنَّ لهنَّ عاشقُونَ، وأخرجَ الطَّبريُّ نحوه عن أمِّ سلمةَ مرفوعاً.
          (وَقَالَ مُجَاهِدٌ) أي: ابن جبرٍ ({رَوْحٌ} جَنَّةٌ وَرَخَاءٌ) بفتحِ الرَّاء والخاءِ المعجمَةِ فألفٌ ممدودٌ (وَالرَّيْحَانُ: الرِّزْقُ) هذا تفسيرُ مجاهدٍ، كما أخرجَهُ البَيهقيُّ في ((الشُّعب)) عنه، وأخرجَ أبو نُعيمٍ عنه قال: الرَّوحُ: الفرحُ، والريحانُ: الرِّزقُ، وقيل: {رَوْحٌ} طيبٌ ونسيمٌ، وقيل: الاستراحةُ، ومَن قرأَ بضمِّ الرَّاء أرادَ الحياةَ التي لا موتَ معها، وعن الحسنِ: الرَّيحان ريحاننا، وقال البغويُّ: من قرأ بالضمِّ معناهُ كما قال الحسنُ: يخرج روحه إلى الرَّيحان، وقال قتادةُ: الرَّوحُ: الرَّحمةُ؛ أي: له الرَّحمة، وقيل: معنَاه محياةً وبقاءً لهم، ومن قرأَ بالفتح فمعنَاه: له روحٌ وهو الرَّاحةُ، وهو قولُ مجاهدٍ، وقال سعيدُ بن جُبير: فرح، وقال الضَّحاكُ: مغفرةٌ ورحمةٌ وريحانٌ استراحَةٌ، وقال مجاهدُ وسعيدُ بن جُبير: رزقٌ، وهو بلسَان حميرَ يقولون: خرجتُ أطلبُ ريحانَ اللهِ؛ أي: رزقَه، وقال أبو بكرٍ الورَّاق: الروحُ النَّجَاة من النَّارِ والرَّيحانُ دخولُ دارِ القرارِ، وقال آخرون: الرَّيحانُ هو الذي يشمُّ: قال أبو العاليةَ: لا يفارقُ أحدٌ من المقرَّبينَ الدَّنيا حتى يُؤتى بغصنٍ من ريحانِ الجنَّة فيشمُّه ثم تقبضُ روحُه، انتهى.
          (وَالمَنْضُودُ: المَوْزُ) هذا تفسيرٌ عزاهُ القسطلَّانيُّ لأبي سعيدٍ، وعزاهُ في ((الفتح)) لمجاهدٍ أنه قال في قولهِ تعالى: {وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ} [الواقعة:29] الموزُ المُتراكِم، انتهى.
          ويُستفاد منه أنَّ ما قالهُ المصنِّف فيه تسمى؛ لأنَّ الموز اسمٌ للطَّلح لا للمنضُود، بل مثلُه قولُ البيضَاويِّ: {وَطَلْحٍ} وشجرُ موزٍ منضُودٍ أو أم غيلانَ، وله أنوارٌ كثيرةٌ طيِّبةُ الرَّائحةِ، قال: وقرئ: ▬وطلع↨ بالعين، وقال الكرمانيُّ: وعن السُّديِّ: هو شجرٌ يشبهُ طلحَ الدُّنيا لكنَّ ثمرَه أحلى من العسَلِ نضدَ حملُه من أسفلهِ إلى أعلَاه.
          (وَالْمَخْضُودُ: الْمُوقَرُ حَمْلاً، ويُقَالُ أَيْضاً: لاَ شَوْكَ لَهُ) وصلَ هذين التَّفسيرَين الفِرْيابيُّ عن مجاهدٍ يذكر بذلك قريشاً؛ لأنَّهم كانوا يعجَبُون من وجٍّ وظلالُهُ من طلحٍ وسدرٍ ووَجُّ _بفتح الواوِ وتشديدِ الجيمِ_ وادٍ بالطَّائف، وقال السُّديُّ: منضُود مصفوفٌ، وروى ابنُ أبي حاتمٍ عن عليٍّ ☺ أنَّه كان يقول: طلع منضُودٍ، قال ابنُ كثيرٍ: فعليهِ يكونُ من وصْفِ السِّدرِ بكأنَّهُ مخضودٌ وهو الذي لا شوكَ له، وأنَّ طلعَهُ منضُودٌ؛ أي: كثيرُ الثَّمرِ.
          تنبيه: وقعَ للقاضِي عياضٌ أنَّه قال في أواخر ((مشارقه)): أنَّ الذي وقعَ في البُخاريِّ هنا تخليطٌ وأن الصَّوابَ: والطَّلحُ الموزُ، والمنضُودُ الموقَرُ حملاً الذي نضَدَ بعضُه على بعضٍ من كثرةِ حملِهِ، وردَّه في ((الفتح)) فقال: كأنَّ عيَاضاً لم يقفْ على ذلكَ فقد نقلَ الطَّبريُّ القَولينِ عن جمعٍ من العلماءِ بأسانيدِهِ إليهم، فنقل الأولَ عن مجاهدٍ والضَّحاكِ وسعيدِ بن جُبير، ونقلَ الثَّاني عن ابن عبَّاسٍ وقتادةَ وعكرمةَ وقَسَامة بن زهيرٍ وغيرهِم قال: وكأنَّ عيَاضاً استبْعدَ تفسيرَ الخضَدِ بالثقلِ؛ لأنَّ الخضَدَ في اللُّغةِ القطعُ، ونقلَ أهلُ اللغةِ أنَّ الخضَدَ أيضاً الثَّني، وعليه يحملُ التأويلُ الأول؛ أي: لأنَّه لكثرةِ حملهِ انثَنَى، وأمَّا التأويلُ الذي ذكرَهُ هو فقد نقلَ الطَّبريُّ اتفاقَ أهلِ التأويلِ من الصَّحابةِ والتَّابعين على أنَّ المرادَ بالطَّلحِ المنضُودِ الموزُ، ثمَّ قالَ: فظهرَ فسادُ الاعتراضَ، وأنَّ الذي وقعَ في البخاريِّ هو الصَّواب، انتهى فتأمَّله.
          (وَالْعُرُبُ الْمُحَبَّبَاتُ إِلَى أَزْوَاجِهِنَّ) العُرُب: بضمِّ الرَّاء للأكثر، وروى أبو ذَرٍّ: <العُرْب> بسكونِ الرَّاء وهذا وصله ابنُ أبي حاتم عن ابنِ عبَّاسٍ وحقُّ هذا أنْ يذكرَه المصنِّفُ فيما مرَّ آنفاً (وَيُقَالُ: {مَسْكُوبٌ} جَارٍ) يريد تفسيرَ قوله تعالى: {وَمَاءٍ مَسْكُوبٍ} [الواقعة:31] في الواقعَةِ، وهذا وصلَهُ الفِرْيابيُّ عن مجاهدٍ، وقوله: ((جارٍ)) بالجيمِ / وكسرِ الرَّاء منونةً، والأصْلُ جارِي، من الجريانِ، فاعلٌ بحذفِ الياء كقَاضٍ وأرادَ به أنَّه قويُّ الجريِ كأنَّه يسكبُ سَكْباً، وقال البيضَاويُّ: {مَسْكُوبٍ} سكبَ لهم أين شاؤوا وكيف شاؤوا بلا تعبٍ، أو مصبُوبٌ سائل كأنَّه لما شبَّه حالَ السَّابقين في التنعُّم بأعلى ما يُتصَور لأهلِ المدن شبَّهَ حالَ أصحَابِ اليمينِ بأكلِ ما يتمنَّاهُ أهلُ البَوادِي إشعَاراً بالتَّفاوتِ بينَ الحالَينِ، انتهى فتأمَّلهُ.
          وقال الكرمانيُّ: المسكوبُ: الجارِي الَّذي لا ينقطعُ جرَيانُه، وقيل: الجارِي في غيرِ الأخدودِ ({وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ} بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ) قال في ((الفتح)): وصلَهُ الفِرْيابيُّ عن مجاهدٍ، وقال أبو عُبيدةَ: في ((المجاز)): المرفوعَةُ: العاليةُ، تقول: بناء مرتفِعٌ؛ أي: عالٍ، وروى ابنُ حبَّان والتِّرمذيُّ عن أبي سعيدٍ الخدريِّ في قولهِ تعالى: {وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ} [الواقعة:34] قال: ارتفَاعها مسيرةُ خمسمائة عامٍ، قال القُرطبيُّ: معناهُ: أن الفرش في الدَّرجةِ، وهذا القدرُ ارتفاعٌ، قال: وقيل: المرادُ بالفرشِ المرفوعةِ: النساءُ؛ أي: لأنَّ النساءَ يكنى عنهنَّ بالفُرشِ من إطلاقِ المحلِّ وإرادَةِ الحالِّ.
          وقال البيضَاويُّ: {وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ}؛ أي: رفيعةُ القدرِ، أو منضدَّة مرتفعةٌ، وقيل: الفرشُ النساءُ، وارتفاعُها أنَّها على الأرائكِ ويدلُّ عليه قولُه: {إِنَّا أَنْشَأْنَاهُنَّ إِنْشَاءً} [الواقعة:35] أي: ابتدأناهنَّ ابتداء من غير ولادةٍ أبداً وإعادة، وفي الحديثِ: ((هنَّ اللَّواتي قُبضْنَ في دار الدُّنيا عجَائزَ شمطاً رمصاً جعلهنَّ اللهُ بعدَ الكبرِ أترَاباً على ميلادٍ واحدٍ كلَّمَا أتاهنَّ أزواجهنَّ وجدوهنَّ أبْكَاراً)) {فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَاراً. عُرُباً} متحبِّباتٍ إلى أزواجهنَّ جمع عروب وسكَّنَ راءَهُ حمزة، وروي عن نافعٍ وعاصمٍ مثلَه {أَتْرَاباً} فإنَّ كلهنَّ بنات ثلاثة وثلاثين سنةً، وكذا أزواجهنَّ، انتهى.
          وفي البغويِّ بسندِه إلى أبي هُريرةَ عن النَّبيِّ صلعم قال: ((يدخلُ أهلُ الجنَّةِ الجنَّةَ جُرْداً مُرْداً بيضاً جِعاداً مكحَّلينَ، أبناءَ ثلاثٍ وثلاثينَ على خلقِ آدمَ طولُهُ ستونَ ذراعاً في عرضِ سبعَةِ أذرعٍ)) وفيهِ عن أبي سعيدٍ الخدريِّ عن النَّبيِّ صلعم: ((مَن ماتَ من أهلِ الجنَّةِ من صَغِيرٍ أو كبيرٍ يردُّون أبناءَ ثلاثٍ وثلاثينَ سنةً في الجنَّةِ، لا يزيدُونَ عليها أبداً، وكذلك أهلُ النَّار)). انتهى.
          ({لَغْواً} بَاطِلاً {تَأْثِيماً} كَذِباً) يريدُ تفسير قوله تعالى: {لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً وَلَا تَأْثِيماً} [الواقعة:25] وصله الفرْيَابيُّ عن مجاهدٍ، وقال البيضَاويُّ: {لَغْواً} باطلاً {وَلَا تَأْثِيماً} ولا نسبةً إلى الإثمِ؛ أي: ولا يقالُ لهم أثمتم ({أَفْنَانٌ} أَغْصَانٌ) يريدُ تفسيرَ قوله تعالى في الرحمنِ: {ذَوَاتَا أَفْنَانٍ} [الرحمن:48] وصله الطَّبريُّ عن مجاهدٍ، وقال الضَّحاكُ: يعني: {أَفْنَانٍ} ألوانٌ من الفَاكهةِ، واحدُها على هذا فنٌّ، وعلى الأولِ فنَنٌ، قاله في ((الفتح)).
          وقال البيضَاويُّ: {ذَوَاتَا أَفْنَانٍ} أي: أنواعٌ من الأشجَارِ والثِّمارِ، جمع فنٍّ، أو أغصَان جمع فنَنٍ وهي الغُصنة الَّتي تتشعَّبُ من فروعِ الشَّجرةِ، وتخصِيصُها بالذكرِ؛ لأنَّها التي تورِقُ وتثمِرُ وتمدُّ الظِّلَّ.
          ({وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دَانٍ} [الرحمن:54] مَا يُجْتَنَى قَرِيبٌ) برفع ((قريبٌ)) خبرٌ لهو محذوفٌ، والجملةُ حالٌ ولو جعل خبراً لما يُجتنى لكانَ وَجِيهاً، يريدُ تفسيرَ: {وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دَانٍ} في الرحمنِ، وقد وصلَهُ الطَّبريُّ أيضاً عن مجاهدٍ، وقال البيضَاويُّ: {وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دَانٍ}؛ أي: قريبٌ يتنَاولُهُ القَاعدُ والمضطَجعُ، {وَجَنَى} اسمٌ بمعنى: مجنيٌّ، وقرئ بكسرِ الجيم.
          ({مُدْهَامَّتَانِ} سَوْدَاوَانِ مِنَ الرِّيِّ) قال في ((الفتح)): وصله الفِرْيابيُّ عن مجاهدٍ بلفظ: مسوادتان، وقال الفرَّاءُ: {مُدْهَامَّتَانِ}؛ يعني: خُضْراوان إلى السَّوادِ من الريِّ، وعن عطيَّةَ: كادَتا أن تكونا سوداوينِ من شدَّة الرَّي وهما خَضْراوانِ، وقال البيضَاويُّ: {مُدْهامَّتانِ}؛ أي: خضرَاوانِ تضْربانِ إلى السَّوادِ من شدَّةِ الخُضْرةِ، وفيه إشعارٌ بأنَّ الغالبَ على هاتَين الجنَّتين النَّبات والرَّياحِينُ المنبسِطةُ على وجهِ الأرضِ، وعلى الأوَّلين الأشجارُ والفوَاكهُ دَلالة على ما بينهُمَا من التَّفاوتِ، انتهى.
          ثمَّ شرع المصنِّفُ في إيرَادِ أحاديثَ تناسبُ / التَّرجمة، وهي ستَّةَ عشرَ، فقال: