نجاح القاري لصحيح البخاري

حديث: للعبد المملوك الصالح أجران

          2548- (حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُحَمَّدٍ) بكسر الباء الموحدة وسكون الشين المعجمة، السجستاني المروزي وهو من أفراد البخاريِّ، قال: (أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ) هو: ابنُ المبارك المروزي، قال: (أَخْبَرَنَا يُونُسُ) هو: ابن يزيد الأيلي (عَنِ الزُّهْرِيِّ) محمَّد بن مسلم بن شهاب أنَّه (قَالَ: سَمِعْتُ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيَّبِ يَقُولُ: قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ ☺: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلعم : لِلْعَبْدِ الْمَمْلُوكِ) إنَّما وصف العبد بالمملوك؛ لأنَّ العبد أعمُّ من أن يكون مملوكاً أو غير مملوكٍ، فإنَّ النَّاس كلَّهم عباد الله (الصَّالِحِ) أي: في عبادة الرَّب ونصح السيد.
          (أَجْرَانِ) قال ابن بطَّال: لمَّا كان العبد في عبادة ربِّه أجر كذلك له في نصح السَّيد أجر، ولا يقال: الأجران متساويان؛ لأنَّ طاعة الله تعالى أوجب من طاعته، وما كان أوجب كان أكثر ثواباً.
          (وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْلاَ الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْحَجُّ وَبِرُّ أُمِّي لأَحْبَبْتُ أَنْ أَمُوتَ وَأَنَا مَمْلُوكٌ) من قول أبي هريرة ☺ قاله ابن بطَّال، وكذا قاله الدَّاودي وغيره، وقالوا: الدَّليل على هذا قوله: ((وبر أمِّي)) ولم يكن للنَّبي صلعم حينئذٍ أمٌّ يبرُّها.
          وجنح الكرمانيُّ إلى أنَّه من كلام الرَّسول صلعم ، ووجَّه قوله: ((وبرُّ أمِّي)) فقال: أراد بذلك تعليم أمَّته، وأورده على سبيل فرض حياتها، أو المراد أمَّه التي أرضعته وهي حليمة السَّعدية، هذا وفاته التَّنصيص على إدراج ذلك.
          فقد صرَّح به الإسماعيليُّ من طريقٍ آخر عن ابن المبارك بلفظ: «والذي نفس أبو هريرة / بيده...إلى آخره»، وكذلك أخرجه الحسين بن الحسن المروزيُّ في كتاب «البر والصِّلة» عن ابن المبارك، وصرَّح مسلم أيضاً بذلك فقال: حدثني أبو الطاهر وحرملة بن يحيى قالا: أخبرنا ابن وهب قال: أخبرنا يونسٌ عن ابن شهاب سمعتُ سعيد بن المسيَّب يقول: قال أبو هريرة ☺ قال رسول الله صلعم : ((للعبد المملوك الصَّالح أجران)) والذي نفس أبو هريرة بيده لولا الجهاد في سبيل الله والحج وبرُّ أمِّي لأحببت أن أموت وأنا مملوك.
          قال _يعني: الزُّهري_: وبلغنا أنَّ أبا هريرة ☺ لم يكن يحج حتَّى ماتت أمُّه لصحبتها، وكذلك أخرجه البخاريُّ في «الأدب المفرد» من طريق سليمان بن بلال، والإسماعيليُّ من طريق سعيد بن يحيى اللخميِّ، وأبو عوانة من طريق عثمان بن عمر كلُّهم عن يونس، لكن الزِّيادة؛ أعني قوله: «قال: وبلغنا...» إلى آخره في طريق ابن وهب فقط.
          ولأبي عَوانة وأحمد من طريق سعيد عن أبيه عن أبي هريرة ☺ أنَّه كان سمعه يقول: لولا أمران لأحببت أن أكون عبداً يؤدِّي حقَّ الله عليه وحقَّ سيِّده. فعرف بذلك أنَّ الكلام المذكور من استنباط أبي هريرة ☺.
          وإنَّما استثنى أبو هريرة ☺ هذه الأشياء؛ لأنَّ الجهاد والحجَّ يشترط فيهما إذن السَّيد، وكذلك برُّ الأمِّ قد يحتاج فيه إلى إذن السَّيد في بعض وجوهه، كالسَّعي عليها بالنَّفقة والكسوة، فإن كسبه لمولاه؛ بخلاف خفضِ الجناح ولين القول ونحوهما، فإنَّه واجب على العبد كما على الحرِّ؛ بخلاف بقيَّة العبادات البدنيَّة.
          ولم يتعرَّض للعبادات المالية إمَّا لكونه كان إذ ذاك لم يكن له مالٌ يزيد على قدر حاجته فيمكنه صرفه في القربات بدون إذن السَّيد، وإمَّا لأنَّه كان يرى أنَّ للعبد أن يتصرَّف في ماله بغير إذن السَّيد. فافهم.
          قال الخطَّابي: ولهذا المعنى امتحن الله ╡ أنبياءه، ابتلى يوسف ◙بالرِّق، ودانيال حين سباه بختنصَّر. وكذا ما رُوِي عن الخضر حين سُئِل لوجه الله فلم يكن عنده ما يُعطيه فقال: لا أملك إلَّا رقبتي فبعني واستنفقْ ثمني ونحو ذلك.
          ثمَّ إنَّ اسم أمِّ أبي هريرة ☺: أُميمة _بالتصغير_ وقيل: ميمونة، وهي صحابيَّة ثبت ذكر إسلامها في «صحيح مسلم»، وبيان اسمها في «ذيل المعرفة» لأبي موسى.
          قال ابن عبد البرِّ: معنى هذا / الحديث عندي: أنَّ العبد لمَّا اجتمع عليه أمران واجبان: طاعة ربِّه في العبادات وطاعة سيِّده في المعروف، فقام بهما جميعاً كان له ضعف أجر الحرِّ المطيع لطاعته؛ لأنَّه قد ساواه في طاعة الله تعالى، وفضل عليه بطاعة من أمره الله تعالى بطاعته.
          قال: ومن هنا أقول: إنَّ من اجتمع عليه فرضان فأدَّاهما أفضل ممَّن ليس عليه إلَّا فرضٌ واحد فأدَّاه، كمن وجب عليه صلاة وزكاة وقام بهما فهو أفضل ممَّن وجبت عليه صلاة فقط، ومقتضاه أنَّ من اجتمعت عليه فروض فلم يؤدِّ منها شيئاً كان عصيانه أكثر من عصيان من لم يجب عليه إلَّا بعضها. انتهى ملخصاً.
          قال الحافظ العسقلانيُّ: والذي يظهر أنَّ مزيد الفضل للعبد الموصوف بالصِّفة المذكورة لِمَا يدخل عليه من مشقَّة الرقِّ، وإلَّا فلو كان التَّضعيف بسبب اختلاف جهة العمل لم يختصَّ العبد بذلك.
          وقال ابن التِّين: المراد أنَّ كلَّ عملٍ يعمله يُضاعف له، قال: وقيل: سبب التَّضعيف أنَّه أراد لسيِّده نصحاً وفي عبادة ربِّه إحساناً، فكان له أجر الواجبين وأجر الزِّيادة عليهما، قال: والظَّاهر خلاف هذا، وأنَّه بيَّن ذلك لئلا يظنَّ ظانٌّ أنَّه غير مأجورٍ على العبوديَّة، انتهى.
          وما ادَّعاه أنَّه الظَّاهر لا ينافي ما نقله قبل ذلك، فإن قيل: على هذا يلزم أن يكون أجر المماليك ضعف أجر السَّادات.
          فالجواب: على ما قاله الكرمانيُّ أنَّه لا محذور في ذلك، أو يكون أجر المماليك مضاعفاً من هذه الجهة، وقد يكون للسَّادات جهاتٌ أخرى يستحقُّون بها أضعاف أجر المماليك، أو يكون المراد: ترجيح العبد المؤدِّي للحقَّين على العبد المؤدِّي لأحدهما.
          هذا ويحتمل أن يكون تضعيف الأجر مختصًّا بالعمل الذي يتَّحد فيه طاعة الله وطاعة السَّيد فيعمل عملاً واحداً ويُؤجر عليه أجرين بالاعتبار. وأمَّا العمل المختلف الجهة فلا اختصاص له بتضعيف الأجر فيه على غيره من الأحرار، والله أعلم.
          واستدلَّ بهذا الحديث على أنَّ العبد لا جهاد عليه ولا حجَّ في حال العبوديَّة، وإن صحَّ ذلك منه، ومطابقة الحديث للتَّرجمة تؤخذ من معنى الحديث. /
          تتمة: ووقع في «كتاب ابن بطَّال» حديث أبي هريرة ☻ هذا لأبي موسى الأشعريِّ وهو غلطٌ، فإنه أسقط حديث أبي موسى وركَّبه على حديث أبي هريرة ☻ .