نجاح القاري لصحيح البخاري

باب من لم ير الرؤيا لأول عابر إذا لم يصب

          ░47▒ (باب: مَنْ لَمْ يَرَ الرُّؤْيَا لأَوَّلِ عَابِرٍ إِذَا لَمْ يُصِبْ) في وجه العبارة. وقال الكرمانيُّ: المعتبر في أقوال العابرين قول العابر الأوَّل، فيقبل إذا كان مصيباً في وجه العبارة، وأمَّا إذا لم يصب فلا يقبل إذ ليس المدار إلَّا على إصابة الصَّواب.
          وقال الحافظ العسقلانيّ: كأنَّه يشير إلى حديث أنسٍ ☺ قال: قال رسول الله صلعم فذكر حديثاً فيه: والرُّؤيا لأوّل عابرٍ، وهو حديثٌ ضعيفٌ فيه يزيد الرَّقاشيّ، ولكن له شاهدٌ أخرجه أبو داود والتِّرمذيّ وابن ماجه بسندٍ حسنٍ وصحَّحه الحاكم عن أبي رَزِين العقيليّ رفعه: ((الرُّؤيا على رِجْلِ طائرٍ ما لم تُعبَّر، فإذا عُبِّرت وقعت)) لفظ أبي داود. وفي رواية التِّرمذيّ: ((سقطت))، وفي مرسل أبي قلابة عند عبد الرَّزاق: ((الرُّؤيا تقع على ما تعبّر، مثل ذلك مثل رجلٍ رفع رجلَه فهو ينتظرُ متى يضعها)). وأخرجه الحاكم موصولاً بذكر أنسٍ، وعند سعيد بن منصور بسندٍ صحيحٍ عن عطاء: كان يقال: الرُّؤيا على ما أُوِّلت. وعند الدَّارميّ بسندٍ حسنٍ عن سليمان بن يسار / عن عائشة ♦ قالت: كانت امرأةٌ من أهل المدينة لها زوجٌ تاجرٌ يختلف يعني في التِّجارة، فأتت رسول الله صلعم فقالت: إنَّ زوجي غائبٌ وتركني حاملاً، فرأيت في المنام أنَّ سارية بيتي انكسرت، وإنِّي ولدت غلاماً أعور، فقال: ((خيرٌ يرجعُ زوجك إن شاء الله صالحاً، وتلدين غلاماً برًّا)) فذكرت ذلك ثلاثاً (1)، فجاءت ورسول الله صلعم غائبٌ فسألتُها، فأخبرتني بالمنام فقلت: ((لئن صدقت رؤياك ليموتنَّ زوجُك، وتلدين غلاماً فاجراً)) فقعدت تبكي، فجاء رسول الله صلعم فقال: ((مه يا عائشة، إذا عبّرتم للمسلم الرُّؤيا فاعبروها على خيرٍ، فإنَّ الرُّؤيا تكون على ما يعبّرها صاحبها)).
          وعند سعيد بن منصور من مرسل عطاء بن أبي رباح قال: جاءت امرأةٌ إلى رسول الله صلعم فقالت: إنِّي رأيت كأنَّ جائز بيتي انكسر وكان زوجها غائباً فقال: ((ردَّ الله عليك زوجك)) فرجع سالماً الحديث، ولكن فيه أنَّ أبا بكر أو عمر الَّذي عبَّر لها الرُّؤيا الأخيرة، وليس فيه الخبر الأخير المرفوع.
          فأشار البخاريُّ إلى تخصيصِ ذلك بما إذا كان العابر مصيباً في تعبيره، وأخذه من قوله صلعم لأبي بكرٍ ☺ في حديث الباب [خ¦7046]: ((أصبت بعضاً وأخطأت بعضاً))، فإنَّه يؤخذُ منه أنَّ الَّذي أخطأ فيه لو بيّنه له لكان الَّذي بيّنه له هو التَّعبير الصَّحيح، ولا عبرة بالتَّعبير الأوَّل.
          قال أبو عبيد وغيره: معنى قوله: ((الرُّؤيا لأوَّل عابرٍ)) إذا كان العابر الأوَّل عالماً، فعبر فأصاب وجه التَّعبير، وإلَّا فهي لمن أصابَ بعده، إذ ليس المدار إلَّا على إصابة الصَّواب في تعبير المنام ليتوصّل بذلك إلى مراد الله فيما ضربه من المثل، فإذا أصاب فلا ينبغي أن يسألَ غيره، وإن لم يصبْ فليسأل الثَّاني، وعليه أن يخبرَ بما عنده ويبين ما جهل الأوَّل.
          وقال الحافظ العَسقلانيّ: وهذا التَّأويل لا يساعده حديث أبي رزين ((أنَّ الرُّؤيا إذا عبّرت وقعت)) إلَّا أن يدّعي تخصيصَ عبّرت / بأن يكون عابرها عالماً مصيباً، ويعكِّر عليه قوله في الرُّؤيا المكروهة، ولا يحدِّث بها أحداً، فقيل في حكمة النَّهي أنَّه ربَّما فسَّرها تفسيراً مكروهاً على ظاهرها مع احتمالِ أن تكون محبوبةً في الباطن، فتقعُ على ما فسَّر.
          ويمكن الجواب بأنَّ ذلك يتعلَّق بالرَّائي، فله إذا قصَّها على أحدٍ ففسَّرها له على المكروهِ أن يبادرَ فيسألَ غيره ممَّن يصيبُ، فلا يتحتَّم وقوع الأوَّل بل يقعُ تأويل من أصاب، فإن قصَّر الرَّائي فلم يسأل الثَّاني وقعتْ على ما فسر الأوَّل.
          ومن أدب المعبّر ما أخرجه عبد الرَّزاق عن عمر ☺ أنَّه كتبَ إلى أبي موسى ☺: ((فإذا رأى أحدكُم رؤيا فقصَّها على أخيه، فليقل خيرٌ لنا وشرٌّ لأعدائنا))، ورجاله ثقاتٌ، ولكن سندهُ منقطعٌ.
          وأخرج الطَّبرانيّ والبيهقيّ في «الدلائل» من حديث ابن زِمْل _بكسر الزّاي وسكون الميم بعدها لام_ ولم يسمَّ في الرِّواية، وسمَّاه أبو عمر في «الاستيعاب»: عبد الله الجهنيّ قال: كان النَّبيّ صلعم إذا صلَّى الصُّبح قال: ((هل رأى أحدٌ منكم شيئاً؟)) قال ابن زِمْل: فقلت: أنا يا رسول الله، قال: ((خيراً تلقاه وشرًّا توقَّاه، وخيرٌ لنا وشرٌّ على أعدائنا، والحمد لله ربّ العالمين، اقصص رؤياك)) الحديث، وسنده ضعيف جدًّا.
          وذكر أئمَّة التَّعبير أنَّ من أدب الرَّائي أن يكون صادق اللَّهجة، وأن ينام على وضوءٍ على جنبه الأيمن، ويقرأ عند نومه: والشَّمس واللّيل والتِّين، وسورتي الإخلاص والمعوذتين.
          ويقول: اللهمَّ إنِّي أعوذ بك من سيّء الأحلامِ، وأستجيرُ بك من تلاعبِ الشَّيطان في اليقظة والمنام، اللهمَّ إنِّي أسألك رؤيا صالحةً صادقةً نافعةً حافظة غير منسيّةٍ، اللهمَّ أرني في منامي ما أحبّ.
          ومن أدبه أن لا يقصَّها على امرأةٍ، ولا عدوٍّ، ولا جاهلٍ، ومن أدب العابر أن لا يعبرها عند طلوع الشَّمس ولا عند غروبها، ولا عند الزَّوال ولا في اللَّيل.


[1] في هامش الأصل: في نسخة: فرأت ذلك ثانياً فجاءت.