نجاح القاري لصحيح البخاري

باب رؤيا الصالحين

          ░2▒ (باب: رُؤْيَا الصَّالِحِينَ) أي: بيان عامة رؤيا الصَّالحين، وهي الَّتي يرجى صدقها؛ لأنَّه قد يجوز على الصَّالحين الأضغاث في رؤياهم لكن الأغلب عليهم الصِّدق والخير وقلَّة تحكُّم الشَّيطان عليهم في النّوم أيضاً، لما جعل الله عليهم من الصَّلاح، وبقي سائر النَّاس غير الصَّالحين تحت تحكُّم الشَّيطان عليهم في النَّوم مثل تحكُّمه عليهم في اليقظة في أغلب أمورهم، وإن كان قد يجوز منهم الصِّدق في اليقظة فكذلك يكون في رؤياهم صدق أيضاً، وفي نسخة: <الصّالحة> وعليها يحتمل أن يكون الرُّؤيا بالتَّعريف.
          (وَقَوْلِهِ) بالجرِّ، وفي رواية أبي ذرٍّ: <وقول الله> (تَعَالَى: {لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا} [الفتح:27]) أي: صدقه في رؤياه ولم يكذبه، تعالى الله عن الكذب وعن كلِّ قبيحٍ علوًّا كبيراً. وقال الطِّيبيّ: هذا صدق بالفعل وهو التَّحقيق؛ أي: حقّق رؤياه، أو حذف الجار وأوصل الفعل كقوله: {صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ} [الأحزاب:23].
          ({بِالْحَقِّ} [الفتح:27]) أي: ملتبساً به، فإنَّ ما رآه كائنٌ لا محالة في وقته المقدَّر له وهو العام القابل، ويجوز أن يكون بالحقِّ صفة مصدر محذوفٍ؛ أي: صدقاً ملتبساً بالحقِّ، وهو القصدُ إلى التَّمييز بين المؤمن المخلص وبين من في قلبهِ مرض، وأن يكون قسماً إمَّا بالحقِّ الَّذي هو نقيضُ الباطل أو بالحقِّ الَّذي هو من أسمائه، وجوابه: ({لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ}) وعلى الأوّل هو جوابُ قسم مقدر.
          ({إِنْ شَاءَ اللَّهُ} [الفتح:27]) اختلف في معناه فقيل: هي إشارةٌ إلى أنَّه لا يقعُ شيءٌ إلَّا بمشيئة الله تعالى، وقيل: هي حكايةٌ لما قيل للنَّبيّ صلعم في منامه، وقيل: هي على سبيل التَّعليم لمن أراد أن يفعلَ شيئاً مستقبلاً كقوله تعالى: / {وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍإِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَداً. إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [الكهف:23-24] وقيل: على سبيل الاستثناء من عموم المخاطبين؛ لأنَّ منهم من مات قبل ذلك أو قتل.
          ({آمِنِينَ} [الفتح:27]) حال والشَّرط معترض ({مُحَلِّقِينَ}) حال من الضَّمير في {آمنين} ({رُؤوسَكُمْ}) أي: جميع شعرها ({وَمُقَصِّرِينَ}) بقصِّ شعورها ({لاَ تَخَافُونَ}) حال مؤكدة ({فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا}) من الحكمة في تأخير فتح مكَّة إلى العامِ المقبل ({فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ}) من دون فتح مكَّة ({فَتْحاً قَرِيباً} [الفتح:27]) وهو فتحُ خيبر لتستريح إليه قلوب المؤمنين إلى أنْ يتيسر الفتح الموعود وتتحققت الرُّؤيا في العام المقبل.
          وقد أخرج الفريابيّ وعبدُ بن حميد والطَّبريّ من طريق ابنِ أبي نجيح عن مجاهدٍ في تفسير هذه الآية قال: أري النَّبيّ صلعم وهو بالحديبية أنَّه دخل مكَّة هو وأصحابه محلِّقين، فلمَّا نحر الهدي بالحديبية قال أصحابه: أين رؤياك؟ فنزلت، قال: ثمَّ اعتمر بعد ذلك فكان تصديق رؤياه في السَّنة القابلة وكانت الحديبية سنة ستٍّ.
          وقد أخرج ابن مَرْدويه في «التفسير» بسندٍ ضعيفٍ عن ابن عبَّاس ☻ في هذه الآية قال: تأويل رؤيا رسول الله صلعم عمرة القضاء، وقد سقط في رواية أبي ذرٍّ: <محلّقين> إلى آخرها، وقال بعد قوله: {آَمِنِينَ} إلى قوله: {فَتْحاً قَرِيباً} [الفتح:27] وسيقت الآية بتمامها في رواية كريمة.