نجاح القاري لصحيح البخاري

باب رؤيا يوسف

          ░6▒ (باب: رُؤْيَا يُوسُفَ) كذا وقع في رواية الأكثرين، ووقع عند النَّسفي: <يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم خليل الله الرَّحمن صلوات الله وسلامه عليهم> (وَقَوْلِهِ تَعَالَى) بالجرِّ عطفاً على ما قبله ({إِذْ قَالَ يُوسُفُ} [يوسف:4]) بدل اشتمال من أحسن القصص إن جعل مفعولاً، أو منصوب بإضمار اذكر؛ أي: اذكر حين قال يوسف، ويوسف عبريّ ولو كان عربيًّا لانصرف لخلوه عن سببٍ آخر سوى التَّعريف ({لأَبِيهِ}) يعقوب ({يَا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ}) من الرُّؤيا لا من الرُّؤية؛ لأنَّ ما ذكره معلومٌ أنَّه منام ({أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً}) نصب على التَّمييز.
          روي عن جرير عن جابرٍ ☺ قال: أتى النَّبيَّ صلعم رجلٌ من اليهود يقال له: بسالة (1) اليهوديّ، فقال له: يا محمَّد أخبرني عن الكواكب الَّتي رآها يوسف أنَّها ساجدة له ما أسماؤها؟ قال: فسكت النَّبيّ صلعم فلم يجبه بشيءٍ ونزل عليه جبريل ◙ فأخبره بأسمائها فقال: فبعث رسول الله صلعم فقال: نعم جريان، والطَّارق، والذيال، وذو الكتفين، وذو القابس، ووثاب، وعمودان، / والفليق، والمصيح، والضروح، وذو الفرغ، فقال اليهوديُّ: أي والله إنَّها لأسماؤها، ورواه البيهقيُّ في «الدَّلائل»، وأبو يعلى الموصلّي والبزَّار في «مسنديهما».
          ({وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ}) هما أبواه أو أبوه وخالته ليا، قال السّدِّيّ: لأنَّ أمَّه راحيل كانت قد ماتت والكواكب إخوته، قيل: الواو بمعنى مع؛ أي: رأيت الكواكب مع الشَّمس والقمر، وأُجريت مُجرى العقلاء في قوله: ({رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ} [يوسف:4]) لأنَّه لمَّا وصفها بما هو خاصٌّ بالعقلاء وهو السُّجود أجرى عليها حكمهم كأنَّها من العقلاء، وكرَّرت الرُّؤية؛ لأنَّ الأولى تتعلَّق بالذَّات، والثَّانية بالحال، أو الثَّانية كلامٌ مستأنفٌ على تقدير سؤال وقع جواباً له، كأن أباه قال له: كيف رأيتها؟ فقال: رأيتهم لي ساجدين؛ أي: متواضعين، ورأى يوسف ذلك، وهو ابن اثنتي عشرة سنة يومئذٍ.
          ({قَالَ يَا بُنَيَّ} [يوسف:5]) صغره للشَّفقة أو لصغر سنِّه ({لاَ تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ})(2) : وهم يهوذا، وروبيل، وريالون، وشمعون، ولاوى، ويشجر، ودينه، ودان، ونفتالي، وجاد، وآشر، وهم بنو العَلّات، وأمَّا يوسف وبنيامين فمن بني الأعيان ولدتهما راحيل ({فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْداً}) أي: يحتالوا في هلاكك، وهو جواب النَّهي؛ أي: إن قصصتها عليهم كادوك، فَهِمَ يعقوب ◙ من رؤياه أنَّ الله يصطفيهِ لرسالته وينعم عليه بشرف الدَّارين فخاف عليه حسد إخوتهِ وبغيهم ({إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلإِنْسَانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ} [يوسف:5]) ظاهر العداوة، فيحملهم على الحسد والكيد.
          ({وَكَذَلِكَ} [يوسف:6]) أي: وكما اجتباك بمثل هذه الرُّؤيا الدَّالَّة على شرفك وعزِّك ({يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ}) أي: يصطفيك للنُّبوة والملك ({وَيُعَلِّمُكَ}) كلام مبتدأ غير داخلٍ في حكم التَّشبيه، كأنَّه قيل: وهو يعلِّمك ({مِنْ تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ}) من تعبير الرُّؤيا ({وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ}) يعني: يوصل لك نعمة الدُّنيا بنعمة الآخرة بإرسالك والإيحاء إليك ({وَعَلَى آلِ يَعْقُوبَ}) أي: أهله وهم نسله وغيرهم ({كَمَا أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ}) أراد بهما الجد وأبا الجدِّ ({إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ}) عطف بيان لأبويك ({إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ}) يعلم من يستحق الاجتباء ({حَكِيمٌ} [يوسف:6]) يضع الأشياء في مواضعها، وسيقتِ الآيات بتمامها في رواية كريمة، وفي رواية أبي ذرٍّ والنَّسفي / سقط من قوله: <{إنَّ الشَّيطان}...> إلى آخره وسقط في رواية من قوله: <{قال يا بني}...> إلى آخره، وقال بعد: {ساجدين}: <إلى قوله: {عليمٌ حكيمٌ}>.
          (وَقَوْلِهِ تَعَالَى) بالجرّ أيضاً عطفاً على ما قبله ({يَا أَبَتِ هَذَا} [يوسف:100]) أي: سجودهم ({تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ} [يوسف:100]) أي: الَّتي كان قصَّها على أبيه يعني قوله: {إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً} [يوسف:4] ولمَّا وصل أبواه وأخوته إلى مصر ودخلوا عليه وهو في مرتبة الملك سجدوا له، وكان ذلك مباحاً شائعاً في شريعتهم إذا سلَّموا على الكبير سجدوا له، ولم يزل هذا جائزاً من لدن آدم ◙، إلى شريعة عيسى ◙ فحرم هذا في هذه الملَّة المحمّديَّة.
          وقيل: التَّأويل وقع أيضاً في السُّجود، ولم يقع منهم السُّجود حقيقةً وإنَّما هو كناية عن الخضوع، والأوَّل هو المعتمد، وقد أخرج ابن جرير بسندٍ صحيحٍ عن قتادة في قوله: {وَخَرُّوا لَهُ سُجَّداً} [يوسف:100] قال: كانت تحيَّة من قبلكم السُّجود فأعطى الله هذه الأمَّة السَّلام تحيّة أهل الجنَّة، وفي لفظ وكانت تحيَّة النَّاس يومئذٍ أن يسجدَ بعضهم لبعضٍ.
          قال الطَّبريّ: أرادوا أنَّ ذلك كان منهم لا على وجه العبادة بل الإكرام، واختلف في المدَّة الَّتي كانت بين الرُّؤيا وتعبيرها، فأخرج الطَّبريّ والحاكم والبيهقيّ في «الشُّعب» بسندٍ صحيحٍ عن سلمان الفارسيّ ☺ قال: كان بين رؤيا يوسف وعبارتها أربعون عاماً.
          وذكر البيهقيُّ له شاهداً عن عبد الله بن شدَّاد وزاد: ((وإليها ينتهي أمد الرُّؤيا))، وأخرج الطَّبريّ من طريق الحسن البصريّ قال: كان مدَّة المفارقة بين يعقوب ويوسف ♂ ثمانين سنةً. وفي لفظ: ثلاثاً وثمانين سنةً، ونقل الثَّعلبي عن ابن مسعودٍ ☺ تسعين سنةً، وعن الكلبيّ اثنين وعشرين قال: وقيل: سبعاً وسبعين، ونقل ابن إسحاق قولاً أنَّها كانت ثمانية عشر عاماً، والأول أقوى، والعلم عند الله تعالى.
          ({قَدْ جَعَلَهَا}) أي: الرُّؤيا ({رَبِّي حَقّاً}) أي: صادقة ({وَقَدْ أَحْسَنَ بِي}) يقال: أحسن بي ويقال: أحسن إليَّ ({إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ} [يوسف:100]) ولم يقل من الجُبّ لقوله: {لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ} [يوسف:92] / ({وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ} [يوسف:100]) أي: من البادية؛ لأنهم كانوا أصحاب مواشٍ ينتقلون في المياه والمناجع ({مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي} [يوسف:100]) أي: أفسد بيننا وأغوى.
          ({إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ} [يوسف:100]) أي: ذو لطفٍ وصنع، عالمٌ بدقائق الأمور ({إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ}) بمصالح عباده ({الْحَكِيمُ} [يوسف:100]) في أقواله وأفعاله وقضائه وقدره وما يختاره ويدبِّره ({رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ} [يوسف:101]) أي: ملك مصر ({وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ}) أي: تعبير الرُّؤيا ({فَاطِرَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ}) أي: يا فاطر السَّموات والأرض ({أَنْتَ وَلِيِّي}) أي: متولِّي أموري.
          ({فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ تَوَفَّنِي}) أي: اقبضني إليك ({مُسْلِماً} [يوسف:101]) طلب ذلك لقول يعقوب ◙ لولده: {وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [البقرة:132] ({وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ} [يوسف:101]) من آبائي، أو على العموم، وإنَّما دعا به ليقتدي به قومه من بعده، ثمَّ توفَّاه الله بمصر ودفن في النِّيل في صندوق من رخامٍ، ومات وعمره مئة وعشرون سنةً، كذا ذكره القسطلانيّ.
          (قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ) هو: البخاريّ نفسه، وسقط هذا وما بعده إلى آخر الباب في رواية النَّسفيّ (فَاطِرٌ) إشارةٌ إلى المذكور في قوله: {فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ} [يوسف:101] (وَالْبَدِيعُ وَالْمُبْتَدِعُ) بفوقيّة بعد الموحّدة، وفي رواية أبي ذرٍّ: <والمبدع> بإسقاط الفوقيّة (وَالْبَارِئُ) بالرّاء والهمزة، وفي رواية أبي ذرٍّ عن الحمويي والمستملي: <والبادئ> بالدَّال المهملة بدل الرَّاء، وزعم بعض الشُّرَّاح أنَّ الصَّواب بالرَّاء، وأنَّ رواية الدَّال وهمٌ.
          وقال الحافظ العَسقلانيّ: وليس كما قال، وقد ورد في بعض طرق الأسماء الحسنى كما تقدَّم في ((الدَّعوات)) [خ¦6990] وفي الأسماء الحسنى أيضاً: ((المبدئ))، وقد وقع في العنكبوت ما يشهد لكلٍّ منهما في قوله تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ} [العنكبوت:19]. ثمَّ قال: {فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ} [العنكبوت:20] فالأول من الرّباعيّ، واسم الفاعل منه مبدئ، والثَّاني من الثُّلاثي، واسم الفاعل منه بادئ، وهما لغتان مشهورتان، (وَالْخَالِقُ) السَّبعة معناهما (وَاحِدٌ).
          قيل: دعوى البخاري الوحدة لمعنى هذه الألفاظ ممنوعة عند المحقِّقين، وردَّ عليه الحافظ العَسقلاني أنَّ البخاريّ لم يرد بذلك أنَّ حقائق معانيها / متَّحدة، وإنَّما أراد أنَّها ترجع إلى معنى واحدٍ، وهو إيجادُ الشَّيء بعد أن لم يكن، وقد تقدَّم قول الفرّاء إنَّ فطر وخلق وفلق بمعنى واحد قبل ((باب رؤيا الصَّالحين)) [خ¦91/2-10368].
          وتعقَّبه العينيُّ: بأنَّ قوله واحد ينافي هذا التَّأويل، ومعنى الفاطر من الفطر، وهو الابتداءُ والاختراع، قاله الجوهريُّ.
          ثمَّ قال: قال ابن عبَّاس ☻ : كنت لا أدري ما فاطر السَّموات والأرض حتَّى أتاني أعرابيَّان يختصمان في بئرٍ، فقال أحدهما: أنا فطرتها؛ أي: أنا ابتدأتها، وقوله: والبديع معناه: الخالق المخترع لا عن مثالٍ سابقٍ، فعيل بمعنى مفعل، يقال: أبدع فهو مبدعٌ، وكذا في بعض النُّسخ كما مرَّ.
          وقوله: ((والبارئ والخالق)) قال الطِّيبيّ: قيل: الخالقُ البارئ المصوّر ألفاظ مترادفة وهو وهمٌ؛ لأنَّ الخالق من الخلق وأصله التَّقدير المستقيم، والبارئ مأخوذٌ من البرء، وأصله خلوص الشَّيء عن غيره إمَّا على سبيل التَّقصي منه، وعليه قولهم: بَرِئ من مرضه، وإمَّا على سبيل الإنشاء منه، ومنه برأ الله النَّسمة وهو البارئ لها، وقيل: البارئ هو الَّذي خلق الخلق برئاً من التَّفاوت والتَّنافر.
          ثمَّ إنَّ قوله: (مِنَ الْبَدْءِ) بفتح الموحَدة وسكون المهملة بعدها همزة، كذا في الفَرْع كأصله، وكذا (بَادِئَةٍ) بالهمز أيضاً، فإن كان محفوظاً ترجَّحت رواية الدَّال في قوله: ((والبادئ))، وفي بعض النُّسخ: بالواو بدل الهمز وبغير همزٍ في بادية، وقيل: وهو أوجه لأنَّه يريد تفسير قوله: {وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ} [يوسف:100] أي: وجاء بكم من البادية وعلى الأوَّل يكون مقصود البخاريّ أنَّ فاطر معناه البادئ من البدء؛ أي: الابتداء.


[1] في هامش الأصل: سبالة.
[2] في هامش الأصل: يهوذا، وروبيل، وشمعون، ولاوى، وريالون، ويشجر، ودينة من بنت خالته ليا تزوجها يعقوب أولاً فلما توفيت تزوج أختها راحيل فولدت له بنيامين ويوسف، وقيل جمع بينهما ولم يكن الجمع محرماً حينئذ وأربعة آخرون دان، ونفتالي وجاد، وآشر من سريتين زلفة وبلهة. كذا في ((تفسير القاضي)).