نجاح القاري لصحيح البخاري

باب رؤيا إبراهيم عليه السلام

          ░7▒ (باب: رُؤْيَا إِبْرَاهِيمَ) الخليل (◙) وسقط في رواية غير أبي ذر لفظ <باب> (وَقَوْلِهِ تَعَالَى) مجرور عطفاً على ما قبله، وسقطت الواو في الفرع، وثبتت في أصله، وسيقت الآيات كلها في رواية كريمة، وسقط من قوله: <{قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى} [الصافات:102]...> إلى آخره وقال: <إلى قوله: {نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} [الصافات:110]> في رواية النسفيّ.
          ({فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ} [الصافات:102]) أي: بلغ أن يسعى مع أبيه في أشغاله وحوائجه، و((معه)) لا يتعلق بـ{بلغ} لاقتضائه بلوغهما معاً / حدَّ السَّعي ولا بالسَّعي؛ لأنَّ صلة المصدر لا يتقدم عليه، فبقي أن يكون بياناً كأنَّه قال: فَلَمَّا بَلَغَ السَّعْيَ أي: الحدَّ الذي يقدر فيه على السَّعي، قيل: مع من؟ قال: مع أبيه، وكان إذ ذاك ابن ثلاث عشرة سنة، والمعنى في اختصاص الأب أنَّه أرفقُ النَّاس به، وأعطفهم عليه، وغيره ربما عنَّف به في الاستسعاء فلا يتحمَّله؛ لأنَّه لم يستحكم قوَّته.
          ({قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى} [الصافات:102]) أي: إني رأيت ({فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ}) ورؤيا الأنبياء في المنام وحيٌ، رواه ابنُ أبي حاتم عن ابن عبَّاس ☻ مرفوعاً؛ أي: كالوحي في اليقظة، فلهذا قال: {إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ} ({فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى}) أي: من الرأي على وجه المشاورة لا من رؤية العين، وإنما شاوره ليأنس بالذَّبح وينقاد للأمر به ({قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ}) به ({سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ} [الصافات:102]) على الذَّبح أو على قضاء الله ({فَلَمَّا أَسْلَمَا} [الصافات:103]) أي: خضعا وانقادا لأمر الله تعالى، أو سلَّما الذَّبيحُ نفسَه وإبراهيمُ ابنَه.
          ({وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ} [الصافات:103]) صرعه عليه ليذبحه من قفاهُ ولا يشاهد وجهه عند ذبحهِ ليكون أهونَ عليه، ووضع السِّكين على قفاه، فانقلبت السّكين ولم تعمل شيئاً بمانع من القدرة الإلهيّة ({وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ. قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا}) أي: حقّقت ما أمرناك به في المنام من تسليم الولد للذَّبح، وجواب لمّا محذوف تقديرُه: كان ما كان مما ينطقُ به الحال، ولا يحيطُ به الوصف من استبشارهما وحمدهما لله، وشكرهما على ما أنعمَ به عليهما من دفعِ البلاء العظيم بعد حلولهِ ({إِنَّا كَذَلِكَ}) أي: كما جزيناكَ ({نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} [الصافات:104-105]) لأنفسهم بامتثال الأمر بإفراج الشِّدة عنهم، وقصّته أنَّه كان إبراهيم ◙ نذر إن رزقه الله تعالى مِن سارة ولداً أن يذبحَه قرباناً، فرأى في المنام أن أوف بنذرك، أخرجه ابن أبي حاتم عن السُّدّيّ قال: فقال إبراهيم لإسحاق ╨: انطلق بنا نقرّب قرباناً وأخذ حبلاً وسكّيناً، ثمَّ انطلق به حتَّى إذا كان بين الجبال قال: يا أبت أين قربانُك؟ قال: أنت يا بني / {إني أرى في المنام أني أذبحك} [الصافات:102] الآيات، فقال: اشدد رباطي حتَّى لا اضطرب، واكفف ثيابك حتَّى لا ينتضح [عليك] من دمي فتراه سارة فتحزن، وأسرع في السِّكين حلقي ليكون أهون عليّ، ففعل إبراهيم ذلك وهو يبكي وأمرّ السِّكّين على حلقه فلم تجر، وضرب الله على حلقه صفحة من نحاس فكبّه على جبينه وخرّ في قفاه، فذاك قوله: {فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ. وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ. قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا} [الصافات:103-105] فالتفت فإذا هو بكبشٍ فأخذه وحلّ عن ابنه، هكذا ذكره السُّدّيّ.
          ولعلَّه أخذه عن بعض أهل الكتاب، فقد أخرج ابنُ أبي حاتم أيضاً بسند صحيح عن الزُّهري عن القاسم قال: اجتمع أبو هريرة وكعب فحدث أبو هريرة عن النَّبيّ صلعم : ((إن لكلِّ نبيٍّ دعوة مستجابة))، فقال كعب: أفلا أخبرك عن إبراهيم لما رأى أنَّه يذبحُ ابنه إسحاق قال الشّيطان: إن لم أفتن هؤلاء عند هذه لم أفتنهم أبداً، فذهب إلى سارة، فقال: أين ذهب إبراهيم بابنك؟ قالت: في حاجته، قال: كلا إنَّه ذهبَ به ليذبحه يزعم أن ربَّه أمره بذلك، فقالت: أخشى أن لا يطيعَ ربه، فجاء إلى إسحاق فأجابه بنحوه، فواجه إبراهيم فلم يلتفت إليه، فأيس أن يطيعوه.
          وساق نحوه من طريق سعيد عن قتادة وزاد: أنَّه سدَّ على إبراهيم الطَّريق إلى المنحر، فأمره جبريل أن يرميَه بسبع حصياتٍ عند كلِّ جمرة، وكأنَّ قتادة أخذ أوّله عن بعض أهل الكتاب وآخره ممَّا جاء عن ابن عبَّاس ☻ ، وهو عند أحمد من طريق أبي الطفيل عنه قال: إن إبراهيم ◙ لما رأى المناسك عرض له إبليس عند المسعى فسبقه إبراهيمُ فذهب به جبريلُ إلى العقبة فعرضَ له إبليس فرماه بسبع حصيات حتَّى ذهب، وكان على إسماعيل قميص أبيضُ، ولما تلَّه للجبين قال: يا أبت إنه ليس لي قميص تكفنني فيه غيرُه فاخلعه، فنودي من خلفه أن يا إبراهيمُ قد صدّقت الرّؤيا، فالتفت فإذا هو بكبش أبيضَ أقرنَ أعينَ فذبحه.
          وأخرج ابن إسحاق في «المبتدأ» / عن ابن عبَّاس ☻ نحوه وزاد: ((فوالّذي نفسي بيده لقد كان أوَّل الإسلام وإن رأس الكبش لمعلق بقرنيهِ في ميزاب الكعبة)). وأخرجه أحمد أيضاً عن عثمان بن أبي طلحة قال: أمرني رسول الله صلعم فواريت قرني الكبش حين دخل البيت، وهذه الآثارُ من أقوى الحجج لمن قال: إنَّ الذَّبيح إسماعيل ◙.
          وقد نقل ابنُ أبي حاتم وغيره عن العبَّاس وابن مسعود، وعن عليّ وابن عبَّاس في إحدى الرّوايتين عنهما، وعن الأحنفِ عن أبي ميسرة وزيد بن أسلم ومسروق وسعيد بن جُبير في إحدى الرّوايتين عنه وعطاء والشَّعبيّ وكعب الأحبار أنَّ الذَّبيح إسحاق.
          وعن ابن عبَّاس في أشهر الرِّوايتين عنه، وعن عليّ في إحدى الرّوايتين عنه، وعن أبي هريرة ومعاوية وابن عمر وأبي الطُّفيل وسعيد بن المسيب وسعيد بن جُبير والشَّعبي في إحدى الرّوايتين عنهما، ومجاهد والحسن ومحمّد بن كعب وأبي جعفر الباقر وأبي صالح والرَّبيع بن أنس وأبي عَمرو بن العلاء وعمر بن عبد العزيز وابن إسحاق: أنَّ الذَّبيح إسماعيل. ويؤيّده حديث: ((أنا ابن الذَّبيحين))، أيضاً من حديث معاوية، ونقله عبد الله بن أحمد عن أبيه وابن أبي حاتم عن أبيه، وأطنب ابن القيّم في «الهدي» في الاستدلال لتقويته.
          وفي خطّ الشيخ تقيّ الدّين السُّبكيّ أنَّه استنبط من القرآن دليلاً وهو قوله تعالى في الصافات {وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ} [الصافات:99] إلى قوله: {إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ} [الصافات:102] وقوله في هود: {وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ} إلى قوله: {وَهَذَا بَعْلِي شَيْخاً} [هود:71-72]. قال: ووجه الأخذ منهما أنّ سياقهما يدلُّ على أنهما قصّتان مختلفتان في وقتين، الأولى عن طلب من إبراهيم وهو لمّا هاجر من بلاد قومه في ابتداء أمره فسألَ من ربّه الولد: {فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ. فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ} [الصافات:101-102]. / والقصة الثانية بعد ذلك بدهر طويل لمّا شاخ، واستُبعد مِن مثلِه أن يجيءَ له الولد وجاءته الملائكة عندما أُمروا بإهلاك قوم لوطٍ فبشَّروه بإسحاق، فتعيَّن أن يكون الأوَّل إسماعيل، ويؤيِّده أنَّ في التَّوراة أنَّ إسماعيلَ بكرُه، وأنَّه ولد قبل إسحاق.
          قال الحافظ العَسقلاني: وهو استدلالٌ جيِّدٌ، وقد كنت أستحسنُه وأحتجُّ به إلى أن مرَّ بي قوله في سورة إبراهيم: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ} [إبراهيم:39] فإنَّه يعكِّر على قوله: إنَّه رزق إسماعيل في ابتداء أمره وقوَّته، ولأنَّ هاجر والدة إسماعيل صارت لسارة من قِبَل الجبّار الَّذي وهبها لها، وإنَّها وهبتها لإبراهيم لمّا يئستْ من الولد، فولدت هاجرُ إسماعيلَ فغارت سارة فيها كما تقدَّمت الإشارة إليه في ترجمة إبراهيم من أحاديث الأنبياء، وولدت بعد ذلك إسحاق واستمرَّت غيرة سارة إلى أن كان من إخراجها وولدها إلى مكَّة ما كان.
          وقد ذكر ذلك ابن إسحاق في «المبتدأ» مفصّلاً، وأخرجه الطَّبريّ في «تاريخه» من طريقه، وأخرج الطَّبريّ من طريق السُّدِّيّ قال: انطلق إبراهيم ◙ من بلاد قومه قِبَل الشَّام فلقي سارة وهي بنتُ ملك حرَّان فآمنت به فتزوَّجها، فلمَّا قدم مصر وهبها الجبّار هاجر، ووهبتها له سارة، وكانت سارةُ منعت الولد، وكان إبراهيم قد دعا الله تعالى أن يهبَ له من الصَّالحين فأُخِّرت الدَّعوة حتَّى كبر، فلمَّا علمت سارة أن إبراهيم وقع على هاجر فحزنت على ما فاتها من الولد.
          ثمَّ ذكر قصة مجيء الملائكة بسبب إهلاك قوم لوطٍ وتبشيرهم إبراهيم بإسحاق فلذلك قال إبراهيم: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ} [إبراهيم:39] ويقال: لم يكن بينهما إلَّا ثلاثُ سنينٍ، وقيل: كان بينهما أربعَ عشرةَ سنةً، وما تقدَّم من كون قصَّة الذَّبح كانت بمكَّة حجَّة قويةٌ في أنَّ الذَّبيح إسماعيل؛ لأنَّ سارة وإسحاق لم يكونا بمكَّة، والله تعالى أعلم.
          (قَالَ مُجَاهِدٌ: أَسْلَمَا) هو: ابنُ جبرٍ في تفسير قوله تعالى: {فَلَمَّا أَسْلَمَا} [الصافات:103] أي: (سَلَّمَا مَا أُمِرَا بِهِ) سلم الابن نفسه للذَّبح والأب ابنه (وَتَلَّهُ) أي: (وَضَعَ وَجْهَهُ بِالأَرْضِ) لأنَّه قال له: / يا أبت لا تذبحني وأنت تنظر في وجهي لئلَّا ترحمني، فوضع جبهته في الأرض.
          وصل الفريابيُّ في «تفسيره» تعليق مجاهدٍ عن ورقاء عن ابن نجيح عن مجاهد فذكره، وأخرج ابن أبي حاتم من طريق السّدِّيِ قال: {فَلَمَّا أَسْلَمَا} [الصافات:103] أي: سلَّما لله الأمر، ومن طريق أبي صالحٍ قال: اتَّفقا على أمرٍ واحدٍ، ومن طريق قتادة سلَّم إبراهيم لأمر الله، وسلَّم إسحاق لأمر إبراهيم. وفي لفظ: أمَّا هذا فأسلم نفسه لله، وأمَّا هذا فأسلم ابنه لله، ومن طريق أبي عمران الجونيّ: تلَّه للجبين كبَّه لوجهه.
          هذه التَّرجمة والَّتي قبلها ليس في واحدٍ منهما حديثٌ مسندٌ، بل اكتفى فيهما بما أورده من الآيات القرآنيَّة، ولعله لم يتَّفق له حديث فيهما على شرطه.