نجاح القاري لصحيح البخاري

حديث: أول ما بدئ به رسول الله من الوحي الرؤيا الصادقة

          6982- (حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ) هو: يحيى بنُ عبد الله بن بُكير المخزوميّ المصريّ، نُسب إلى جدِّه، قال: (حَدَّثَنَا اللَّيْثُ) هو: ابنُ سعدٍ الإمام (عَنْ عُقَيْلٍ) بضم العين وفتح القاف، هو: ابنُ خالد (عَنِ ابْنِ شِهَابٍ) الزُّهريّ (ح) تحويلٌ من سندٍ إلى آخر، قال البخاريّ: (وَحَدَّثَنِي) بالإفراد (عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ) المسندي، قال: (حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ) أي: ابن همام، قال: (حَدَّثَنا) وفي رواية أبي ذرٍّ: <أخبرنا> (مَعْمَرٌ) هو: ابنُ راشدٍ، ولفظ الحديث له لا لعقيل.
          (قَالَ الزُّهْرِيُّ) ابن شهاب (فَأَخْبَرَنِي) بالإفراد (عُرْوَةُ) أي: ابن الزُّبير بن العوَّام ذكر حرف الفاء إشعاراً بأنَّه روى له حديثاً، ثمَّ عقّبه بهذا الحديث فهو عطف على مقدّر، ووقع عند مسلم عن محمد بن رافع عن عبد الرَّزَّاق مثله لكن فيه: ((وأخبرني)) بالواو لا بالفاء، وقد بيَّنه البيهقيّ في «دلائله» من وجهٍ آخر عن الزُّهريّ عن محمّد بن النُّعمان بن بشير مرسلاً، فذكر قصة بدء الوحي مختصرةً، ونزول: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ} إلى قوله: {خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ} [العلق:1-2] قال محمّد بن النُّعمان: فرجع رسول الله صلعم بذلك.
          قال الزُّهري: فسمعت عروة بن الزُّبير يقول: قالت عائشة ♦، فذكر الحديث مطوَّلاً.
          (عَنْ عَائِشَةَ ♦ أَنَّهَا قَالَتْ: أَوَّلُ مَا بُدِئَ) بضمّ الموحّدة وكسر المهملة بعدها همزة (بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صلعم مِنَ الْوَحْيِ الرُّؤْيَا الصَّادِقَةُ) أي: التي ليس فيها ضغثٌ، أو التي لا تحتاجُ إلى تعبير، وفي ((باب كيف بدء الوحي)) [خ¦3] ((الصَّالحة))، بدل: ((الصّادقة))، وهما بمعنى واحد بالنِّسبة إلى أمور الآخرة في حقِّ الأنبياء، وأمَّا بالنِّسبة إلى أمور الدُّنيا فالصَّالحة في الأصل أخصُّ، فرؤيا النَّبيّ صلعم كلّها / صادقة، وقد تكون صالحةً وهي الأكثر، وغير صالحةٍ بالنسبة للدُّنيا، كما وقع في الرّؤيا يوم أحد.
          وأمَّا رؤيا غير الأنبياء ‰ فقد قيل بينهما عمومٌ وخصوصٌ إن فسَّر الصَّادقة بأنَّها التي لا تحتاج إلى تعبيرٍ، وأمَّا إن فسرت بأنَّها غير الأضغاث فالصَّالحة أخصُّ مطلقاً. وقال الإمام نصر بن يعقوب الدِّينوري في «التعبير القادري»: الرُّؤيا الصَّادقة ما يقعُ بعينه، أو ما يعبّر في المنام، أو يخبر به من لا يكذب، والصَّالحة ما يَسرّ. وقال الكرمانيّ: الصَّالحة ما صلح صورتها أو ما صلح تعبيرها، والصَّادقة المطابقة للواقع.
          (فِي النَّوْمِ) ذكره بعد الرُّؤيا المخصوصة لزيادة الإيضاح، أو لرفع وهم من يتوهَّم أنَّ الرُّؤيا تطلق على رؤية العين فهي صفةٌ موضّحةٌ (فَكَانَ) صلعم (لاَ يَرَى رُؤْيَا إِلاَّ جَاءَتْ) وفي رواية أبي ذرٍّ عن الحموي والمستملي: <إلا جاءته> (مِثْلَ فَلَقِ الصُّبْحِ) الفَلق _بفتح الفاء_: ضوء الصُّبح وشقُّه من الظُّلمة وافتراقها منه.
          قال ابنُ أبي جمرة: إنَّما شبَّهها بفلق الصُّبح دون غيره؛ لأنَّ شمس النُّبوَّة كانت الرُّؤيا مبادئ أنوارها، فما زال ذلك النُّور يتَّسع حتَّى أشرقت الشَّمس، فمن كان باطنه نورياً كان في التَّصديق بكرياً كأبي بكر ☺، ومن كان باطنه مظلماً كان في التَّكذيب خفاشاً كأبي جهل، وبقيَّة النَّاس بين المنزلتين كلٌّ منهم بقدر ما أعطي من النُّور.
          وقال البيضاويُّ: شبَّه ما جاءه في اليقظة ووجدَه في الخارج طبقاً لما رآه في المنام بالصُّبح في إنارته ووضوحهِ، والفلق الصُّبح، لكن لمَّا كان مستعملاً في هذا المعنى وفي غيره، أُضيف إليه للتَّخصيص والبيان، إضافة العامِّ إلى الخاص.
          وقال الطِّيبيّ في «شرح المشكاة»: للفلق شأنٌ عظيمٌ، ولذا جاء وصفاً لله تعالى في قوله: {فَالِقُ الْإِصْبَاحِ} [الأنعام:96] وأمر بالاستعاذة بربِّ الفلق؛ لأنَّه ينبىءُ عن انشقاق ظلمة عالم الشَّهادة وطلوعِ تباشير الصُّبح بظهور سلطان الشَّمس وإشراقها الآفاق؛ كما أنَّ الرُّؤيا الصَّالحة مبشِّرات تنبئ عن وقود أنوارِ عالم الغيب، وإنارة / مطالع الهدايات بسبب الرُّؤيا التي هي جزءٌ من أجزاء النُّبوَّة.
          (فَكَانَ) صلعم (يَأْتِي حِرَاءً) بكسر الحاء المهملة وبالمدّ، وهو الأفصحّ، وحكي بتثليث أوّله مع المدّ والقصر، والصّرف وعدمه، فيجتمع فيه عدَّةُ لغاتٍ مع قلَّة أحرفه ونظيره قباء. وجزم الخطَّابيّ بأنَّ فتح أوّله لحنٌ، وكذا ضمّه، وكذا قصره.
          (فَيَتَحَنَّثُ فِيهِ، وَهْوَ) أي: التَّحنُّث (التَّعَبُّدُ) بالخلوة، ومشاهدة الكعبة منه، والتَّفكُّر، أو بما كان يلقى إليه من المعرفة (اللَّيَالِيَ ذَوَاتِ الْعَدَدِ) مع أيّامهنَّ، وهذا التَّفسير إدراجٌ من الرَّاوي. وقال الكرمانيّ: اللَّيالي مفعول يتحنَّث، وذواتِ العدد بالكسر؛ أي: الكثيرة، وقال أيضاً: اللّيالي ذوات العدد، يحتمل الكثرة، إذ الكثير يحتاج إلى العدّ.
          وقال غيره: المراد به الكثرة؛ لأنَّ العدد على قسمين، فإذا أطلق أُريد به مجموع القلَّة والكثرة، فكأنَّها قالت: ليالي كثيرة؛ أي: مجموع قسمي العدد وهو المناسب للمقام، وإن قيل إنَّ الوصف بذوات العدد يفيد التقليل ك: {دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ} [يوسف:20]. وقيل: الحكمة في تخصيصهِ بالتَّخلِّي فيه دون غيره أنَّ المقيم فيه كان يمكنه فيه رؤية الكعبة، فيجتمعُ فيه لمن يخلو فيه ثلاث عباداتٍ: الخلوة والتَّعبُّد والنَّظر إلى البيت. وقيل: إنَّ قريشاً كانت تفعله وأوَّل من فعل ذلك من قريشٍ عبد المطَّلب، وكانوا يعظِّمونه لجلالته وكبر سنِّه فتبعه على ذلك من كان يتألَّه، وكان صلعم يخلو بمكان جدِّه، وسَلّمَ له ذلك أعمامه لكرامته عليهم، قيل: وكان الزَّمن الذي يخلو فيه شهر رمضان، فإنَّ قريشاً كانت تفعله كما كانت تصوم عاشوراء.
          (وَيَتَزَوَّدُ لِذَلِكَ) التَّعبُّد (ثُمَّ يَرْجِعُ) إذا نفذ ذلك الزَّاد (إِلَى خَدِيجَةَ) ♦ (فَتُزَوِّدُهُ) وفي رواية أبي ذرٍّ عن الكُشميهني: <فتزود> بحذف الضّمير (لِمِثْلِهَا) أي: لمثل اللَّيالي، وقيل: يحتمل أن يكون للمرَّة أو الفعلة أو الخلوة أو العبادة.
          وقد ذكر الشَّيخ البلقيني: أنَّ الضَّمير للسَّنة، فذكر من رواية ابن إسحاق كان يخرج إلى غار حراء في كلِّ عامٍ شهراً من السَّنة يتنسَّك فيه، ويطعم من جاءه من المساكين، / قال: وظاهره أنَّ التَّزوُّد لمثلها كان في السَّنة التي تليها لا لمدَّةٍ أخرى من تلك السَّنة.
          واعترض عليه من تلامذته الحافظ العسقلاني، وقال: قد كنت قويّت هذا، ثمَّ ظهرَ لي أنَّ مدَّة الخلوة كانت شهراً كان يتزوَّد لبعض اللَّيالي، فإذا نفدَ ذلك الزَّاد رجعَ إلى أهله، فيتزوَّد قدر ذلك، من جهة أنَّهم لم يكونوا في سعةٍ بالغةٍ من العيش، وكان غالبُ زادهم اللَّبن واللَّحم، وذلك لا يدَّخر منه كفاية الشّهر؛ لئلَّا يسرعَ إليه الفساد، ولا سيَّما وقد وصف بأنَّه كان يُطعم من يرد عليه.
          (حَتَّى فَجِئَهُ الْحَقُّ) حتّى هنا على أصلها لانتهاء الغاية، والمعنى: انتهى توجُّهه لغار حراء بمجيء الملك وترك ذلك، وفَجِئه: بفتح الفاء وكسر الجيم وبهمزة فعل ماض؛ أي: جاءه الوحي بغتةً، قاله النَّووي. وقال: فإنَّه صلعم لم يكن متوقِّعاً للوحي، وتعقَّبه البلقيني: بأنَّ في إطلاق النَّفي نظراً، فإنَّ الوحي كان جاءه في النّوم مراراً. واستند إلى ما ذكره ابن إسحاق عن عبيد بن عُمير أنَّه وقع له في المنام نظيرُ ما وقع له في اليقظة من الغطِّ والأمر بالقراءة وغير ذلك، انتهى.
          قال الحافظ العسقلانيّ: وفي كون ذلك يستلزم وقوعه في اليقظة حتَّى يتوقَّعه نظرٌ، فالأولى ترك الجزم بأحد الأمرين.
          وقوله: الحقُّ. قال الطِّيبيّ: أي: أمر الحقِّ، وهو الوحي، أو رسول الحقِّ وهو جبرائيلُ ◙، وقيل: الحقّ؛ أي: الأمر البيِّن الظَّاهر، أو المراد الملك بالحقِّ؛ أي: الأمر الذي بعث به.
          (وَهْوَ) صلعم (فِي غَارِ حِرَاءٍ، فَجَاءَهُ الْمَلَكُ) جبريل ◙ والفاء تفسيرية. وقال البلقيني: يحتمل أن تكون للتَّعقيب، والمعنى بمجيء الحقِّ انكشاف الحال عن أمرٍ وقع في القلب فجاء الملك عقبه، قال: ويحتمل أن تكون سببية (فِيهِ) أي: في الغار، وهذا يرد قول من قال: إنَّ الملك لم يدخل إليه الغار، بل كلمه والنَّبيّ صلعم داخل الغار والمَلَك على باب الغار.
          قال البلقيني: الملك المذكور هنا جبرائيل ◙ كما وقع شاهده في كلام ورقة، وكما مضى في حديث جابر أنَّه الَّذي جاءه بحراء، وقيل: اللام فيه لتعريف الماهية لا للعهد، إلَّا أن يكون المراد به ما عهده صلعم قبل ذلك لما كلّمه في صباه، أو اللَّفظ لعائشة ♦ / وقصدت به ما تعهَّده من يخاطبه به.
          وأفاد الشَّيخ البلقينيّ: أنَّ سنّ النَّبي صلعم كان حين جاءه جبرائيل في غار حراء أربعين سنة على المشهور، ثمَّ حكى أقوالاً قيل: أربعين ويوماً، وقيل: وعشرة أيَّام، وقيل: وشهرين، وقيل: وسنتين، وقيل: وثلاث، وقيل: وخمس، والأوَّل هو المعتمد. قال: وكان ذلك يوم الإثنين نهاراً، قال: واختلف في الشَّهر فقيل: شهر رمضان في سابع عشرة، وقيل: في سابعه، وقيل: في رابع عشره.
          قال الحافظُ العسقلانيّ: ورمضان هو الرَّاجح، وقيل: كان في سابع عشرين شهر رجب، وقيل: في أوّل شهر ربيع الأول، وقيل: في ثامنه. ووقع في رواية الطَّيالسيّ: أنَّ مجيء جبرائيل كان لمّا أراد النَّبيّ صلعم أن يرجعَ فإذا هو بجبرائيل وميكائيل، فهبط جبريل إلى الأرض وبقيَ ميكائيل بين السَّماء والأرض، الحديث، فيستفاد منه أن يكون في آخر رمضان وهو قولٌ آخر يضافُ إلى ما تقدَّم، قال الحافظ العسقلانيّ: ولعلَّه أرجحُها.
          (فَقَالَ: اقْرَأْ) قال البلقينيّ: ظاهره أنَّه لم يتقدَّم من جبريل شيءٌ قبل هذه الكلمة ولا السَّلام، ويحتمل أن يكون سلّم وحُذف ذِكرُه؛ لأنَّه معتادٌ، فقد سلّم الملائكة على إبراهيم ◙ حين دخلوا عليه، ويحتمل أن يكون لم يسلّم؛ لأنَّ المقصودَ إذ ذاك تفخيمُ الأمر وتهويلُه، أو ابتداء السَّلام متعلِّقٌ بالبشر لا الملائكة ووقوعه منهم على إبراهيم؛ لأنَّهم كانوا في صورة البشر فلا يرد هنا، ولا سلامُهم لأهل الجنَّة؛ لأنَّ أمور الآخرة مُغايرة لأمور الدُّنيا غالباً.
          وقد روى الطَّيالسيّ: أنَّ جبرائيل سلّم أولاً، لكن لم يرو أنَّه سلّم عند الأمر بالقراءة.
          قال البلقينيّ: إنَّ افعل (1) تردُ للتنبيه ولم يذكروه، ويحتمل أن تكون على بابها لطلبِ القراءة على معنى أنَّ الإمكان حاصلٌ.
          (فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صلعم : مَا أَنَا بِقَارِئٍ) كذا في رواية أبي ذرٍّ، وفي رواية غيره: <فقلت: ما أنا بقارئ> أي: ما أُحسن أن أقرأَ، والأوَّل هو المناسب لسياق الحديث من أوَّله إلى هنا بلفظ الأخبار / بطريق الإرسال ووقعَ مثله في التَّفسير، وفي رواية بدء الوحي اختلاف هل فيه ((قال: ما أنا بقارئ)) أو ((قلت: ما أنا بقارئ)) وجمع بين اللَّفظين يونس عند مسلم: ((قال: قلت: ما أنا بقارئ)).
          قال البلقينيُّ: وظاهره أنَّ عائشة ♦ سمعت ذلك من النَّبيّ صلعم فلا يكون من مرسلات الصَّحابة.
          (فَأَخَذَنِي) أي: جبرائيل ◙ (فَغَطَّنِي) من الغَطِّ _بالغين المعجمة والطّاء المهملة_ وهو العصر الشَّديد والكبس؛ أي: ضمَّني وعصرني (حَتَّى بَلَغَ مِنِّي الْجَهْدَ) تقدم في بدء الوحي أنَّه روي بنصب الدال ورفعها، وقيل: بفتح الجيم ونصب الدّال، مفعولٌ حذف فاعله؛ أي: بلغ الغطُّ منِّي الجَهدَ؛ أي: الغاية، وبضمّ الجيم ورفع الدّال؛ أي: بلغ منِّي الجهدُ؛ أي: الطَّاقة، مبلغَه، فالجهدُ فاعلُ بلغ، وهي القراءة الَّتي عليه الأكثرون وهي المرجَحة.
          وقال التُّوربشتي: لا أرى الَّذي قاله بالنَّصب إلَّا وهم، فإنَّه يصيرُ المعنى أنَّه غطَّه حتَّى استفرغَ المَلَك قوَّته في ضغطه بحيث لم يبق فيه مزيد، وهو قولٌ غير سديدٍ، فإنَّ البنية البشريَّة لا تطيق استنفاذ القوَّة الملكيَّة لا سيَّما في مبتدأ الأمر، وقد صرَّح في الحديث بأنَّه داخله الرُّعب من ذلك. انتهى.
          قال الحافظ العسقلانيّ: وما المانع أن يكون قوَّاه الله على ذلك ويكون من جملة معجزاته، وقد أجاب الطِّيبيّ بأنَّ جبرائيل ◙ لم يكن حينئذٍ على صورته الملكية فيكون استفراغ جهده بحسب صورته التي جاءه بها حين غطَّه قال: وإذا صحَّت الرِّواية اضمحلَّ الاستبعاد.
          وقال الحافظُ العسقلاني: التَّرجيح هنا يتعيَّن لاتِّحاد القصَّة؛ ورواية الرَّفع لا إشكال فيها، وهي التي ثبتت عند الأكثر فترجَّحت، وإن كان للأخرى توجيه.
          وقد رجَّح البلقيني أنَّ فاعل بلغ هو الغطّ، والتقدير: بلغ مني الغطّ جهده؛ أي: غايته، فيرجع الرفع والنصب إلى معنى واحد وهو أولى.
          (ثُمَّ أَرْسَلَنِي) أي: أطلقني (فَقَالَ: اقْرَأْ، قُلْتُ) ويروى: <فقلت> (مَا أَنَا بِقَارِئٍ، فَأَخَذَنِي فَغَطَّنِي الثَّانِيَةَ حَتَّى بَلَغَ مِنِّي الْجَهْدَ، ثُمَّ أَرْسَلَنِي فَقَالَ: اقْرَأْ، فَقُلْتُ: مَا أَنَا بِقَارِئٍ، فَغَطَّنِي) وفي رواية أبي ذرٍّ عن الكُشميهني: <فأخذني / فغطني> (الثَّالِثَةَ حَتَّى بَلَغَ مِنِّي الْجَهْدُ، ثُمَّ أَرْسَلَنِي) قال الطّيبيّ في «شرح المشكاة» قوله: ((ما أنا بقارئ)) أي: حكمي كسائر النَّاس من أنَّ حصول القراءة إنَّما هو بالتَّعليم وعدم بعدمه فلذلك أخذه وغطَّه مراراً ليخرجه عن حكم سائر النَّاس ويستفرغ منه البشريَّة ويفرغ فيه من صفات الملكيَّة.
          وقال ابن الأثير: قيل: إنَّما غطَّه ليختبره هل يقول من تلقاء نفسه شيئاً، وقيل: لتنبيهه واستحضاره ونفي منافيات القراءة عنه.
          وقال الشَّيخ زين الدِّين العراقي: وكأنَّ الذي حصل له عند تلقِّي الوحي من الجهد مقدمة لما صار يحصل له من الكرب عند نزول القرآن، كما في حديث ابن عبَّاسٍ ☻ : كان يعالج من التَّنزيل شدَّةً، وكذا في حديث عائشة وعمر ويعلى بن أمية وغيرهم ♥ ، فهو مقامٌ برزخيٌّ من غير موتٍ، يحصل له عند تلقِّي الوحي، ولما كان البرزخ العامُّ ينكشف فيه للميِّت كثيرٌ من الأحوال خصَّ الله نبيَّه ببرزخٍ في الحياة يلقى إليه فيه كثيرٌ من الأسرار، وقد يقع لكثيرٍ من الصُّلحاء عند التَّنبيه بالنوم أو غيره اطِّلاعٌ على كثيرٍ من الأسرار، وذلك مستمدٌّ من المقام النَّبويّ، ويشهد له حديث: ((رؤيا المؤمن جزءٌ من ستَّةٍ وأربعين جزءاً من النُّبوَّة)).
          وقال السُّهيليّ: تأويل الغطّات الثَّلاث على ما في رواية ابن إسحاق أنَّها كانت في النَّوم أنَّه ستقع له ثلاث شدائد يبتلى بها ثمَّ يأتي الفرج، وكذلك كان، فإنَّه لقي ومن تبعه شدَّة، الأولى بالشّعب لما حصرتهم قريش، فإنَّه لقي ومن تبعه شدَّة عظيمة فيه، الثَّانية لما خرجوا توعدوهم بالقتل حتَّى فرُّوا إلى الحبشة، الثَّالثة لما همُّوا بما همُّوا به من المكر به كما قال تعالى: {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا} [الأنفال:30] الآية، فكانت له العاقبة في الشَّدائد الثَّلاث.
          وقال الشَّيخ البلقيني ما ملخَّصه: إنَّ هذه المناسبة حسنةٌ ولا تتعيَّن للنَّوم بل تكون بطريق الإشارة في اليقظة، قال: ويمكن أن تكون المناسبة أنَّ الأمر الذي جاء به ثقيلٌ من حيث القول والعمل والنِّيَّة، أو من جهة التَّوحيد / والأحكام والإخبار بالغيب الماضي والآتي، وأشار بالإرسالات الثَّلاث إلى حصول التَّيسير والتَّسهيل والتَّخفيف في الدُّنيا والبرزخ والآخرة عليه وعلى أمَّته صلعم .
          (فَقَالَ) له حينئذٍ لما علم المعنى ({اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ}) كلَّ شيءٍ وموضع باسم ربِّك النصب على الحال؛ أي: اقرأ مفتتحاً باسم ربِّك؛ أي: قل باسم الله ثمَّ اقرأ (حَتَّى بَلَغَ: {مَا لَمْ يَعْلَمْ}) وفي رواية أبي ذرٍّ: ((حتى بلغ {عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} [العلق:5])).
          قال الطّيبيّ: وفيه إشارةٌ إلى ردِّ ما تصوَّره صلعم من أنَّ القراءة إنَّما تتيسَّر بطريق التَّعليم فقط، بل إنَّها كما تحصل بواسطة المعلم قد تحصل بتعليم الله تعالى بلا واسطةٍ فقوله: {عَلَّمَ بِالْقَلَمِ} إشارةً إلى العلم التَّعليميّ، وقوله: {عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} إشارة إلى العلم اللّدنيّ ومصداقه قوله تعالى: {إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى. عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى} [النجم:4 5].
          قال الشَّيخ البلقينيّ: دلَّت القصَّة على أنَّ مراد جبريل ◙ بقوله: {اقْرَأْ} أولاً أن يقول النبيّ صلعم نصَّ ما قاله وهو قوله: {اقْرَأْ} وإنما لم يقل له قل اقرأ إلى آخره لئلا يظنَّ أنَّ لفظة قل أيضاً من القرآن.
          قال الحافظ العسقلانيّ: ويحتمل أن يكون السِّرُّ فيه الابتلاء في أوَّل الأمر حتَّى يترتَّب عليه ما وقع في الغطِّ وغيره، ولو قال له في الأول قل: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ} [العلق:1] إلى آخره لبادر إلى ذلك ولم يقع ما وقع. ثمَّ قال الشَّيخ: ويحتمل أن يكون جبريل ◙ أشار بقوله: {اقْرَأْ} إلى ما هو مكتوبٌ في النّمط الَّذي وقع في رواية ابن إسحاق، فلذلك قال له: ((ما أنا بقارئ)) أي: أمِّي لا أحسن قراءة الكتب.
          ثمَّ قال الشَّيخ المرقوم: يحتمل أن يكون المكتوب في ذلك النَّمط القدر الَّذي أقرأه إياه، وهي الآيات الأُول من {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ} ويحتمل أن يكون ذلك جملة القرآن، نزلت جملة واحدة باعتبار، ثمَّ نزل منجّماً باعتبار آخر، قال: وفيه إشارةٌ إلى أنَّ أمره يكمل باعتبار الجملة ثمَّ يكمل باعتبار التَّفصيل، والله تعالى أعلم.
          (فَرَجَعَ) رسول الله صلعم (بِهَا) أي: مصاحباً بالآيات المذكورة / الخمس (تَرْجُفُ) أي: تضطرب (بَوَادِرُهُ) جملة حاليَّة، وتقدم في بدء الوحي بلفظ: ((يرجف فؤاده)).
          قال البلقيني: الحكمة في العدول عن القلب إلى الفؤاد، أنَّ الفؤاد وعاء القلب على ما قاله بعض أهل اللُّغة، فإذا حصل الرَّجفان للفؤاد حصل لما فيه فيكون في ذكره من تعظيم الأمر ما ليس في ذكر القلب. وأمَّا البوادر فجمع بادرة، والمراد بها: اللَّحمة التي بين المنكب والعنق، وقد جرت العادة بأنَّها تضطرب عند الفزع.
          وقال الجوهريّ: إنَّ اللَّحمة المذكورة سمّيت بلفظ الجمع، وتعقَّبه ابن برّي فقال: البوادر جمع: بادرة وهي ما بين المنكب والعنق، يعني: أنَّه لا يختصُّ بعضوٍ واحدٍ، وهو جيِّدٌ، فيكون إسناد الرَّجفان إلى القلب لكونه محلَّه، وإلى البوادر لأنَّها مظهره.
          وأمَّا قول الدَّاوديّ: البوادر والفؤاد واحدٌ، فإن أراد أن مفادهما واحدٌ وإلَّا فهو مردود، وإنَّما رجفت بوادره لما فجئه من الأمر المخالف للعادة؛ لأنَّ النُّبوَّة لا تزيل طباع البشريَّة كلَّها.
          (حَتَّى دَخَلَ عَلَى خَدِيجَةَ) ♦ (فَقَالَ: زَمِّلُونِي زَمِّلُونِي) مرَّتين؛ أي: غطُّوني بالثِّياب ولفُّوني (فَزَمَّلُوهُ) بفتح الميم (حَتَّى ذَهَبَ عَنْهُ الرَّوْعُ) بفتح الراء، الفزع (فَقَالَ: يَا خَدِيجَةُ، مَا لِي) أي: ما كان الَّذي حصل لي (وَأَخْبَرَهَا الْخَبَرَ، وَقَالَ: قَدْ خَشِيتُ عَلَى نَفْسِي) وفي رواية أبي ذرٍّ عن الحموي والمستملي: <قد خشيت عليّ> بتشديد الياء؛ أي: من أنَّه يكون مرضاً أو عارضاً من الجنِّ. وقال الكرماني: الأولى إنِّي خشيت أني لا أقوى على مقاومة هذا الأمر ولا أقدر على تحمُّل أعباء الوحي فتزهق نفسي.
          (فَقَالَتْ لَهُ) خديجة ♦ (كَلاَّ) نفيٌ وإبعاد؛ أي: ليس الأمر كما زعمت، بل لا خشية ولا خوف عليك، وأصل كلمة كلا للرَّدع والإبعاد، وقد تجيء بمعنى حقًّا وبمعنى الاستفتاح (أَبْشِرْ) خطابٌ من خديجة للنَّبيّ صلعم وهو أمرٌ من البَشارة _بفتح الباء وضمها_، وهو اسم، والمصدر بشر وبشور من بشرت الرجل أبشُره _بالضم_؛ أي: أدخلت له سروراً وفرحاً، ولم يعيِّن فيه المبشّر به. / ووقع في «دلائل النبوة» للبيهقيِّ من طريق أبي ميسرة مرسلاً مطولاً وفي آخره: فإنَّك رسول الله حقًّا، وفيه: ((لا يفعل الله بك إلَّا خيراً)).
          ومن اللَّطائف: أنَّ كلّمة كلّا التي ابتدأت خديجة النُّطق بها عقب ما ذكر لها النَّبي صلعم من القصَّة التي وقعت له، هي التي وقعت عقب الآيات الخمس من سورة {اقْرَأْ} في نسق التِّلاوة فجرت على لسانها اتِّفاقاً؛ لأنَّها لم تكن نزلت بعد وإنما نزلت في قصَّة أبي جهلٍ، وهذا هو المشهور عند المفسِّرين.
          وقد ذهب بعضُهم إلى أنَّها تتعلَّق بالإنسان المذكور قبل، لأنَّ المعرفة إذا أعيدت معرفة فهي عين الأولى، وقد أُعيد الإنسان هنا كذلك فكان التَّقدير كلا لا يعلم الإنسان أنَّ الله هو خلقه وعلمه إنَّ الإنسان ليطغى.
          (فَوَاللَّهِ لاَ يُخْزِيكَ اللَّهُ أَبَداً) بضمّ التّحتيّة وسكون الخاء المعجمة، من الخزي، وهو الذلَّة والهوان، وفي رواية أبي ذرٍّ عن الكُشميهني: <لا يحزنك الله> بالحاء المهملة والنون، من الحزن (إِنَّكَ لَتَصِلُ الرَّحِمَ) أي: القرابة (وَتَصْدُقُ الْحَدِيثَ، وَتَحْمِلُ الْكَلَّ) بفتح الكاف وتشديد اللّام؛ أي: الثّقل من النَّاس، ويدخل فيه الإنفاق على الضَّعيف واليتيم والعيال وغير ذلك (وَتَقْرِي الضَّيْفَ) بفتح الفوقيّة من غير همز؛ أي: نهيِّئ له طعامَه ونُزُلَه (وَتُعِينُ عَلَى نَوَائِبِ الْحَقِّ) النَّوائب جمع: نائبة، وهي ما ينوب الإنسان؛ أي: ينزل به من المهمَّات والحوادث، أرادت أنَّك لست ممَّن يصيبه مكروهٌ، لمَا جمع الله فيك من مكارم الأخلاق ومحاسن الشّمائل، وفيه: دلالةٌ على أنَّ مكارمَ الأخلاق وخصالَ الخير سببٌ للسَّلامة من مصارع السُّوء.
          وفيه: مدح الإنسان في وجهه في بعض الأحوال للمصلحة، وفيه: تأنيس من حصلت له مخافة من أمرٍ، وفي «دلائل النّبوّة» للبيهقيّ من طريق أبي ميسرة مرسلاً: أنَّه صلعم قصَّ على خديجة ما رأى في المنام فقالت له: أبشرْ إنّ هذا والله خيرٌ، ثمَّ استعلن له جبريل، فذكر القصَّة فقال لها: ((أرأيتك الذي رأيتُ في المنام، / فإنَّه جبرئيل استعلن لي بأنَّ ربِّي أرسله إليّ)) وأخبرها بما جاء به، فقالت: أبشر فوالله لا يفعلُ الله بك إلَّا خيراً، فاقبل الذي جاءك من الحقِّ، فإنَّه حقٌّ وأبشر فإنَّك رسول الله حقًّا.
          قال الحافظ العسقلانيّ: هذا أصرح ما ورد في أنَّها أوَّل الآدميين آمن برسول الله صلعم .
          (ثُمَّ انْطَلَقَتْ بِهِ خَدِيجَةُ حَتَّى أَتَتْ بِهِ) مصاحبةً له (وَرَقَةَ بْنَ نَوْفَلِ بْنِ أَسَدِ بْنِ عَبْدِ الْعُزَّى بْنِ قُصَيٍّ، وَهْوَ) أي: ورقة (ابْنُ عَمِّ خَدِيجَةَ أَخُو أَبِيهَا) كذا وقع هنا، وهو صفةُ العمّ فكان حقُّه أن يذكر مجروراً، وكذا وقع في رواية ابن عساكر: <أخي أبيها> ووجه الرفع أنَّه خبر مبتدأ محذوف؛ أي: هو أخو أبيها، وفائدته: دفع المجاز في إطلاق العمّ فيه.
          (وَكَانَ) أي: ورقة (امْرَأً تَنَصَّرَ) أي: دخل في دين النَّصرانيّة (فِي الْجَاهِلِيَّةِ) أي: قبل البعثة المحمّديَّة، وقد يطلق الجاهليَّة ويراد بها ما قبل دخول المحكي عنه في الإسلام (وَكَانَ يَكْتُبُ الْكِتَابَ الْعَرَبِيَّ) وفي ((باب بدء الوحي)): ((العبرانيّ)) [خ¦3].
          (فَيَكْتُبُ بِالْعَرَبِيَّةِ) ويروى: <بالعبرانيّة> (مِنَ الإِنْجِيلِ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَكْتُبَ) أي: الَّذي شاء الله كتابته، والعِبرانيَّة _بكسر العين_ وكذلك العبريّ. قال الجوهريُّ: هو لغة اليهود، وقد تقدَّم في أوّل الكتاب في هذا الحديث [خ¦3] أنَّ العبرانيّ نسبةٌ إلى العبرِ وزيدت فيه الألف والنّون في النّسبة على غير القياس. وقال ابنُ الكلبيّ: ما أخذ على غربيّ الفرات إلى تربة (2) العرب يسمَّى: العبر، وإليه ينسب العبريُّون من اليهود؛ لأنَّهم لم يكونوا عبروا الفرات، وقيل: غير ذلك.
          (وَكَانَ شَيْخاً كَبِيراً قَدْ عَمِيَ، فَقَالَتْ لَهُ) أي: لورقة (خَدِيجَةُ: أي: ابْنَ عَمِّ، اسْمَعْ مِنِ ابْنِ أَخِيكَ) محمد صلعم إنَّما قاله تعظيماً له وإظهاراً للشَّفقة؛ لأنَّه صلعم لم يكن ابن أخي ورقة (فَقَالَ لَهُ) صلعم (وَرَقَةُ: ابْنَ أَخِي) بنصب ابن لأنه منادى مضاف؛ أي: يا ابن أخي، قاله تعظيماً وإظهاراً للشَّفقة له أيضاً (مَاذَا تَرَى؟ فَأَخْبَرَهُ النَّبِيُّ صلعم مَا رَأَى) وفي ((بدء الوحي)) [خ¦3]: ((خبر ما رأى)).
          (فَقَالَ) له (وَرَقَةُ: هَذَا النَّامُوسُ) جبريل صاحب سرِّ الخير، قال الهرويّ: سمِّي به؛ لأنَّ الله خصَّه بالوحي / (الَّذِي أُنْزِلَ) بضم الهمزة (عَلَى مُوسَى) أي: ابن عمران ╕ ولم يقل عيسى مع كونه نصرانيًّا؛ لأنَّ نزول جبريل عليه متَّفقٌ عليه عند أهل الكتابين بخلاف عيسى (يَا لَيْتَنِي فِيهَا جَذَعاً) أي: في أيَّام النُّبوَّة ومدَّتها، شاباً قويّاً، والجذع في الأصل للدَّواب، وهو من الإبل ما لها أربع سنين فهو هاهنا استعارة، وهو بالجيم والذّال المعجمتين المفتوحتين، وانتصابه بكان المقدر؛ أي: ليتني أكون فيها جذعاً، أو هو منصوبٌ على مذهب من ينصب بليت الجزئين، أو على حالٍ من الضَّمير في فيها، وخبر ليت قولُه (فيها)؛ أي: ليتني كائنٌ فيها حال الشبيبة والقوَّة لأنصرك وأبالغ في نصرتك.
          (أَكُونُ) وفي بدء الوحي: ((ليتني أكون)) (حَيّاً حِينَ يُخْرِجُكَ قَوْمُكَ) من مكَّة (فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلعم : أَوَمُخْرِجِيَّ هُمْ) الهمزة للاستفهام والواو للعطف على مقدّر بعدها، وهم مبتدأ، ومخرجيّ بتشديد الياء مقدماً خبره، وأصله مخرجون فلما أضيف إلى ياء المتكلم سقطت النّون، والتقدير أمعاديّ ومخرجيّ هم.
          قال السُّهيليّ: يؤخذ منه شدَّة مفارقة الوطن على النَّفس، فإنَّه صلعم سمع قول ورقة أنَّهم يؤذونه ويكذِّبونه فلم يظهر منه انزعاجٌ لذلك، فلمَّا ذكر له الإخراج تحرَّكت نفسُه لذلك لحبِّ الوطن وإلفه، فقال: ((أومخرجيَّ هم؟)).
          قال: ويؤيِّد ذلك إدخال الواو بعد همزة الاستفهام مع اختصاصِ الإخراج بالسُّؤال عنه، فأشعر بأنَّ الاستفهام على سبيل الإنكار أو التَّفجُّع، ويؤكِّد ذلك أنَّ الوطن المشار إليه حرمُ الله وجوارُ بيته وبلد آبائه من عهد إسماعيل ◙. انتهى ملخَّصاً.
          ويحتمل أن يكون انزعاجُه كان من جهة خشيةِ فوات ما أمّله من إيمان قومه بالله، وإنقاذهم به من وَضَر الشِّرك وأدناس الجاهليَّة ومن عذاب الآخرة، ويحتمل أن يكون انزعجَ من الأمرين معاً.
          (فَقَالَ وَرَقَةُ) له: (نَعَمْ) يخرجونك (لَمْ يَأْتِ رَجُلٌ قَطُّ بِمَا جِئْتَ بِهِ) وفي رواية أبي ذرٍّ عن الكُشميهني: <بمثل ما جئت به من الوحي> (إِلاَّ عُودِيَ) على البناء للمفعول من المعاداة؛ لأنَّ الإخراج عن المألوف (3) / سبب لذلك (وَإِنْ يُدْرِكْنِي يَوْمُكَ) بجزم ((يدركني)) بأنَّ الشَّرطيّة ورفع ((يومك)) فاعل يدركني؛ أي: يوم انتشار نبوَّتك (أَنْصُرْكَ) بالجزم جواب الشّرط (نَصْراً) بالنّصب على المصدريّة (مُؤَزَّراً) بالهمزة في رواية الأكثر وتشديد الزّاي بعدها راء،من التَّأزير، وهو التَّقوية،وأصله من الأزر، وهو القوَّة.
          وقال القزَّاز: الصَّواب موازراً بغير همز من وازرتُه موازرة: إذا عاونته. ومنه أُخذ وزيرُ المَلِك،ويجوز حذف الألف، فيقال: نصراً موزّراً، ويردُ عليه قول الجوهري: أزرت فلاناً عاونته والعامَّة تقول: وازرته.
          (ثُمَّ لَمْ يَنْشَبْ) بفتح الشّين المعجمة؛ أي: لم يلبث (وَرَقَةُ أَنْ تُوُفِي) بدل اشتمال من ورقة؛ أي: لم يلبث وفاتُه (وَفَتَرَ الْوَحْيُ) أي: احتبس وانقطع ثلاث سنينٍ أو سنتين ونصف (فَتْرَةً حَتَّى حَزِنَ) بكسر الزّاي (النَّبِيُّ صلعم ، فِيمَا بَلَغَنَا) معترض بين الفعل ومصدره وهو (حُزْناً) بضمّ الحاء وسكون الزّاي وبفتحهما.
          القائل فيما بلغنا هو محمَّد بن مسلم بن شهاب الزُّهريّ، والمعنى: أنَّ في جملة ما وصل إلينا من خبر رسول الله صلعم في هذه القصَّة وهو من بلاغات الزُّهريّ وليس موصولاً.
          وقال الكرماني: هذا هو الظَّاهر، ويحتمل أن يكون بلغه بالإسناد المذكور، ووقع عند ابن مَرْدويه في «التفسير» من طريق محمّد بن كثير عن مَعمَر بإسقاط قوله: ((فيما بلغنا)) ولفظه: فترة حزن النَّبي صلعم فيها حزناً.
          (غَدَا) بغين معجمة، في الفرع، من الذَّهاب غدوةً، وفي نسخة: <عدا> بعين مهملة، من العَدْوِ وهو الذَّهاب بسرعة (مِنْهُ) أي: من الحزن (مِرَاراً كَيْ يَتَرَدَّى) أي: يسقط (مِنْ رُؤُوسِ شَوَاهِقِ الْجِبَالِ) الشَّواهق: جمع: شاهق، وهو المرتفعُ العالي من الجبل (فَكُلَّمَا أَوْفَى بِذِرْوَةِ جَبَلٍ) بكسر الذّال المعجمة وتفتح وتضمّ، أعلاه، وذروة كلِّ شيءٍ أعلاه (لِكَيْ يُلْقِيَ مِنْهُ) أي: من الجبل (نَفْسَهُ) المقدَّسة إشفاقاً أن تكون الفترة لأمرٍ أو سببٍ يكون عقوبة من ربِّه ففعل ذلك بنفسه ولم يرد بَعْدُ شرعٌ بالنَّهي عن ذلك فيُعترض به، أو خَوْفَ فَوْتِ ما بشَّره به ورقة، ولم يكن خوطب عن الله أنَّه رسول الله ومبعوثٌ إلى عباده. /
          وأخرج ابن سعدٍ من حديث ابن عبَّاس ☻ بنحو هذا البلاغ الَّذي ذكره الزُّهريّ، قولَه: ((مكث أيَّاماً بعد مجيء الوحي لا يرى جبريل فحزن حزناً شديداً حتَّى كاد يغدو إلى ثبير مرَّةً وإلى حراء أخرى يريد أن يلقي نفسه)).
          (تَبَدَّى) أي: ظهر، وفي رواية الكُشميهني: <بدا> (لَهُ جِبْرِيلُ، فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ، إِنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ حَقّاً) وفي حديث ابن سعدٍ: ((فبينا هو عامدٌ لبعض تلك الجبال إذ سمع صوتاً فوقف فزعاً ثمَّ رفع رأسه فإذا جبريل على كرسيٍّ بين السَّماء والأرض متربِّعاً يقول: يا محمَّد أنت رسول الله حقًّا، وأنا جبريل فانصرف، وقد أقرَّ الله عينه، ثمَّ تتابع الوحي)).
          (فَيَسْكُنُ لِذَلِكَ جَأْشُهُ) بجيم وهمزة ساكنة ثم شين معجمة؛ أي: اضطراب قلبه، ويطلق على النَّفس أيضاً (وَتَقِرُّ) بكسر القاف في الفرع، وفي غيره بفتحها (نَفْسُهُ، فَيَرْجِعُ، فَإِذَا طَالَتْ عَلَيْهِ فَتْرَةُ الْوَحْيِ غَدَا لِمِثْلِ ذَلِكَ، فَإِذَا أَوْفَى بِذِرْوَةِ جَبَلٍ تَبَدَّى لَهُ جِبْرِيلُ، فَقَالَ لَهُ مِثْلَ ذَلِكَ) وزاد في رواية محمّد بن كثير: ((حتَّى كثرَ الوحي بَعْدُ وتتابع)).
          ومطابقة الحديث للتَّرجمة ظاهرة، وقد مرَّ الحديث في أول الكتاب [خ¦3]، ومضى الكلام فيه مستوفًى.
          (قَالَ) وفي رواية أبي ذرٍّ: <وقال> (ابْنُ عَبَّاسٍ) ☻ في تفسير قوله تعالى: ({فَالِقُ الإِصْبَاحِ} [الأنعام:96] ضَوْءُ الشَّمْسِ بِالنَّهَارِ) أي: الإصباح ضوء الشَّمس بالنَّهار (وَضَوْءُ الْقَمَرِ بِاللَّيْلِ) ثبت هذا في رواية أبي ذرٍّ عن المستملي والكُشميهنيّ، وكذا للنَّسفيّ ولأبي زيدٍ المروزيّ عن الفربريّ، ووصله الطَّبريّ من طريق عليِّ بن أبي طلحة عن ابن عبَّاسٍ ☻ .
          واعترض على المؤلِّف بأنَّ ابن عبَّاس ☻ فسَّر {الإصباح} لا لفظ {فالق} الَّذي هو المراد هنا؛ لأنَّ المؤلِّف ذكره عقب هذا الحديث لما وقع فيه ((فكان لا يرى رؤيا إلَّا جاءت مثل فلق الصبح))، والإصباح مصدر بمعنى الدُّخول في الصَّباح سمِّي به الصُّبح؛ أي: شَاقُّ عمودِ الصُّبح عن سواد اللَّيل، أو فالق نور النَّهار.
          نعم قال مجاهدٌ في تفسير: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ} [الفلق:1] الصّبح. وأخرج الطَّبريّ عنه أيضاً: في قوله {فَالِقُ الْإِصْبَاحِ} [الأنعام:96] وقال: إضاءة الصُّبح، وعلى هذا فالمراد بفلق الصُّبح إضاءته، فالله سبحانه وتعالى يفلق ظلام اللَّيل / عن غرَّة الصَّباح فيضيء ويستنيرُ الأفق، ويضمحلُّ الظَّلام، ويذهب اللَّيل.
          وقال بعضُ أهل اللُّغة: الفَلْقُ: شَقُّ الشَّيء، وقيَّده الرَّاغب بإبانة بعضه عن بعضٍ، ومنه فلق موسى البحر فانفلق. ونقل الفرَّاء أنّ فطر وخلق وفلق بمعنًى واحد، وقد قيل في قوله تعالى: {فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى} [الأنعام:95] أنَّ المراد به الشَّقّ الَّذي في الحبَّة من الحنطة وفي النَّواة، وهذا يردُّ على تقييد الرَّاغب.


[1] أي اقرأ على وزن اِفعل.
[2] في عمدة القاري: (برية) وفي نسخة (قرية).
[3] أي إخراجهم بالإسلام عما ألفوه من عبادة الأصنام.