نجاح القاري لصحيح البخاري

باب عمود الفسطاط تحت وسادته

          ░24▒ (باب عَمُودِ الْفُسْطَاطِ) العمود بفتح أوّله معروفٌ، والجمع أعمدة وعُمُد _بضمّتين وبفتحتين_ ما يرفع به الأخبية من الخشب، والعمود يطلق أيضاً على ما يرفع به البيوت من حجارة كالرُّخام والصُّوان، ويطلقُ أيضاً على ما يعتمدُ عليه من حديدٍ أو غيره، وعمود الصُّبح ابتداء ضوئه.
          والفسطاط: بضمّ الفاء وتكسر وبالطّاء المهملة مكررة بينهما ألف وقد تبدل الطّاء الأخيرة سيناً مهملة وقد تبدل الطّاء تاء مثنّاة فيهما وفي أحدهما وقد تدغم التّاء الأولى في السِّين المهملة في آخره، لغات تبلغ على هذا اثنتي عشرة اقتصر النَّووي منها على ستٍّ الأولى والأخيرة وبتاء بدل الطّاء الأولى وبضمّ الفاء وبكسرها.
          وقال الجواليقي: إنَّه فارسيٌّ معرب وهو الخيمةُ العظيمة.
          (تَحْتَ وِسَادَتِهِ) أي: في المنام، وفي رواية النَّسفيّ: <عند> بدل: تحت كذا في رواية الجميع ليس فيه حديثٌ وبعده عندهم باب الاستبرق ودخول الجنَّة في المنام، إلَّا أنَّه سقط لفظ باب عند النَّسفيّ والإسماعيليّ.
          وأمَّا ابن بطَّال فإنَّه جمع بين التَّرجمتين في بابٍ واحدٍ، فقال: باب عمود الفسطاط تحت وسادته / ودخول الجنَّة في المنام، قال ابن بطَّال: سألت المهلَّب عن ترجمة عمود الفسطاط تحت وسادته ولم يذكر فيه حديثاً فيه عمود فسطاطٍ ولا وسادة، فقال: الَّذي يقعُ في نفسي أنَّه رأى في بعض طرق حديث السَّرَقة شيئاً أكمل ممَّا ذكره في كتابه، وهو حديث ابن عمر ☻ الآتي إذ فيه: أنَّ السَّرقة كانت مضروبةً في الأرض على عمودٍ كالخباء، وأنَّ ابن عمر اقتلعها من عمودها فوضعها تحت وسادته وقام هو بالسَّرَقة فأمسكها، وهي كالهودج من إستبرق فلا يرى (1) موضعاً من الجنَّة إلَّا طارت به إليه.
          ولم يرضَ سند هذه الزِّيادة فلم يدخله في كتابه، وقد فعل مثل هذا في كتابه كثيراً كما يترجم بالشَّيء ولا يذكره، ويشير إلى أنَّه روي في بعض طرقه وإنَّما لم يذكره لِلِيْنٍ في سنده، وأعجلته المنيَّة عن تهذيب كتابه. انتهى.
          قال الحافظ العَسقلانيّ: والمعتمد أنَّ البخاريّ أشار بهذه التَّرجمة إلى حديثٍ جاء من طرق: ((أنَّ النَّبيّ صلعم رأى في منامه عمود الكتاب انتُزِعَ من تحت رأسه))، الحديث.
          وأشهر طرقه ما أخرجه يعقوب بن سفيان والطَّبرانيّ والحاكم وصحَّحه من حديث عبد الله عمرو بن العاص ☻ : سمعت رسول الله صلعم يقول: ((بينا أنا نائمٌ رأيتُ عمود الكتاب احتُمل من تحت رأسي فأتبعته بصري فإذا هو قد عمد به إلى الشَّام، ألا وإنَّ الإيمان حين تقع الفتن بالشَّام)) وسنده ضعيفٌ. وفي رواية: ((فإذا وقعت الفتن فالأمن بالشَّام))، وله طريقٌ عند عبد الرَّزاق رجالها رجال الصَّحيح إلَّا أنَّ فيه انقطاعاً بين أبي قلابة وعبد الله بن عَمرو، وأخرج أحمد ويعقوب بن سفيان والطَّبرانيّ أيضاً عن أبي الدَّرداء رفعه: ((بينا أنا نائمٌ رأيت عمودَ الكتاب احتُملَ من تحت رأسي فظننتُ أنَّه مذهوبٌ به فأتبعتُه بصري فعمدَ به إلى الشَّام))، الحديث، وسنده صحيحٌ.
          وأخرج يعقوب والطَّبرانيّ أيضاً عن أبي أمامة نحوه وقال: ((انتزع من تحت وسادتي)) وزاد بعد قوله: بصري: ((فإذا هو نورٌ / ساطعٌ حتى ظننتُ أنَّه قد هوى به فعمدَ به إلى الشَّام، وإنِّي أوَّلت أنَّ الفتن إذا وقعت أنَّ الإيمان بالشَّام))، وسنده ضعيفٌ.
          وأخرج الطَّبراني أيضاً بسندٍ حسنٍ عن عبد الله بن حَوَالة: أنَّ رسولَ الله صلعم قال: ((رأيتُ ليلة أُسري بي عموداً أبيض كأنَّه لواءٌ تحمله الملائكة، فقلت: ما تحملون؟ قالوا: عمودُ الكتاب أمرنا أن نضعَه بالشَّام، قال: وبينا أنا نائمٌ رأيت عمودَ الكتاب اختُلسَ من تحت وسادتي فظننتُ أنَّ الله يخلي عن أهل الأرض فأتبعتُه بصري، فإذا هو نورٌ ساطعٌ وضع بالشَّام)).
          وللحديث طرقٌ أخرى عن عمر وعن ابن عمر ☻ يقوِّي بعضها بعضاً، وقد جمعها ابن عساكر في ((مقدَّمة تاريخ دمشق)) وأقربها إلى شرط البخاري حديث أبي الدَّرداء ☺ إلَّا أنَّ فيه اختلافاً على يحيى بن حمزة في شيخه هل هو ثور بن يزيد، أو يزيد بن واقد؟ وهو غير قادحٍ؛ لأنَّ كلًّا منهما ثقة من شرطه، فلعلَّه كتب التَّرجمة وبيَّض للحديث لينظر فيه فلم يتهيَّأ له أن يكتبَه واخترمته المنيَّة.
          وإنَّما ترجم بعمود الفسطاط ولفظ الخبر: ((عمود الكتاب))، وعمود الكتاب: عمود الدِّين إشارةً إلى من رأى عمود الفسطاط في منامه، فإنَّه يعبِّر بنحو ما وقع في الخبر المذكور، وهو قول علماء التَّعبير قالوا: من رأى في منامه عموداً، فإنَّه يعبر بالدِّين أو برجلٍ يعتمدُ عليه فيه، وفسروا العمود بالدِّين والسُّلطان، وأمَّا الفسطاط فقالوا: من رأى أنَّه ضُربَ عليه فسطاط، فإنَّه ينالُ سلطاناً بقدره أو يخاصم ملكاً فيظفر به، والله تعالى أعلم.


[1] في هامش الأصل: في رواية: فلا يريد.