نجاح القاري لصحيح البخاري

باب رؤيا أهل السجون والفساد والشرك

          ░9▒ (باب: رُؤْيَا أَهْلِ السُّجُونِ) هو جمع سِجن _بالكسر_ وهو المحبسُ، وبالفتح: مصدر، وقد سجنه يسجُنُه من باب نصرَ؛ أي: حبسه (وَالْفَسَادِ) أي: ورؤيا أهل الفساد؛ يعني: أهل المعاصي (وَ) رؤيا أهل (الشِّرْكِ) ووقع في رواية أبي ذرٍّ بدل: ((الشّرك)): <والشُّرَّاب> بضم الشّين المعجمة وتشديد الرّاء، جمع شارب، أو بفتحتين مخففاً؛ أي: وأهل الشَّراب المحرَّم، وعطفه على أهل الفساد من عطف الخاصِّ على العام. وفيه / الإشارة إلى أنَّ الرُّؤيا الصَّحيحة وإن اختصَّت غالباً بأهل الصَّلاح لكن قد تقع لغيرهم، قالوا: إنَّ الرُّؤيا الصَّالحة قد تكون بشرى لأهل السِّجن بالخلاص، وإن كان المسجون كافراً تكون بشرى له بهدايته إلى الإسلام كما كانت رؤيا الفَتَيَيْنِ اللَّذين مع يوسف ◙ صادقةً.
          وقال أبو الحسين بن أبي طالبٍ: وفي صدق رؤيا الفَتَيَيْنِ حجَّة على من زعم أنَّ الكافر لا يرى رؤيا صادقة، وقال أهل العلم بالتَّعبير إذا رأى الكافر أو الفاسق الرُّؤيا الصَّالحة فإنَّها تكون بشرى له بهدايته إلى الإسلام مثلاً أو التَّوبة أو إنذاراً من بقائه على الكفر أو الفسق، وقد تكون لغيره ممَّن ينسب إليه من أهل الفضل، وقد يرى ما يدلُّ على الرِّضا بما هو فيه وتكون من جملة الابتلاء والغرور والمكر نعوذ بالله من ذلك.
          (لِقَوْلِهِ تَعَالَى) وفي بعض النُّسخ: <وقوله تعالى> بدون اللّام، والأوّل أولى؛ لأنَّه يحتجُّ بقوله تعالى: {وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانِ} [يوسف:36] إلى آخر الآيات على اعتبار الرُّؤيا الصَّالحة في حقِّ أهل السِّجن والفساد والشِّرك، وهو أيضاً يوضح حكم التَّرجمة فإنَّه لم يتعرَّض فيها إلى بيان الحكم ({وَدَخَلَ مَعَهُ}) أي: مع يوسف ◙ ({السِّجْنَ فَتَيَانِ}) وهما غلامان كانا للوليد بن ريّان ملك مصر الأكبر.
          قال السُّهيليّ: اسم أحدهما: شَرهم، والآخر: شُرهم، كلٌّ منهما بمعجمة إحداهما مفتوحة والأخرى مضمومة، أحدهما: خبّازه، والآخر: شرابيّه، سجنهما للإيهام بأنَّهما يريدان أن يسمِّماه.
          قال: وقال الطَّبري: اسم الشرابي: نبؤ، وذكر اسم الآخر فلم أحفظه، وقيل: اسمه مخلث _بمعجمة ومثلثة_ وبه جزم الثَّعلبيّ، وذكر أبو عبيد البكريّ في كتاب «المسالك» أنَّ اسم الخبَّاز: راشان، والسَّاقي: مرطس.
          وحكي أنَّ الملك اتُّهما بأنَّهما أرادا تسميمه في الطَّعام والشَّراب فحبسهما إلى أن ظهرت براءة ساحة السَّاقي دون الخبَّاز، ويقال: إنَّهما لم يريا شيئاً، وإنَّما أرادا امتحان يوسف ◙، فأخرج الطَّبريّ عن ابن مسعودٍ ☺ قال / لم يريا شيئاً، وإنَّما تحاكما ليجرّبا، وفي سنده ضعفٌ، وأخرج الحاكم بسندٍ صحيحٍ عن ابن مسعودٍ ☺ نحوه، وزاد: فلمَّا ذكر لهما التَّأويل قالا: إنَّما كنَّا نلعب، قال: {قُضِيَ الأَمْرُ} [يوسف:41] الآية.
          ({قَالَ أَحَدُهُمَا} [يوسف:36]) وهو: الشَّرابيّ ({إِنِّي أَرَانِي}) في المنام ({أَعْصِرُ خَمْراً}) أي: عنباً تسميةً له بما يؤول إليه، أو بلغة، وقيل لأعرابيٍّ معه عنبٌ: ما معك؟ قال: خمرٌ، وقرأ ابن مسعودٍ ☺: <▬أعصر عنباً↨> ({وَقَالَ الآخَرُ}) وهو: الخبَّاز ({إِنِّي أَرَانِي}) في المنام ({أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزاً تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ}) أي: ينتهبن منه ({نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ}) أي: أخبرنا بتفسيره وتعبيره وما يؤول إليه أمر هذه الرُّؤيا ({إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} [يوسف:36]) أي: من العالمين الَّذين يحسنون عبارة الرُّؤيا.
          قال الزَّجاج: فيه أنَّ أمر الرُّؤيا صحيحٌ وأنَّ منها ما يصحُّ، ومن دفعه فليس بمسلمٍ لأنَّه يدفع القرآن والسُّنّة، وروي عن النَّبيّ صلعم : ((الرُّؤيا جزءٌ من أربعين جزءاً من النُّبوة))، وتأويله أنَّ الأنبياء يخبرون عمَّا سيكون والرُّؤيا تدلُّ على ما سيكون.
          ({قَالَ لاَ يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ} [يوسف:37]) أي: في نومكما، وإنَّما قال ذلك؛ لأنَّه كره أن يعيّن لهما ما سألاه لما علم في ذلك من المكروه على أحدهما فأعرضَ عن سؤالهما وأخذ في غيره، فقال لهما: لا يأتيكما طعامٌ ترزقانه في نومكما ({إِلاَّ نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ}) أي: بتفسيره في اليقظة ({قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُمَا}) أو لا يأتيكما في اليقظة طعامٌ ترزقانه وتأكلانه إلَّا أخبرتكما بقدره ولونه والوقت الَّذي يصل إليكما قبل أن يصل، وأيُّ طعامٍ أكلتم ومتى أكلتم وكم أكلتم قبل أن يأتيكما، وهذا مثل معجزة عيسى ◙ حيث قال: وأنبِّئكم بما تأكلون وما تدَّخرون في بيوتكم فقالا له: هذا من فعل العرافين والكهنة، فقال يوسف ◙: ما أنا بكاهنٍ.
          ({ذَلِكُمَا}) أي: التَّأويل والإخبار بالمغيبات ({مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي}) بالإلهام والوحي ولم أقله عن تكهُّنٍ وتنجّم، ثمَّ أعلمهما أنه مؤمنٌ، فقال: ({إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُمْ بِالآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ} [يوسف:37]) أي: دينهم وشريعتهم، يحتمل أن يكون كلاماً مبتدأ، وأن يكون تعليلاً / لسابقه؛ أي: علمني ذلك لأنِّي تركت ملَّة أولئك ({وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ} [يوسف:38]) وهي: الملَّة الحنيفيَّة وذكر الآباء ليعلمهما أنَّه من بيت النُّبوة ليقوي رغبتهما في الاستماع إليه، والمراد التَّرك ابتداءً، لا أنَّه كان فيه ثمَّ ترك، يقول: هجرت طريق الكفر والشِّرك وسلكت طريق آبائي المرسلين صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، وهكذا حال من سلك طريق الهدى، واتَّبع سبيل المرسلين، وأعرضَ عن الضَّالين، فإنَّه يهدي قلبه ويعلمه ما لم يكن يعلم ويجعله إماماً يقتدى به في الخير وداعياً إلى سبيل الرَّشاد.
          ({مَا كَانَ لَنَا}) أي: ما صحَّ لنا معاشر الأنبياء ({أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ}) أيّ شيءٍ كان ({ذَلِكَ}) أي: التَّوحيد والعلم ({مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَشْكُرُونَ} [يوسف:38]) فضل الله فيشركون به ولا ينتبهون، فأراهما دينه وعلمه وفطنته، ثمَّ دعاهما إلى الإسلام فأقبل عليهما وعلى أهل السِّجن، وكان بين أيديهم أصنامٌ يعبدونها من دون الله، فقال إلزاماً للحجَّة ({يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ} [يوسف:39]) جعلهما صاحبي السَّجن اتِّساعاً لكونهما فيه؛ أي: ساكنيه أو يا صاحبي فيه ({أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ}[يوسف:39]) أي: شتى متعدِّدة متساوية؛ أي: لا تضرُّ ولا تنفعُ.
          (وَقَالَ الْفُضَيْلُ) أي: ابن عياض (لِبَعْضِ الأَتْبَاعِ: يَا عَبْدَ اللَّهِ) وفي رواية أبي ذرٍّ: <وقال الفضيل...> إلى آخره وقع بعد قوله: {ارجع إلى ربِّك} [يوسف:50]، وعند كريمة عند قوله: {أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ} وهو الأليق، وعند غيرهما بعد قوله: الأعناب والدُّهن ((يا صاحبي السِّجن)) (أَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ {خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ} [يوسف:39]) الَّذي ذلَّ كلُّ شيءٍ لعزِّ جلاله وعظيمِ سلطانه، ولا يغالب ولا يشارك في الرُّبوبيَّة ({مَا تَعْبُدُونَ} [يوسف:40]) خطابٌ لهما ولمن كان على دينهما من أهلِ مصر ({مِنْ دُونِهِ}) أي: من دون الله ({إِلاَّ أَسْمَاءً}) لا حقيقة لها ({سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ}) آلهةً ثمَّ طفقتم تعبدونها، فكأنَّكم لا تعبدون إلَّا أسماء لا مسمَّياتها ({مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا}) أي: بتسميتها ({مِنْ سُلْطَانٍ}) أي: حجَّة وبرهان.
          ({إِنِ الْحُكْمُ}) في أمر العبادة والدِّين ({إِلاَّ لِلَّهِ أَمَرَ}) على لسان أنبيائه ({أَنْ لاَ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ}) / بيان لقوله: {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ} ({ذَلِكَ}) أي: الَّذي أدعوكم إليه من التَّوحيد وترك الشِّرك وإخلاص العمل هو ({الدِّينُ الْقَيِّمُ}) أي: الحقُّ المستقيم الَّذي أمر الله به، وأنزل الله به الحجَّة والبرهان ({وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ} [يوسف:40]) فلذا كان أكثرهم مشركين، ثمَّ فسَّر رؤياهما فقال: ({يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُمَا} [يوسف:41]) يعني: الشَّرابيّ ({فَيَسْقِي رَبَّهُ}) أي: سيِّده ({خَمْراً}) أي: كما كان يسقيه قبل ({وَأَمَّا الآخَرُ}) يعني: الخبَّاز ({فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْ رَأْسِهِ}) ولمَّا سمعا قول يوسف قالا: كذبنا ما رأينا شيئاً كنَّا نلعب. فقال يوسف ◙: ({قُضِيَ الأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ} [يوسف:41]) أي: فرغ الأمر الذي سألتماه ووجبَ حكم الله عليكما بالَّذي أخبرتكمَا فيه، فهو واقعٌ لا محالة، فإنَّ الرُّؤيا على رجلٍ طائرٍ ما لم تعبّر، فإن عُبّرتْ وقعت.
          وفي «مسند أبي يعلى الموصليّ» عن أنسٍ ☺ مرفوعاً: ((الرُّؤيا لأوّل عابرٍ)).
          ({وَقَالَ} [يوسف:42]) أي: يوسف ◙ عند ذلك ({لِلَّذِي ظَنَّ}) أي: يوسف ◙ ({أَنَّهُ نَاجٍ مِنْهُمَا}) وهو السَّاقي، وقيل: الظَّان يوسف ◙ إن كان تأويله عن اجتهادٍ، وإن كان عن الوحي فالظَّان الشَّرابيّ، أو الظَّن بمعنى اليقين، وما تقدَّم من قوله: {قُضِيَ الأمرُ الّذِي فيه تَسْتَفْتِيانِ} [يوسف:41] يقتضي اليقين ({اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ} [يوسف:42]) أي: اذكر قصَّتي عند سيِّدك، وهو المَلِك لعلَّه يخلِّصني من هذه الورطة.
          وقال أبو حيَّان: إنَّما قال يوسف للسَّاقي بذلك، ليتوصَّل إلى هدايته وإيمانه بالله، كما توصَّل إلى إيضاح الحقِّ للسَّاقي ورفيقه.
          ({فَأَنْسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ}) قيل: فأنسى الشَّيطان الشَّرابي أن يذكرَ يوسف للملك، وقيل: فأنسى يوسفَ ذكرَ الله حتَّى ابتغى الفرج من غيره واستعان بالمخلوق، وعند ابن جرير عن ابن عبَّاس ☻ قال: قال رسول الله صلعم : ((لو لم يقل _يعني: يوسف_ الَّذي قال: ما لبث في السِّجن طول ما لبث حتَّى يبتغي الفرج من عند غير الله)). قال القسطلاني: وهذا الحديث ضعيفٌ جدًّا، فإنَّ في إسناده سفيانَ بنَ وكيع، وهو ضعيفٌ، وإبراهيم بن يزيد الخوزي وهو أضعفُ من سفيان، فالصَّواب أنَّ الضَّمير / في قوله: {فَأَنْسَاهُ الشَّيْطَانُ} عائدٌ إلى النَّاجي، كما قاله مجاهد وغيره.
          ({فَلَبِثَ}) أي: يوسف ◙ ({فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ} [يوسف:42]) واختلف في معناه، فقال أبو عبيدة: ما بين الثَّلاثة إلى الخمسة، وقال مجاهدٌ: ما بين ثلاثٍ إلى سبع، وقال قتادة والأصمعي: ما بين الثَّلاثة إلى التِّسع. وقال ابن عبَّاس ☻ : ما دون العشرة، وقال وهبٌ: مكثَ يوسف ◙ سبعاً، وقال الضَّحاك عن ابن عبَّاس ☻ : ثنتي عشرة سنةً، وقيل: أربع عشرة سنة، ولمَّا دنا فرج يوسف ◙ رأى مَلِك وهو مصر الرّيان بن الوليد رؤيا عجيبة هالته.
          ({وَقَالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرَى} [يوسف:43]) في المنام ({سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ}) خرجن من نهرٍ يابسٍ ({يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ}) أي: سبع بقراتٍ ({عِجَافٌ}) أي: مهازيل فابتلَعَتْهنَّ فدخلنَ في بطونهنَّ فلم يُرَ منهنَّ شيء ({وَسَبْعَ سُنْبُلاَتٍ}) أي: وأرى سبعَ سنبلاتٍ ({خُضْرٍ}) قد انعقد حبُّها ({وَأُخَرَ}) أي: وسبعاً أُخر ({يَابِسَاتٍ}) قد احتصدت وأدركت، فالْتوت اليابسات على الخضر حتَّى غلبن عليهنَّ فاستعبرها، وجمع السَّحرة والكهنة والقافة والحازَة وقصَّها عليهم، فلم يجد فيهم من يحسن عبارتها. قيل: كان ابتداء بلاء يوسف ◙ في الرُّؤيا ثمَّ كان سبب نجاته أيضاً الرُّؤيا، فلمَّا دنا فرجه رأى الملك هذه الرُّؤيا الَّتي هالته، فجمع أعيانَ العلماء والحكماء من قومه، وقصَّ عليهم رؤياه.
          فقال: ({يَا أَيُّهَا الْمَلأُ أَفْتُونِي فِي رُؤْيَايَ}) أي: اعبروها ({إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ} [يوسف:43]) أي: كنتم عالمين بعبارة الرُّؤيا، واللام في للرُّؤيا للبيان ({قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلاَمٍ} [يوسف:44]) أي: هذا الَّذي رأيته أضغاث أحلامٍ؛ أي: أحلام مختلطةٌ مشتبهة أباطيل، والأضغاث جمع ضغث، وهو: الحزمةُ من أنواعِ الحشيش ({وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الأَحْلاَمِ بِعَالِمِينَ} [يوسف:44]) يعنون بالأحلام المنامات الباطلةِ؛ أي: ليس لها تأويلٌ، إنَّما التَّأويل للمنامات الصَّحيحة، واعترفوا بقصورِ علمهم، وأنَّهم ليسوا في تأويلِ الأحلام بنحارير. /
          ({وَقَالَ الَّذِي نَجَا} [يوسف:45]) من القتل ({مِنْهُمَا}) وهو الشَّرابيّ ({وَادَّكَرَ}) أي: تذكَّر حاجة يوسف وهو قوله: {اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ} [يوسف:42] (بَعْدَ أُمَّةٍ) أي: بعد حينٍ، وعن عكرمة: ((بعد قرنٍ))، وعن سعيد بن جبير: ((بعد سنين)) أي: قال للملك الَّذي جمعهم لذلك ({أَنَا أُنَبِّئُكُمْ} [يوسف:45]) أي: أخبركم ({بِتَأْوِيلِهِ}) ممّن عنده علمٌ بتعبير هذا المنام ({فَأَرْسِلُونِ} [يوسف:45]) أي: فابعثوني إليه لأسأله عنها، فأرسلوه إلى يوسف في السِّجن فأتاه، فقال: ({يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ} [يوسف:46]) أي: المبالغُ في الصِّدق والكثيرُ الصِّدق ({أَفْتِنَا فِي}) رؤيا ({سَبْعِ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعِ سُنْبُلاَتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ}) أي: إلى الملك ومن عنده ({لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ} [يوسف:46]) أي: تأويلَها، أو فضلَك أو مكانَك من العلم فيطلبوك ويخلصوك من محنتك، فذكر يوسف تعبيرها من غيرِ تعنيفه لذلك الفتى في نسيانه ما وصَّاه به ومن غير شرطٍ للخروجِ قبل ذلك، بل ({قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأْباً} [يوسف:47]) بسكون الهمزة، وقرأ حفصٌ وحدَه بفتحها لغتان في مصدر دأب يدأَب؛ أي: داوم على الشَّيء ولازمه وهو هاهنا نصبٌ على المصدر؛ أي: تدأبون دأباً، أو بمعنى دائبين على أن يكون حالاً من المخاطبين، أو ذوي دأبٍ، وقال الثَّعلبيّ: أي: كعادتكم.
          ({فَمَا حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ}) أي: اتركوه في سنبله، إنَّما قال ذلك ليبقى ولا يفسد، إذ ذلك أبقى له ومانع له من أكل السُّوس ({إِلاَّ قَلِيلاً مِمَّا تَأْكُلُونَ} [يوسف:47]) في تلك السِّنين، فعبر البقرات السِّمان بالسِّنين المخصبة، والسَّنابل الخضر بالزَّرع، ثمَّ أمرهم بما هو الصَّواب نصيحةً لهم ({ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ} [يوسف:48]) يعني: سبع سنين جدب وقحط ({يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ}) هو من الإسناد المجازي، جعل أكل أهلهنَّ مسنداً إليهنَّ ({إِلاَّ قَلِيلاً مِمَّا تُحْصِنُونَ} [يوسف:48]) تحرسون من الحراسة، وعند أبي عبيدة في ((المجاز)): ((تحرزون)) بزاي بدل السّين من الإحراز. وأخرج ابنُ أبي حاتم من طريق عليِّ بن أبي طلحة عن ابن عبَّاس ☻ : ((تحزنون)) بحاء مهملة ثمَّ زاي ونونين من الحزن.
          ({ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ} [يوسف:49]) أي: من بعد أربع عشرة سنةً / ({عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ}) من الغيث؛ أي: يمطرون، أو من الغوث، وهو الفرج، فهو في الأول من الثُّلاثي وفي الثَّاني من الرباعي تقول: غاثنا الله من الغيث، وأغاثنا من الغوث ({وَفِيهِ يَعْصِرُونَ} [يوسف:49]) أكثر المفسِّرين على أنَّ المعنى يعصرون العنب خمراً، والزَّيتون زيتاً، والسِّمسِمُ دُهناً.
          وقال أبو عبيدة: يعصرون ينجون من الجدب والكرب، العصر والعصرة النَّجاة والملجأ، وقيل: يعصرون يمطرون، دليله: {وَأَنْزَلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ} [النبأ:14]، والحاصل أنَّه ◙ تأوَّل البقرات السِّمان والسُّنبلات الخضر بسنين مخصبةٍ والعجاف واليابسات بسنين مجدبةٍ، ثمَّ بشَّرهم بعد الفراغ من تأويل الرُّؤيا بأنَّ العام الثَّامن يجيء مباركاً كثير الخير غزير النِّعم، وذلك من جهة الوحي، فرجعَ السَّاقي إلى المَلِك وأخبره بما أفتاه يوسف ◙ من تأويل رؤياه، دعاه الملك.
          ({وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ} [يوسف:50]) أي: بيوسف ◙ ({فَلَمَّا جَاءَهُ الرَّسُولُ}) أي: لمَّا جاء يوسفَ الرَّسولُ ليُخرجه من السِّجن وقال: أجب المَلِك، امتنع من الخروج ليتحقَّق الملك ورعيَّتُه براءةَ ساحته ونزاهتَه ممَّا نسب إليه من جهة امرأة العزيز، وأنَّ سجنَه لم يكن عن أمرٍ يقتضيه بل كان ظلماً وعدواناً ({قَالَ ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ}) أي: سيِّدك {فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ} [يوسف:50] الآية، وسقط في رواية أبي ذرٍّ من قوله: <{قَالَ أَحَدُهُمَا}...> إلى آخره وقال بعد قوله: {فَتَيَانِ}: <إلى قوله: {ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ}>.
          ({وَادَّكَرَ} [يوسف:45]) بالدّال المهملة، أشار بهذا إلى آخره إلى تفسير بعض الألفاظ الَّتي وقعت في الآيات المذكورة منها قوله: وادَّكر فقال: إنَّه (افْتَعَلَ مِنْ ذَكَرَ) يعني: أنَّ أصله ذكر _بالذال المعجمة_ فنقل إلى باب الافتعال فصار اذتكر ثمَّ قلبت التاء دالاً مهملة، فصار اذدكر ثمَّ قلبت الذال المعجمة دالاً مهملة، ثمَّ أدغمت الدّال في الدّال فصار ادَّكر. قال الزُّمخشري: هذا هو الفصيح، وعن الحسن بالذال المعجمة.
          ومنها قوله:
          ({أُمَّةٍ}) ففسَّرها بقوله: (قَرْنٍ) هو قول أبي عبيدة / قاله في تفسير سورة آل عمران، وقال في تفسير يوسف بعد حينٍ، وأخرجه الطَّبريّ بسندٍ جيدٍ عن ابن عبَّاس مثله ومن طريق سماك عن عكرمة قال: بعد حقبةٍ من الدَّهر، وأخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير: ((بعد سنين)).
          (وَتُقْرَأُ: ((أَمَهٍ))) بفتح الهمزة والميم المخفّفة وكسر الهاء المنوّنة، وفسَّره بقوله: (نِسْيَانٍ) أي: تذكَّر بعد أن كان نسي، وهذه القراءة نسبت في الشَّواذ إلى ابن عبَّاس ☻ وعكرمة والضَّحاك، يقال: رجلٌ مأموه؛ أي: ذاهب العقل.
          قال أبو عبيدة: قرئ: ((بعد أمه))؛ أي: بعد نسيان، تقول: أمهت آمه أمْها _بسكون الميم_ قال الشَّاعر:
أَمِهْتُ وَكُنْتُ لَا أَنْسَى حَدِيثًا
          وقال الطَّبريّ: روي عن جماعةٍ أنَّهم قرؤوا: ((بعد أمه))، ثمَّ ساق بسندٍ صحيحٍ عن ابن عبَّاس ☻ أنَّه كان يقرؤها: ((بعد أمه))، ويفسِّرها بعد نسيان، وساق مثله عن عكرمة والضَّحاك، ومن طريق مجاهدٍ نحوه، لكن قالها بسكون الميم.
          ومنها قوله: {يعصرون} أشار إلى تفسيره بقوله:
          (وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: {يَعْصِرُونَ}: الأَعْنَابَ وَالدُّهْنَ) وصله هكذا ابن أبي حاتم من طريق عليّ بن أبي طلحة عن ابن عبَّاس ☻ في قوله: {ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ} [يوسف:49]، قال: الأعنابَ والدُّهنَ، وفيه ردٌّ على أبي عُبيدة في قوله: إنَّه من العصرة، وهي النَّجاة، فمعنى قوله: ((يعصرون)) ينجون، ويؤيِّد قول ابن عبَّاس قوله في أوَّل القصَّة: {إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْراً} [يوسف:36] وقد اختلف في المراد به، فقال الأكثر: أطلق عصر الخمر باعتبار ما يؤول إليه وهو كقول الشَّاعر:
الْحَمْدُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْمَنَّانِ                     صَار الثَّرِيد فِي رُؤُوس الْقُضْبَانِ
          أي: السُّنبل، فسمِّي القمح ثريداً باعتبار ما يؤولُ إليه.
          وأخرج الطَّبريّ عن الضَّحاك قال: أهل عمان يسمُّون العنب: خمراً، وقال الأصمعيّ: سمعتُ معتمر بنَ سليمان يقول: لقيت أعرابيًّا معه سلّة عنبٍ، فقلت: ما معك؟ قال: خمر، وقرأ ابن مسعودٍ ☺: / (▬إنِّي أراني أعصر عنباً↨) أخرجه ابن أبي حاتمٍ بسندٍ حسنٍ، فكأنَّه أراد التَّفسير.
          وأخرج ابنُ أبي حاتمٍ من طريق عكرمة أنَّ السَّاقي قال ليوسف ◙: رأيت فيما يرى النَّائم أنِّي غرست حبّة فنبتت، فخرج فيها ثلاثة عناقيد فعصرتهن ثمَّ سقيت الملك، فقال: تمكث في السِّجن ثلاثاً ثمَّ تخرج فتسقيه؛ أي: على عادتك.
          ومنها قوله: (تَحْصِنُونَ) وقد فسَّره بقوله: (تَحْرُسُونَ) وقد مرَّ الكلام فيه.