إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري

حديث: والله لأن يلج أحدكم بيمينه في أهله آثم له عند الله

          6624- 6625- وبه قال: (حَدَّثَنِي) بالإفراد، ولأبي ذرٍّ: ”حَدَّثنا“ (إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ) هو ابنُ رَاهُوْيَه، كما جزم أبو نُعيم في «مستخرجه»، أو هو ابنُ نصر قال: (أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ) بنُ همَّام بن نافع، أحدُ الأعلام، قال: (أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ) بفتح الميمين، ابنُ راشد (عَنْ هَمَّامِ بْنِ مُنَبِّهٍ) الصَّنعانيِّ، أنَّه (قَالَ: هَذَا مَا حَدَّثَنَا أَبُو هُرَيْرَةَ) ☺ ، ولأبي ذرٍّ: ”به(1) أبو هريرة“ (عَنِ النَّبِيِّ صلعم ) أنَّه (قَالَ: نَحْنُ الآخِرُونَ) المتأخِّرون وجودًا في الدُّنيا (السَّابِقُونَ) الأمم (يَوْمَ القِيَامَةِ) حسابًا ودخولًا للجنَّة.
          (فَقَالَ) بالفاء، ولأبي ذرٍّ عن الكُشمِيهنيِّ: ”وقال“ (رَسُولُ اللهِ صلعم : وَاللهِ لأَنْ) بفتح اللام، وهي لتأكيدِ القسم (يَلَجَّ) بفتح التَّحتية واللام والجيم المشددة، من اللَّجاج، وهو الإصرارُ على الشَّيء مطلقًا، أي: لأنَّ يتمادى (أَحَدُكُمْ بِيَمِينِهِ) الَّذي حلفه (فِي) أمرٍ بسبب (أَهْلِهِ) وهم يتضرَّرون بعدمِ حنثهِ ولم يكن معصيةً (آثَمُ لَهُ) بفتح الهمزة الممدودة والمثلثة، أشدُّ إثمًا للحالفِ المتمادِي (عِنْدَ اللهِ مِنْ أَنْ) يحنثَ و(يُعْطِيَ كَفَّارَتَهُ الَّتِي افْتَرَضَـ)ـها(2) (اللهُ) ╡ (عَلَيْهِ) فينبغِي له أنْ يحنثَ ويفعلَ ذلك ويكفِّر، فإن تورَّع عن ارتكابِ الحنثِ خشيةَ الإثم أخطأَ بإدامة الضَّرر على أهلهِ؛ لأنَّ الإثمَ في اللَّجاج‼ أكثر منه في الحنثِ على زعمهِ أو توهّمهِ.
          وقال ابنُ المُنَيِّر: وهذا من جوامعِ الكلمِ وبدائعهِ، ووجهه: أنَّه إنَّما تحرَّجوا من الحنثِ والحلف بعدَ الوعد المؤكَّد باليمين، وكان القياسُ يقتضِي أن يقالَ: لجاجُ أحدِكُم(3) آثمُ له من الحنثِ، ولكن النَّبيَّ صلعم عدلَ عن ذلكِ إلى ما هو لازم الحنثِ وهو الكفَّارة؛ لأنَّ المقابلة بينها وبين اللَّجاج أفحمُ للخصمِ وأدلُّ على(4) سوء نظرِ المتنطِّع الَّذي اعتقد أنَّه تحرَّج من الإثمِ، وإنَّما تحرَّج من الطَّاعة والصَّدقة والإحسان، وكلّها تجتمعُ في الكفَّارة، ولهذا عظَّم شأنها بقولهِ: «الَّتي افترضَ اللهُ عليه»، وإذا صحَّ أنَّ الكفَّارة خيرٌ له ومِن لوازمِها الحنث صحَّ أنَّ الحنث خيرٌ له(5)، و«لأنْ يلجَّ أحدُكم بيمينِهِ في أهلِهِ» أي: لأن يصمِّم(6) أحدكم في قطيعةِ أهله ورحمهِ بسبب يمينهِ الَّتي حلفَها على تركِ برِّهم آثمُ عند الله مِن كذا. انتهى.
          وفي هذا الحديث(7): أنَّ الحنْثَ في اليمينِ أفضلُ من التَّمادي إذا كانَ في الحنثِ مصلحة، ويختلفُ باختلافِ حُكم المحلوفِ عليه، فإن حلفَ على ارتكابِ معصيةٍ كترك واجبٍ عينيٍّ، وفعلِ حرامٍ، عصى بحلفهِ ولزمه حنثٌ وكفَّارة إذا لم يكن له طريقٌ سواه، وإلَّا فلا، كما لو حلفَ لا ينفق على زوجتهِ، فإنَّ(8) له طريقًا بأنْ يُعطيها من صداقها أو يُقرضها ثمَّ يبرئها؛ لأنَّ / الغرض حاصلٌ مع بقاءِ التَّعظيم، وإن(9) حلفَ على تركِ مباحٍ أو فعلهِ كدخولِ دارٍ وأكلِ طعامٍ(10) ولبس ثوبٍ، سُنَّ تركُ حنثهِ لِمَا فيه من تعظيمِ اسم الله. نعم إنْ تعلَّق بتركه أو فعلهِ غرض دينيّ كأن حلفَ أن لا يمسَّ(11) طِيْبًا، ولا يلبس ناعمًا، فقيل: يمين مكروهةٌ(12)، وقيل: يمين طاعة اتِّباعًا للسلف في خشونةِ العيش، وقيل: يختلفُ باختلافِ أحوال النَّاس وقصودِهم وفراغِهم(13). قال الرَّافعيُّ والنَّوويُّ: وهو الأصوبُ، وإن(14) حلف على تركِ مندوبٍ كسنَّة ظهرٍ، أو فعل مكروهٍ كالالتفاتِ في الصَّلاة، سُنَّ حنثه، وعليه الكفَّارة، أو على فعلِ مندوبٍ، أو تركِ مكروهٍ، كُره حنثهُ، وعليه بالحنثِ كفَّارة.
          ومناسبة الحديث لِمَا ترجم له في(15) قولهِ: «لأنَّ يلجَّ...» إلى آخره، وقولهِ: «نحن الآخرون السَّابقون يوم القيامة» طرفٌ من حديثٍ سبق من غيرِ هذا الوجه عن أبي هُريرة في أوَّل «كتاب الجمعة» [خ¦876] وقد كرَّر البخاريُّ هذا القدر في بعضِ الأحاديث الَّتي أخرجها من صحيفةِ همَّام من رواية مَعمر عنه، وهو أوَّل حديث في النُّسخة، وكان همَّام يعطفُ عليه بقيَّة الأحاديث بقولهِ: «وقال رسولُ الله صلعم ».


[1] في (د): «عن».
[2] «ها»: ليست في (د).
[3] في (ص): «أحدهم».
[4] في (د): «عن».
[5] في (د) زيادة: «من التصميم».
[6] في (د) و(ص): «في أهله خير له من أن يصمّم».
[7] في (د): «وفي الحديث».
[8] في (ص) زيادة: «كان».
[9] في (د) و(ص) و(ع): «أو».
[10] في (ص): «حرام».
[11] في (ص): «يأكل».
[12] في (د): «مكروه».
[13] قال الشيخ قطَّة ⌂ : كذا في أغلب النسخ، وفي بعضها: «وقصورهم وفراغهم» وعلى كلٍّ فهو محتاج للتأمل.
[14] في (د) و(ص) و(ع): «أو».
[15] في (د): «من».