إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري

باب قول الله تعالى: {إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم}

          ░17▒ (باب قَوْلِ اللهِ تَعَالَى) في سورةِ آل عمران: ({إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ}) يستبدلونَ ({بِعَهْدِ اللّهِ}) بما عاهدوه عليه من الإيمانِ بالرَّسول ({وَأَيْمَانِهِمْ}) وبما حلفُوا به من قولهِم: لنؤمنَنَّ(1) به ولننصرَنَّه ({ثَمَنًا قَلِيلاً}) متاعَ الدُّنيا ({أُوْلَـئِكَ لاَ خَلاَقَ لَهُمْ}) لا نصيبَ لهم ({فِي الآخِرَةِ}) ونعيمِها، وهذا مشروطٌ بالإجماعِ بعدم التَّوبة، فإن تابَ سقطَ الوعيدُ ({وَلاَ يُكَلِّمُهُمُ اللّهُ}) كلامًا يسرُّهم ({وَلاَ يَنظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ}) نظرَ رحمةٍ، ولا ينيلهم خيرًا، وليس المراد منه النَّظر بتقليب الحدقَةِ إلى المرئيِّ(2)، تعالى الله عن ذلك ({وَلاَ يُزَكِّيهِمْ}) ولا يطهِّرَهم من دنسِ الذُّنوب بالمغفرةِ، أو لا(3) يُثْني عليهم كمَا يُثْني على أوليائهِ، كثناءِ المزكِّي للشَّاهد، والتَّزكية من اللهِ قد تكونُ على ألسِنَة الملائكةِ، كما قال تعالى: {وَالمَلاَئِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِم مِّن كُلِّ بَابٍ. سَلاَمٌ عَلَيْكُم بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ}[الرعد:23_24] وقد تكون بغير واسطةٍ إمَّا‼ في الدُّنيا، كما قال تعالى: {التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ}[التوبة:112] وإمَّا في الآخرةِ، كما قال تعالى: {سَلَامٌ قَوْلًا مِن رَّبٍّ رَّحِيمٍ}[يس:58].
          ثمَّ لمَّا بيَّن تعالى حِرْمانهم ممَّا(4) ذكرَ من الثَّواب بين كونهمْ في العقابِ، فقال: ({وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}[آل عمران:77]) مؤلمٌ، كذا في روايةِ كريمةَ سياق الآية إلى آخرِها، وقال في رواية أبي ذرٍّ: ”{إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللّهِ وَأَيْمَانِهِمْ} الاية[آل عمران:77]“ واستفيدَ من الآية: أنَّ العهدَ غير اليمين؛ لعطفِ العهد عليهِ.
          (وَقولهِ) ولأبي ذرٍّ: ”وقولِ الله(5)“ (جَلَّ ذِكْرُهُ: {وَلاَ تَجْعَلُواْ اللّهَ عُرْضَةً لِّأَيْمَانِكُمْ}) فُعْلة بمعنى المَفْعولة(6) كالقُبْضة والغُرْفة، أي: لا تجعلوهُ مُعَرَّضًا للحلفِ، من قولهِم: فلانٌ عُرْضة لكذا، أي: مُعَرَّض. قال كعب:
مِنْ كُلِّ نَضَّاخَةِ الذِّفْرَى إِذَا عَرِقَتْ                     عُرْضَتُهَا طَامِسُ الأَعْلَامِ مَجْهُولُ
وقال حسَّان:
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .                     هُمُ الأَنْصَارُ عُرْضَتُهَا اللِّقَاءُ
وهما بمعنى مُعْرَّضٌ لكذا، أو اسمٌ لِمَا تَعْرِضُه على الشَّيء، فيكون مِنْ عَرَض العودَ على الإناءِ، فيعترضُ دونَه ويصيرُ حاجزًا ومانعًا، والمعنى على هذا النَّهي أن يحلفُوا بالله على أنَّهم لا يبرُّون ولا يتَّقون، ويقولون: لا نقدرُ نفعلُ ذلك لأجلِ حلفنَا، أو من العرضَةِ وهي القوَّة والشِّدَّة، يقال: جملٌ عُرْضة للسَّفَر، أي: قويٌّ عليه. وقال الزُّبير:
فَهَذِي لأَيَّامِ الحُرُوبِ وَهَذِهِ(7)                     لِلَهْوِي وَهَذِي عُرْضَةٌ لارْتِحَالِنَا
أي: قوَّةٌ وعُدَّةٌ، أي: لا تجعلُوا اليمين بالله قوَّةً لأنفسِكُم في الامتناعِ من البرِّ، وقولهِ: ({أَن تَبَرُّواْ وَتَتَّقُواْ وَتُصْلِحُواْ بَيْنَ النَّاسِ}) عطفُ بيانٍ {لِّأَيْمَانِكُمْ} أي: للأمورِ المحلوفِ عليها الَّتي هي البرُّ والتَّقوى والإصلاحُ بين النَّاس، واللَّام تتعلَّق بالفعلِ، أي: ولا تجعلوا الله لأيمانِكُم(8) برزخًا، ويجوزُ أن تكون اللَّام تعليليَّة ويتعلَّق {تَبَرُّواْ } بالفعلِ أو بالعُرْضة، أي: ولا تجعلُوا الله لأجلِ أيمانِكُم عُرْضة لأنَّ تبرُّوا، وفي ذلكَ نهيٌّ عن الجَرَاءة على اللهِ بكثرةِ الحلفِ به، وذلك لأنَّه(9) مِن أكثرَ ذكرَ شيءٍ في معنًى مِن المعَاني، فقد جعلَه عُرْضة له، يقولُ الرَّجل: قد جعلتَنِي عُرْضة للومِكَ. قال الشَّاعر:
وَلَا تَجْعَلِيْنِي عُرْضَةً لِلَّوَائِمِ
وقد ذمَّ الله من أكثر الحلف بقولهِ: {وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَّهِينٍ}[القلم:10] وقال تعالى: {وَاحْفَظُواْ أَيْمَانَكُمْ}[المائدة:89] وكان الخَلَفُ يُمدَحون بالإقلالِ من الحلف، والحكمةُ في الأمرِ بتقليل الأيمانِ: أنَّ من حلفَ في كلِّ قليلٍ وكثيرٍ بالله انطلقَ لسانه بذلكَ ولا يبقى لليمين في قلبهِ وقع، فلا يُؤمَن من إقدامهِ على الأيمانِ الكاذبةِ، فيختلُّ ما هو الغرض الأصليُّ من اليمين، وأيضًا كلَّما كان الإنسان أكثرَ تعظيمًا لله تعالى كانَ أكمل في العبوديَّة، ومن كمالِ التَّعظيم أن يكونَ ذِكرُ الله تعالى أجلَّ وأعظمَ(10) وأَعلى عنده من أن يستشهدَ به‼ في غرضٍ من الأغراضِ الدُّنيويَّة ({وَاللّهُ سَمِيعٌ}) لأيمانكُم ({عَلِيمٌ}[البقرة:224]) بنيَّاتكم، وسقط لأبي ذرٍّ من قولهِ: «{أَن تَبَرُّواْ}...» إلى آخر الآيةِ.
          (وَقولهِ جَلَّ / ذِكْرُهُ: {وَلاَ تَشْتَرُواْ بِعَهْدِ اللّهِ ثَمَنًا قَلِيلاً}) عَرَضًا من الدُّنيا يسيرًا ({إِنَّمَا عِندَ اللّهِ}) من ثوابِ الآخرة ({هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ}[النحل:95]) وقولهِ تعالى: ({وَأَوْفُواْ بِعَهْدِ اللّهِ إِذَا عَاهَدتُّمْ}) هي البيعةُ لرسولِ الله صلعم على الإسلامِ {إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللهَ}[الفتح:10] ({وَلاَ تَنقُضُواْ الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا}) بعد توثيقِها باسمِ الله ({وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً}[النحل:91]) شاهدًا ورقيبًا، وفي رواية أبي ذرٍّ: ”{وَلاَ تَشْتَرُواْ بِعَهْدِ اللّهِ ثَمَنًا قَلِيلاً}[النحل:95] إلى قولهِ: {وَلاَ تَنقُضُواْ الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً}“[النحل:91] قال في «الفتح»: وسقطَ ذلك لجميعِهم، ووقع فيه تقديمٌ وتأخيرٌ، والصَّواب قوله: {وَلاَ تَنقُضُواْ الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً} إلى قولهِ: {آ وَلاَ تَشْتَرُواْ بِعَهْدِ اللّهِ ثَمَنًا قَلِيلاً}[النحل:95] ووقع في رواية النَّسفيِّ بعد قولهِ ╡: {عُرْضَةً لِّأَيْمَانِكُمْ} ما نصُّه: ”وقوله: {وَلاَ تَشْتَرُواْ بِعَهْدِ اللّهِ ثَمَنًا قَلِيلاً} الآية(11)، وقولهِ: {وَأَوْفُواْ بِعَهْدِ اللّهِ إِذَا عَاهَدتُّمْ} الآيةَ“.


[1] في (د): «والله لنؤمنن».
[2] في (د): «المرء».
[3] في (د): «ولا».
[4] في (د): «بما».
[5] في (س) زيادة: «تعالى».
[6] في (ع) و(ص) و(د): «لمفعول».
[7] في (د): «وهذي».
[8] في (د): «عرضة لأيمانكم».
[9] في (د): «لأن».
[10] «وأعظم»: ليست في (ص) و(ع) و(د).
[11] قوله: «ووقع في رواية النسفي بعد قولهِ ╡: {عُرْضَةً لِّأَيْمَانِكُمْ} ما نصه: وقولهِ: {وَلاَ تَشْتَرُواْ بِعَهْدِ اللّهِ ثَمَنًا قَلِيلاً} الآية»: ليس في (ع).