إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري

باب اليمين الغموس

          ░16▒ (باب) حكم (اليَمِينِ الغَمُوْسِ) بفتح الغين المعجمة وضم الميم وبعد الواو الساكنة سين مهملة، فعول بمعنى فاعل؛ لأنَّها تغمسُ صاحبها في الإثمِ، ثمَّ في النَّار، وقول الله تعالى في سورة النَّحل: ({وَلاَ تَتَّخِذُواْ أَيْمَانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ}) {دَخَلاً} مفعولٌ ثانٍ لـ {تَتَّخِذُواْ }، والدَّخل: الفسادُ والدَّغل، وقال الواحديُّ: الغشُّ والخيانةُ، وقيل: ما أُدخل في الشَّيء على فسادٍ ({فَتَزِلَّ قَدَمٌ}) أي: فتزلَّ أقدامُكم عن محجَّة الإسلام ({بَعْدَ ثُبُوتِهَا وَتَذُوقُواْ الْسُّوءَ}) في الدُّنيا ({بِمَا صَدَدتُّمْ}) بصدودِكُم ({عَن سَبِيلِ اللّهِ}) وخروجكُم عن الدِّين ({وَلَكُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ}[النحل:94]) في الآخرةِ. قال في «الكشاف»: وحِّدتِ القدمُ ونُكِّرت؛ لاستعظامِ أن تزل قدَمٌ واحدةٌ عن طريقِ الحقِّ بعد أن ثبتتْ عليه فكيفَ بأقدامٍ كثيرةٍ؟ قال أبو حيَّان: الجمعُ تارةً يُلحظ فيه المجموع من حيثُ هو مجموعٌ، وتارةً يُلحظ فيه اعتبار كلِّ فردٍ فردٍ، فإذا لوحظَ فيه المجموع كان الإسناد معتبرًا فيه الجمعيَّة، وإذا لوحظ فيه كلُّ فردٍ فردٍ كان الإسنادُ مطابقًا للفظ الجمعِ كثيرًا، فيجمع ما أسندَ إليه ومُطابقًا لكلِّ فردٍ فردٍ، فيفردُ كقولهِ(1) تعالى: {وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَآتَتْ}[يوسف:31] أفردَ {مُتَّكَأً} لِمَا كان لوحظِ في قولهِ: {لَهُنَّ} معنى لكلِّ واحدةٍ، ولو جاء مرادًا به الجمعيَّة، أو على الكثيرِ في الوجهِ الثَّاني لجمع المتَّكأ، وعلى هذا المعنى يحملُ قول الشَّاعر:
فَإِنِّي رَأَيْتُ الضَّامِرِين مَتَاعُهُمْ                     يَمُوتُ وَيَفْنَى فَارْضَخِي مِنْ وِعَائِيَا
أي: رأيتُ كلَّ ضامرٍ، ولذلك أفردَ الضَّمير في «يموت» و«يفنى» ولمَّا كان المعنى لا يتَّخذ كلُّ واحدٍ واحد(2) منكم جاء {فَتَزِلَّ قَدَمٌ} مُرَاعاة لهذا المعنى، ثمَّ قال: {وَتَذُوقُواْ}(3) مراعاةً للمجموعِ، أو للفظِ الجمع على الوجه الكثير إذا قلنا: إنَّ الإسناد(4) لكلِّ فردٍ فردٍ، فتكون الآية قد تعرَّضت للنَّهي عن اتِّخاذ الأيمان دَخَلًا باعتبار المجموع، وباعتبارِ كلِّ فردٍ فردٍ، ودلَّ على ذلك بإفراد {قَدَمٌ} وبجمع الضَّمير في {وَتَذُوقُواْ}.
          وتعقَّبه تلميذُه شهاب الدِّين السَّمين فقال: بهذا التَّقرير(5) الَّذي ذكرهُ يفوتُ المعنى الجَزْل الَّذي اقتنصَه‼(6) الزَّمخشريُّ من تنكير {قَدَمٌ} وإفرادها، وأمَّا البيت المذكور فإنَّ النَّحويِّين خرَّجوه على أنَّ المعنى: يموتُ مَن ثمَّ ومَن ذُكِر، فأفرد الضَّمير لذلك لا لِمَا ذُكر. انتهى.
          ولم يذكرْ في غير(7) رواية أبي ذرٍّ الآية كلّها بل إلى قولهِ: ”{بَعْدَ ثُبُوتِهَا}“ كذا في الفرعِ وأصلهِ، وقال(8) في «الفتح»: وساقَ في روايةِ كريمة إلى: ”{عَظِيمٌ}“.
          (دَخَلًا) قال قتادةُ: أي(9): (مَكْرًا وَخِيَانَةً) أخرجه عبد الرَّزَّاق.
          ومناسبة الآية لليمين الغَموس ورودُ الوعيد على من حلفَ كاذبًا متعمِّدًا.


[1] في (ص): «لقولهِ».
[2] «واحد»: ليست في (د).
[3] في (س) زيادة: «{الْسُّوءَ}».
[4] في (د): «الإنسان». المثبت موافق لما في البحر.
[5] في (د): «التقدير».
[6] في (ص): «انتقصه».
[7] «غير»: ليست في (ع) و(د).
[8] في (د): «قال».
[9] «أي»: ليست في (د).