إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري

حديث: سددوا وقاربوا وأبشروا فإنه لا يدخل أحدًا الجنة عمله

          6467- وبه قال: (حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللهِ) المدينيُّ قال: (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الزِّبْرِقَانِ) بكسر الزاي والراء بينهما موحدة ساكنة وبعد القاف ألف فنون، الأهوازيُّ أبو همَّام، وثَّقه الدَّارقطنيُّ وابن المدينيِّ، وليس له في البخاريِّ سوى هذا الحديث الواحد وقد توبع فيه، قال: (حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ) المدنيُّ (عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ) بن عوف (عَنْ عَائِشَةَ) ♦ (عَنِ النَّبِيِّ صلعم ) أنَّه (قَالَ: سَدِّدُوا) أي: اقصدوا السَّداد وهو الصَّواب (وَقَارِبُوا) أي(1): اقصدوا الأمور الَّتي لا غُلُوَّ فيها ولا تقصير (وَأَبْشِرُوا) بالثَّوابِ على العملِ وإن قلَّ، وهمزة «أبشروا» قطع (فَإِنَّهُ لَا يُدْخِلُ) بضم التَّحتية وكسر المعجمة (أَحَدًا الجَنَّةَ عَمَلُهُ، قَالُوا: وَلَا أَنْتَ يَا رَسُولَ اللهِ قَالَ: وَلَا أَنَا إِلَّا أَنْ يَتَغَمَّدَنِي اللهُ بِمَغْفِرَةٍ) منه (وَرَحْمَةٍ) قال الرَّافعيُّ: فيه أنَّ العاملَ لا ينبغي أن يتَّكل على عملهِ في طلب النَّجاةِ، ونيل الدَّرجات؛ لأنَّه إنَّما عملَ بتوفيقِ الله، وإنَّما تركَ المعصيةَ بعصمةِ الله، فكلُّ ذلك بفضلهِ ورحمتهِ.
          واستُشكلَ قوله: «لن يُدخِلَ أحدًا الجنَّة عملُه» مع قوله تعالى: {وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ}[الزخرف:72] وأُجيب بأنَّ أصل الدُّخول إنَّما هو برحمةِ الله، واقتسامُ المنازل فيها بالأعمال، فإنَّ درجاتِ الجنَّة متفاوتةٌ بحسب تفاوتِ الأعمال، فإن قلتَ: قوله تعالى: {سَلامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُواْ الْجَنَّةَ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ}[النحل:32] مصرِّحٌ بأنَّ دخولَ الجنَّة أيضًا بالأعمال؟ أُجيب بأنَّه لفظٌ مجملٌ بيَّنه الحديث، والتَّقدير: ادخلُوا منازلَ الجنَّة وقصورَها بما كنتُم تعملون، فليس المراد بذلك أصل الدُّخول، وفي «كتاب المواهب اللَّدنيَّة بالمنحِ المحمَّدية» مزيدٌ لذلك، والله الموفِّق والمعين.
          (قَالَ) عليُّ بن عبد الله المدينيُّ: (أَظُنُّهُ عَنْ أَبِي النَّضْرِ) بالنون المفتوحة والضاد المعجمة الساكنة، سالمُ بن أبي أميَّة المدنيُّ التَّيميُّ (عَنْ أَبِي سَلَمَةَ) بن عبد الرَّحمن (عَنْ عَائِشَةَ) ♦ ، وكأنَّ ابنَ المدينيِّ جوَّز أن يكون موسى بن عقبةَ لم يسمعْ هذا الحديث من أبي سلمةَ، وأنَّ بينهمَا فيه‼ واسطة، وهو أبو النَّضر، بخلافِ الطَّريق الأولى فإنَّها بلا واسطةٍ، لكن ظهرَ من وجهٍ آخر أن لا واسطةَ، ويدلُّ له قوله:
          (وَقَالَ عَفَّانُ) بن مسلمٍ الصَّفَّار، أي: فيما رواهُ عنه المؤلِّف مذاكرةً (حَدَّثَنَا وُهَيْبٌ) بضم الواو وفتح الهاء، ابن خالد (عَنْ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ) أنَّه (قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا سَلَمَةَ) بن عبد الرَّحمن، فصرَّح وهيب عن موسى / بالسَّماع بقوله: «سمعت أبا سلمة» وهذا هو النُّكتة في إيرادِ هذه الرِّواية المعلَّقة، وهي موصولةٌ عند أحمد في «مسنده» قال: حدَّثنا عفان بسنده (عَنْ عَائِشَةَ) ♦ (عَنِ النَّبِيِّ صلعم ) أنَّه قال: (سَدِّدُوا وَأَبْشِرُوا) بالجنَّة. قال ابن حزمٍ: معنى الأمر بالسَّداد أنَّه ╕ أشارَ بذلك إلى أنَّه بُعث ميسِّرًا(2) مسهِّلًا، فأمر أمَّته بأن يقتصدوا في الأمورِ؛ لأنَّ ذلك يقتضِي الاستدامةَ عادةً، وفي حديثِ أبي هريرة ☺ عند(3) ابن حبَّان أنَّه صلعم مرَّ على رهطٍ من أصحابه وهم يضحكونَ فقال: «لَو تعلمُونَ ما أعلمُ لضحِكتُم قليلًا ولبكيتُمْ كثيرًا» فأتاهُ جبريلُ: فقال: إنَّ ربَّك يقول لك: لا تُقَنِّط عبادِي، فرجعَ إليهم فقال: «سدِّدُوا وقَارِبُوا» فهذا يحتملُ أن يكون سببًا لقوله: «سدِّدوا...» إلى آخره.
          (وَقَالَ مُجَاهِدٌ) هو ابنُ جبر: (سَدَادًا) بفتح السين المهملة، القولُ المعتدلُ(4) الكافي، كذا عند الفريابيِّ(5) والطَّبريِّ(6) من طريقِ أبي نَجيحٍ، عن مجاهدٍ في قوله تعالى: ({قَوْلاً سَدِيدًا}[النساء:9]) وعند الطَّبريِّ عن قتادة: {سَدِيدًا} عدلًا؛ يعني: في منطقه، وفي عملهِ. وعند ابنِ أبي حاتم، عن الحسن في قوله(7): (سَدِيدًا) قال: (صِدْقًا) وهذا ساقطٌ هنا لأبي ذرٍّ. نعم ثبتَ في روايةِ الحَمُّويي والكُشميهنيِّ عقبَ قوله: «قال: أظنُّه عن(8) أبي النَّضر، عن أبي سلمةَ، عن عائشةَ»: بلفظ ”وقال مجاهدٌ: {قَوْلاً سَدِيدًا} وسَدَادًا: صِدْقًا“.


[1] «أي» ليست في (د).
[2] في (ع): «مبشرًا».
[3] في (د): «عن».
[4] في (د) و(ص): «العدل».
[5] في (د): «كذا للفريابي».
[6] في غير (د): «والطبراني» وهو تصحيف.
[7] في (د): «عن الحسن قوله».
[8] في (د): «عند».