إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري

حديث: من قتل قتيلًا له عليه بينة فله سلبه

          3142- وبه قال: (حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ مَسْلَمَةَ، عَنْ مَالِكٍ) الإمام (عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ) الأنصاريِّ (عَنِ ابْنِ أَفْلَحَ) هو عمرو(1) بن كثير بن أفلح بالفاء والحاء المُهمَلة (عَنْ أَبِي مُحَمَّدٍ) نافعٍ (مَوْلَى أَبِي قَتَادَةَ، عَنْ أَبِي قَتَادَةَ) الحارث بن ربعيٍّ الأنصاريِّ ( ☺ ) أنَّه (قَالَ: خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللهِ صلعم عَامَ حُنَيْنٍ) بالحاء المُهمَلة والنُّون مصروفًا، وادٍ بينه وبين مكَّة ثلاثة أميالٍ، وكان في السَّنة الثَّامنة (فَلَمَّا التَقَيْنَا) أي: مع العدوِّ (كَانَتْ لِلْمُسْلِمِينَ جَوْلَةٌ) بالجيم، أي: تقدُّمٌ وتأخُّرٌ، وعبَّر بذلك احترازًا عن لفظ الهزيمة، وكانت هذه الجولة في بعض الجيش لا في رسول الله صلعم ومن حوله (فَرَأَيْتُ رَجُلًا مِنَ المُشْرِكِينَ عَلَا رَجُلًا مِنَ المُسْلِمِينَ) أي: ظهر عليه وأشرف على قتله، أو صرعه وجلس عليه، والرَّجلان لم يُسمَّيا (فَاسْتَدَرْتُ) من الاستدارة، ولأبي ذرٍّ عن الحَمُّويي والمُستملي: ”فاستدبرت“ من الاستدبار (حَتَّى أَتَيْتُهُ مِنْ وَرَائِهِ حَتَّى ضَرَبْتُهُ بِالسَّيْفِ عَلَى حَبْلِ عَاتِقِهِ) بفتح الحاء المُهمَلة وسكون المُوحَّدة، عرقٌ، أو عصبٌ عند موضع الرِّداء من العنق، أو ما بين العنق والمنكب (فَأَقْبَلَ عَلَيَّ فَضَمَّنِي ضَمَّةً وَجَدْتُ مِنْهَا رِيحَ المَوْتِ) استعارةً عن أثره، أي: وجدت منه(2) شدَّةً كشدَّة الموت (ثُمَّ أَدْرَكَهُ المَوْتُ فَأَرْسَلَنِي، فَلَحِقْتُ عُمَرَ بْنَ الخَطَّابِ) ☺ (فَقُلْتُ: مَا بَالُ النَّاسِ؟) أي: منهزمين (قَالَ: أَمْرُ اللهِ) أي: قضاؤه، أو المراد: ما حال النَّاس / بعد الانهزام؟ فقال: أمر الله غالبٌ والعاقبة للمتَّقين (ثُمَّ إِنَّ النَّاسَ رَجَعُوا) أي: ثمَّ إنَّ المسلمين رجعوا بعد الهزيمة، وعلى الثَّاني: رجعوا بعد انهزام المشركين (وَجَلَسَ النَّبِيُّ صلعم فَقَالَ: مَنْ قَتَلَ قَتِيلًا لَهُ عَلَيْهِ بَيِّنَةٌ فَلَهُ سَلَبُهُ) قال أبو قتادة(3): (فَقُمْتُ فَقُلْتُ: مَنْ يَشْهَدُ لِي؟) أي: بقتل ذاك الرَّجل (ثُمَّ جَلَسْتُ، ثُمَّ قَالَ) ╕ ‼: (مَنْ) ولابن عساكر: ”ثمَّ قال الثَّانية مثله: مَنْ“ (قَتَلَ قَتِيلًا لَهُ عَلَيْهِ بَيِّنَةٌ فَلَهُ سَلَبُهُ) أوقع القتل على المقتول باعتبار مآله؛ كقوله تعالى: {أَعْصِرُ خَمْرًا}[يوسف:36] (فَقُمْتُ فَقُلْتُ: مَنْ يَشْهَدُ لِي؟ ثُمَّ جَلَسْتُ، ثُمَّ قَالَ الثَّالِثَةَ مِثْلَهُ فَقُمْتُ، فَقَالَ رَسُوْلُ اللهِ صلعم : مَا لَكَ يَا أَبَا قَتَادَةَ؟ فَاقْتَصَصْتُ عَلَيْهِ القِصَّةَ، فَقَالَ رَجُلٌ): لم يُسمَّ كذا قال في «الفتح»، وقال في مقدِّمته: ذكر الواقديُّ أنَّ الَّذي شهد له بالسَّلَب هو أسود بن خزاعيٍّ الأسلميُّ، والَّذي أخذ السَّلَب وقع في روايةٍ أخرى عند المصنِّف [خ¦4322] أنَّه من قريشٍ، كذا رأيته فليُتأمَّل. فإنَّ سياق الحديث يقتضي أنَّهما واحدٌ (صَدَقَ يَا رَسُولَ اللهِ، وَسَلَبُهُ عِنْدِي، فَأَرْضِهِ) بقطع الهمزة وكسر الهاء (عَنِّي، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ ☺ : لَاهَا اللهِ) بوصل الهمزة وقطعها(4)، وكلاهما مع إثبات ألف «ها» وحذفها كما في «القاموس» و«المغني»(5) وغيرهما، فهي أربعةٌ: النُّطق بلامٍ بعدها التَّنبيه من غير ألفٍ ولا همزةٍ، والثَّاني: بألفٍ من غير همزٍ، والثَّالث: بثبوت الألف وقطع الجلالة، والرَّابع: بحذف الألف وثبوت همزة القطع، والمشهور في الرِّواية: الأوَّل والثَّالث، وفي هذا(6) _كما قال ابن مالكٍ_: شاهدٌ على جواز الاستغناء عن واو القَسَم بحرف التَّنبيه، قال: ولا يكون ذلك إلَّا مع «الله» أي: لم يُسمَع: «لاها الرَّحمن» وأمَّا لفظ الجلالة هنا؛ فجُرَّ لأنَّ «ها» التَّنبيه عوضٌ عن واو القَسَم. وقال ابن مالكٍ: ليست عوضًا عنها، وإن جُرَّ ما بعدها بمُقدَّرٍ لم يُلفَظ به، كما أنَّ نصب المضارع بعد الفاء ونحوه بمُقدَّرٍ، و«لا» للنَّفي، والمعنى: لا والله (إِذًا لَا يَعْمِدُ) بكسر الميم، أي: لا يقصد النَّبيُّ صلعم (إِلَى أَسَدٍ) أي: إلى رجلٍ كأنَّه في الشَّجاعة أسدٌ (مِنْ أُسُدِ اللهِ) بضمِّ الهمزة والسِّين (يُقَاتِلُ عَنِ اللهِ وَرَسُولِهِ صلعم ) أي: صدر قتاله عن رضا الله ورسوله، أي: بسببهما كقوله تعالى: {وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي}[الكهف:82] أو المعنى: يقاتل ذابًّا عن دين الله أعداءَ الله، ناصرًا لأوليائه(7)، أو يقاتل لنصر(8) دين الله وشريعة رسوله، لتكون كلمة الله هي العليا (يُعْطِيكَ سَلَبَهُ) أي: سلب قتيله الَّذي قتله بغير طيب نفسه، وأضافه إليه باعتبار أنَّه ملكه، وقوله: «إذًا» بهمزةٍ مكسورةٍ فذالٍ مُعجَمةٍ مُنوَّنةٍ(9)، حرف جوابٍ وجزاءٍ في جميع الرِّوايات في «الصَّحيحين» وغيرهما، لكن اتَّفق كثيرٌ ممَّن تكلَّم على الحديث إلى(10) تخطئة جهابذة المحدِّثين، ونسبتهم إلى الغلط والتَّصحيف(11)، وأنَّ الصَّواب: «لاها الله(12) ذا» بغير همزةٍ ولا تنوينٍ للإشارة، فقال الخطَّابيُّ: المحدِّثون يروونه «إذًا»، وإنَّما‼ هو في كلام العرب: «لاها الله ذا»، والهاء فيه بمنزلة الواو، والمعنى: لا والله يكون ذا، وقال المازنيُّ: الصَّواب: «لاها الله ذا» أي: ذا(13) يميني وقَسَمي، وقال ابن الحاجب: حمل بعض النَّحويِّين إدخال «إذًا» في هذا المحلِّ على الغلط من الرُّواة؛ لأنَّ العرب لا تستعمل «ها الله» إلَّا مع «ذا» وإن سُلِّم استعماله بدون «ذا» فليس هذا موضع «إذًا» لأنَّه للجزاء، وهو هنا على نقيضه، ومعرفة هذا تتوقَّف على أن يُعلَم أنَّ مدخول(14) «إذًا» جزاءٌ لشرطٍ مُقدَّرٍ، على ما نقله في «المُفصَّل» عن الزَّجَّاج، وإذا كان كذلك وجب أن يكون الشَّرط المُقدَّر يصحُّ وقوعه سببًا لِمَا بعد «إذًا» إذ الشَّرط يجب أن يكون سببًا للجزاء، وإذا تقرَّر هذا فقوله: «لاها الله إذًا لا يعمدِ» جوابٌ لمن طلب السَّلَب بقوله: «فأرضه عنِّي» وليس بقاتلٍ، و«يعمد» وقع في الرِّواية مع «لا» فيكون تقدير(15) الكلام: إنَّ أرضاه عنك لا يكون عامدًا إلى أسدٍ فيعطيك سلبه، ولا يصحُّ أن يكون إرضاءُ النَّبيِّ صلعم القاتلَ عن الطالب سببًا؛ لعدم كونه عامدًا إلى أسدٍ ومعطيًا سلبه الطَّالب، وإذا لم يكن سببًا له بطل كون «لا يعمد» جزاءً للإرضاء، ومقتضى الجزائيَّة: ألَّا تُذكَر «لا» مع «يعمد»(16)، ويُقال: إذًا يعمد؛ ليصحَّ جوابًا لطالب السَّلَب، فيكون(17) التَّقدير: إن يرضه عنك يكن عامدًا إلى أسدٍ ومعطيًا سلبه / ، فتحقُّق الجزائيَّة لصحَّة كون الإرضاء سببًا لكونه عامدًا إلى أسدٍ من أسد الله معطيًا سلب مقتوله غير القاتل، فقالوا: الظَّاهر: أنَّ الحديث «لاها الله ذا(18) لا يعمد إلى أسدٍ من أسد الله» فصحَّفها بعض الرُّواة، ثمَّ نُقِلت الرِّواية(19) المُصحَّفة كذلك. وأجاب أبو جعفرٍ الغرناطيُّ: بأنَّ «إذًا» جواب شرطٍ مُقدَّرٍ يدلُّ عليه قوله: «صدق فأرضه» فكأنَّ أبا بكرٍ قال: إذًا صدق في أنَّه صاحب السَّلب، إذًا لا يعمد إلى السَّلب فيعطيك حقَّه، فالجزاء على هذا صحيحٌ، لأنَّ صدقه سبب ألَّا يفعل ذلك، وقال الدَّار الحديثيُّ: لا يجب أن يلازم «ذا(20)» «ها» القَسَم، كما لا يجب أن يلازم غيرها من حروفه، وتحقيق الجزائيَّة بـ «إذًا لا يعمد» صحيحٌ؛ إذ معناه: إذا صدق أسدٌ غيرك، لا يعمد النَّبيُّ صلعم إلى إبطال حقِّه وإعطاء سلبه إيَّاك.
          وقال الطِّيبيُّ: هو كقولك لمن قال لك: افعل كذا، فقلت له: والله إذًا لا أفعل، فالتَّقدير: إذًا لا يعمد إلى أسدٍ... إلى آخره، قال: ويحتمل أن تكون «إذًا» زائدةً كما قال أبو البقاء. انتهى. نعم في رواية غير أبي ذرٍّ وابن عساكر: ”إذًا يَعْمِد“ بإسقاط «لا» وحينئذٍ فلا إشكال كما لا يخفى، ويأتي الحديث إن شاء الله تعالى في «المغازي» [خ¦4321].
          (فَقَالَ النَّبِيُّ صلعم : صَدَقَ) أي(21): أبو بكرٍ‼ (فَأَعْطَاهُ) أي: أعطى النَّبيُّ صلعم أبا قتادة الدِّرع، وكان الأصل أن يقول: أعطاني، لكنَّه عدل إلى الغيبة التفاتًا وتجريدًا، وإنَّما أعطاه؛ لعلمه أنَّه القاتل بطريقٍ من الطُّرق، فلا يُقال: أعطاه بإقرارِ من في يده السَّلب، لأنَّ(22) المال منسوبٌ لجميع الجيش(23)، فلا اعتبار بإقراره، قال أبو قتادة: (فَبِعْتُ الدِّرْعَ) بكسر الدَّال وسكون الرَّاء، فاشتراه منه حاطب بن أبي بلتعة بسبع أواقٍ (فَابْتَعْتُ) أي: اشتريت (بِهِ مَخْرِفًا) بفتح الميم وكسر الرَّاء، وبفتحها لأبي ذرٍّ مع إسقاط لفظ «به» أي: بستانًا لأنَّه يخترف(24) منه الثَّمر(25) أي: يجتني (فِي بَنِي سَلِمَةَ) بكسر اللَّام، قوم أبي قتادة وهم بطنٌ من الأنصار (فَإِنَّهُ(26) لَأَوَّلُ(27) مَالٍ تَأَثَّلْتُهُ) بمُثنَّاةٍ فوقيَّةٍ فهمزةٍ مفتوحةٍ فمُثلَّثةٍ مُشدَّدةٍ فلامٍ ساكنةٍ ففوقيَّةٍ، أي: تكلَّفت جمعه (فِي الإِسْلَامِ) واستدلَّ به على أنَّ السَّلَب لا يُخمَّس، فيعطى للقاتل أوَّلًا من الغنيمة، ثمَّ المؤن(28) اللَّازمة، كأجرة الحمَّال والحارس، ثمَّ يُقسَم الباقي خمسة أسهمٍ متساويةٍ.


[1] في (د1) و(ص) و(م): «عمر» وكلاهما وقفتُ عليه في التَّراجم.
[2] «منه»: ليس في (ب).
[3] زيد في (م): «قال»، وهو تكرارٌ.
[4] في (ب) و(س): «بقطع الهمزة ووصلها».
[5] في (م): «المعين» ولعلَّه تحريفٌ.
[6] في (م): «وهي».
[7] في (د1) و(ص) و(م): «لأولياء الله».
[8] في (ب) و(س): «لأجل نصر».
[9] في (م): «مفتوحةٍ» ولا يصحُّ.
[10] في (ب) و(س): «على».
[11] «ونسبتهم إلى الغلط والتَّصحيف»: ليس في (د).
[12] «لاها الله»: مثبتٌ من (د).
[13] «ذا»: ليس في (د).
[14] في (د): «مدلول».
[15] في (ب) و(س): «تقرير».
[16] «مع يعمد»: ليس في (د) و(م).
[17] في (ص): «ليكون».
[18] «ذا»: ليس في (ص).
[19] في (م): «الرُّواة».
[20] في (م): «إذًا» وليس بصحيحٍ.
[21] «أي»: ليس في (د).
[22] في (م): «إلَّا» ولا يصحُّ.
[23] في (ص): «الخُمُس».
[24] في (م): «يتخرَّف».
[25] في (ص): «الثَّمن» وهو تحريفٌ.
[26] في (ص): «لأنَّه».
[27] في (د1) و(ص) و(م): «أوَّل» والمثبت موافقٌ لما في «اليونينيَّة».
[28] في (د): «المؤنة».