إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري

حديث: مري غلامك النجار أن يعمل لي أعوادًا أجلس عليهن

          917- وبالسَّند قال: (حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ) سقط «ابن سعيدٍ» عند أبي ذَرٍّ وابن عساكر (قَالَ: حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَبْدٍ القَارِيُّ) بالقاف والمُثنَّاة المُشدَّدة من غير همزٍ(1)، نسبةً إلى القارة، قبيلةٌ (القُرَشِيُّ) الحِلف في بني زُهرة من قريشٍ، قال عياضٌ: كذا لبعض رواة البخاريِّ: «القرشيِّ»، وسقط للأَصيليِّ، وكلاهما صحيحٌ (الإِسْكَنْدَرَانِيُّ) السَّكن والوفاة، وكانت سنة إحدى وثمانين ومئةٍ (قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو حَازِمِ بْنُ دِينَارٍ:) بالحاء المُهمَلة والزَّاي، واسمه: سلمة الأعرج (أَنَّ رِجَالًا) قال الحافظ ابن حجر: لم أقف على أسمائهم (أَتَوْا سَهْلَ بْنَ سَعْدٍ السَّاعِدِيَّ) بإسكان الهاء والعين (وَقَدِ امْتَرَوْا) جملةٌ حاليَّةٌ، أي: تجادلوا أو شكُّوا، من المماراة وهي المجادلة، قال الرَّاغب: الامتراء والمماراة: المُجَادلة، ومنه: {فَلَا تُمَارِ فِيهِمْ إِلَّا مِرَاء ظَاهِرًا}[الكهف:22] وفي رواية عبد العزيز بن أبي حازمٍ عن أبيه عند مسلم: أنَّ نفرًا تمارَوا، أي: تجادلوا، قاله ابن حجرٍ، وجعله البرماويُّ _كالكِرمانيِّ_ من الامتراء. قال: وهو الشَّكُّ. قال العينيُّ متعقِّبًا للحافظ ابن حجرٍ(2): وهو الأصوب(3)، ولم يبيِّن لذلك دليلًا. (فِي المِنْبَرِ) النَّبويِّ (مِمَّ عُودُه؟) أي: من أيِّ شيءٍ هو؟ (فَسَأَلُوهُ) أي: سهل بن سعدٍ (عَنْ ذَلِكَ) أي: المُمترَى فيه (فَقَالَ: وَاللهِ إِنِّي لأَعْرِفُ مِمَّا هُوَ) بثبوت ألف «ما» الاستفهاميَّة المجرورة على الأصل، وهو قليلٌ، وهي قراءة عبد الله وأُبيٍّ في ▬عمَّا يَتَسَاءَلُونَ↨ [النبأ:1] والجمهور بالحذف، وهو المشهور، وإنَّما أتى بالقَسَم مؤكَّدًا بالجملة الاسميَّة، وبـ «إنَّ» الَّتي للتَّحقيق(4)، وبـ «لام» التَّأكيد في الخبر، لإرادة التَّأكيد فيما قاله للسَّامع (وَلَقَدْ رَأَيْتُهُ) أي: المنبر (أَوَّلَ) أي: في أوَّل‼ (يَوْمٍ وُضِعَ) موضعه، هو زيادةٌ على السُّؤال كقوله: (وَأَوَّلَ يَوْمٍ) أي: في أوَّل يوم (جَلَسَ عَلَيْهِ(5) رَسُولُ اللهِ صلعم ) وفائدةُ هذه الزِّيادة المُؤكَّدة باللَّام و«قد»(6) إعلامُهم بقوَّة معرفته بما سألوه عنه. ثمَّ شرح الجواب بقوله: (أَرْسَلَ رَسُولُ اللهِ صلعم إِلَى فُلَانَةَ امْرَأَةٍ) بعدم الصَّرف في «فلانة» للتَّأنيث والعلميَّة، ولا يُعرَف اسم المرأة، وقِيلَ: هي فُكَيْهَة بنت عُبَيْد بن دُلَيْمٍ، أو: عُلَاثة، بالعين المُهمَلة وبالمُثلَّثة، وقِيلَ: إنَّه تصحيف «فلانة»، أو هي / عائشة، قِيلَ: وهو تصحيف المُصحِّف السَّابق، وزاد الأَصيليُّ: ”من الأنصار“ (قَدْ سَمَّاهَا سَهْلٌ) فقال لها: (مُرِي) أصله: اؤمري على وزن «افعلي»، فاجتمعت همزتان فَثقُلَتا(7)، فُحذِفت الثَّانية، واستُغنِي عن همزة الوصل، فصار: «مُرِي» على وزن «عُلِي» لأنَّ المحذوفَ فاءُ الفعل (غُلَامَكِ النَّجَّارَ) بالنَّصب صفةٌ لـ «غلام» (أَنْ يَعْمَلَ لِي أَعْوَادًا أَجْلِسُ عَلَيْهِنَّ إِذَا كَلَّمْتُ النَّاسَ) «أجلسُ» بالرَّفع في(8) «اليونينيَّة» أي: أنا أجلس، وفي غيرها ”أجلسْ“ بالجزم جوابٌ للأمر، والغلام اسمه: ميمونٌ كما عند قاسم بن أصبغ، أو إبراهيم كما في «الأوسط» للطَّبرانيِّ، أو باقُول، بالمُوحَّدة والقاف المضمومة(9) واللَّام كما عند عبد الرَّزَّاق، أو باقوم، بالميم بدل اللَّام كما عند أبي(10) نُعيمٍ في «المعرفة»، أو صُباح، بضم الصَّاد المُهمَلة، بعدها مُوحَّدةٌ خفيفةٌ، آخره(11) حاءٌ مُهمَلةٌ؛ كما عند ابن(12) بشكوال، أو قبيصة المخزوميُّ مولاهم كما ذكره عمر بن شبَّة في الصَّحابة، أو كلاب مولى ابن عبَّاسٍ، أو تميم الدَّاريُّ كما عند أبي داود والبيهقيِّ، أو ميناء كما ذكره ابن بشكوال، أو روميٌّ كما عند التِّرمذيِّ وابن خزيمة وصحَّحاه، ويحتمل أن يكون المراد به تميمًا الدَّاريَّ لأنَّه كان كثير السَّفر إلى أرض الرُّوم. وأشبه الأقوال بالصَّواب: أنَّه ميمونٌ، ولا اعتداد بالأخرى لوهاها. وحمله بعضهم على أنَّ الجميع اشتركوا في عمله، وعُورِض بقوله في كثيرٍ من الرِّوايات السَّابقة: ولم يكن بالمدينة إلَّا نجَّارٌ واحدٌ، وأُجيب باحتمال أنَّ المراد بالواحد الماهر في صناعته، والبقيَّة أعوانٌ له. (فَأَمَرَتْهُ) أي: أمرت المرأةُ غلامَها أن يعمل(13) (فَعَمِلَهَا) أي: الأعواد (مِنْ طَرْفَاءِ الغَابَةِ) بفتح الطَّاء وسكون الرَّاء المُهمَلتين وبعد الرَّاء فاءٌ ممدودةٌ، شجرٌ من شجر البادية، و«الغابة» بالغين المُعجَمة وبالمُوحَّدة، موضعٌ من عوالي المدينة من جهة الشَّام (ثُمَّ جَاءَ) الغلام (بِهَا) بعد أن عملها (فَأَرْسَلَتْ) أي: المرأة (إِلَى رَسُولِ اللهِ صلعم ) تُعْلِمُه بأنَّه فرغ منها (فَأَمَرَ بِهَا) ╕ (فَوُضِعَتْ هَهُنَا، ثُمَّ رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ صلعم صَلَّى عَلَيْهَا) أي: على الأعواد المعمولة منبرًا ليراه من قد تخفى عليه رؤيته‼ إذا صلَّى على الأرض (وَكَبَّرَ وَهْوَ عَلَيْهَا) جملةٌ حاليَّة، زاد في رواية سفيان عن أبي حازمٍ [خ¦377]: «فقرأ» (ثُمَّ رَكَعَ، وَهْوَ عَلَيْهَا) جملةٌ حاليَّةٌ أيضًا، كذلك زاد سفيان أيضًا: «ثمَّ رفع رأسه» (ثُمَّ نَزَلَ القَهْقَرَى) أي: رجع إلى خلفه محافظةً على استقبال القبلة (فَسَجَدَ فِي أَصْلِ المِنْبَرِ) أي: على الأرض إلى جنب الدَّرجة السُّفلى منه (ثُمَّ عَادَ) إلى المنبر، وفي رواية هشام بن سعدٍ عن أبي حازمٍ عند الطَّبرانيِّ: فخطب النَّاس عليه، ثمَّ أُقِيمت الصَّلاة، فكبَّر وهو على المنبر، فأفادت هذه الرِّواية تقدُّم الخطبة على الصَّلاة. (فَلَمَّا فَرَغَ) من الصَّلاة (أَقْبَلَ عَلَى النَّاسِ) بوجهه الشَّريف (فَقَالَ) ╕ مبيِّنًا لأصحابه ═ حكمة ذلك: (أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّمَا صَنَعْتُ هَذَا لِتَأْتَمُّوا بي، وَلِتَعَلَّمُوا صَلَاتِي) بكسر اللَّام وفتح المُثنَّاة الفوقيَّة والعين، أي: لتتعلَّموا، فحُذِفت إحدى التَّاءين تخفيفًا. وفيه: جوازُ العمل اليسير في الصَّلاة. وكذا الكثير إن تفرَّق، وجواز قصد تعليم المأمومين أفعال الصَّلاة بالفعل، وارتفاع الإمام على المأمومين، وشروع الخطبة على المنبر لكلِّ خطيبٍ، واتِّخاذ المنبر لكونه أبلغ في مشاهدة الخطيب والسَّماع منه.
          ورواةُ الحديث واحدٌ منهم بلخيٌّ وهو شيخ المؤلِّف، والاثنان بعده مدنيَّان، وفيه: التَّحديث والقول، وأخرجه مسلمٌ وأبو داود والنَّسائيُّ.


[1] في (د): «همزة».
[2] قوله: «وجعله البرماويُّ _كالكِرمانيِّ_... قال العينيُّ متعقِّبًا للحافظ ابن حجرٍ» سقط من (د).
[3] أي: قول الكِرماني هو الأصوب.
[4] في (د): «للتَّخفيف»، وهو تصحيفٌ.
[5] «عليه»: ليس في (د).
[6] في (د): «باللَّام قصد».
[7] في (س): «فثفلتا»، وهو تصحيفٌ.
[8] زيد في (ص) و(م): «فرع»، ولم أثبته لأنَّه في «اليونينيَّة» كذلك بالرَّفع، ولم يُشِر للجزم.
[9] «المضمومة»: ليس في (د).
[10] في (س): «ابن»، وهو خطأٌ.
[11] في (ص): «آخرها».
[12] في (س): «أبي»، وليس بصحيحٍ.
[13] في (ص) و(م): «يعمله».