التلقيح لفهم قارئ الصحيح

حديث: ما غرت على امرأة للنبي ما غرت على خديجة

          3816- قوله: (حَدَّثَنَا سَعِيدُ ابْنُ عُفَيْرٍ): تَقَدَّم مِرارًا أنَّه بضمِّ العين المهملة، وفتح الفاء، و(اللَّيْثُ): تَقَدَّم أنَّه ابنُ سعدٍ الإمام، أحدُ الأعلام.
          قوله: (كَتَبَ إِلَيَّ هِشَامٌ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ(1): مَا غِرْتُ...)؛ الحديث: تَقَدَّم الكلام على الرِّواية بالكتابة، وأنَّها صحيحةٌ مطوَّلًا إذا كانت مقرونةً بالإجازة، وكذا إذا كانت مجرَّدةً عن الإجازة؛ كهذه؛ فانظُره إن أردتَه [خ¦637]، وسيأتي قريبًا إن شاء الله تعالى أيضًا [خ¦3828].
          قوله: (هَلَكَتْ قَبْلَ أَنْ يَتَزَوَّجَنِي): سيأتي بكم تُوُفِّيَت قبل أن يتزوَّجها قريبًا [خ¦3817].
          قوله: (بِبَيْتٍ مِنْ قَصَبٍ): قال الإمام السُّهيليُّ: (تكلَّم أهلُ المعاني في هذا الحديث، وقالوا: كيف لم يُبشِّرها إلَّا ببيتٍ وأدنى أهل الجنَّة منزلةً مَن يُعطَى مسيرة ألف عامٍ في الجنَّة، كما جاء في حديث ابن عمر، خرَّجه التِّرمذيُّ؟ وكيف لم ينعت البيت بشيءٍ من أوصاف النعيم والبهجة أكثر من(2) نفي الصَّخب؛ وهو رفع الصوت؟!
          فأمَّا أبو بكر الإسكاف؛ فقال في كتاب «فوائد الأخبار» له: معنى الحديث: أنَّها بُشِّرت ببيت زائدٍ على ما أعدَّ الله لها ممَّا هو ثوابٌ لإيمانها وعملها؛ ولذلك قال: «لا صَخَبَ فيه ولا نصب»؛ أي: لم تنصبْ فيه ولم تصخب؛ أي: إنَّما أُعطيَتْه زيادةً على جميع العمل الذي نصبت فيه).
          قال السُّهيلي: (لا أدري ما هذا التأويل؟! ولا يقتضيه ظاهر الحديث، ولا يوجد شاهد يعضده.
          وأمَّا الخطابيُّ؛ فقال: «البيت» هنا عبارةٌ عن قصر، وقد يُقال لمنزل الرجل: بيته.
          والذي قاله صحيحٌ، يقال في القوم: هم أهل بيتِ شرفٍ وبيتِ عزٍّ، وفي التنزيل: {غَيْرَ بَيْتٍ مِّنَ الْمُسْلِمِينَ}[الذاريات:36]، ولكنْ لذكر البيت ههنا بهذا اللفظ، ولقوله: «ببيت» ولم يقل: بقصر؛ معنًى لائقٌ بصورة الحال، وذلك أنَّها لمَّا كانت رَبَّة بيت الإسلام، ولم يكن على وجه الأرض بيت إسلام إلَّا بيتها حين آمنت، وأيضًا فإنَّها أوَّلُ من بنى بيتًا في الإسلام بتزويجها رسولَ الله صلعم ورغبتها فيه، وجزاء الفعل يُذكر بلفظ الفعل وإن كان أشرف منه؛ كما جاء: «من كسا مسلمًا على عُريٍ؛ كساه الله من حُلَل الجنَّة، ومن سقى مسلمًا على ظمأ؛ سقاه الله من الرحيق»، ومِن هذا الباب قوله ◙: «مَن بنى لله مسجدًا؛ بنى الله له مثله في الجنَّة»، لم يُرد مثله في كونه مسجدًا، ولا في صفته، ولكن قابل البنيان بالبنيان؛ أي: كما بَنَى بُنيَ له؛ كما قابل الكسوة بالكسوة، والسَّقي بالسَّقي، فههنا وقعت المماثلة لا في ذات المبنيِّ أو المكسوِّ، وإذا ثبت هذا؛ فمِن ههنا اقتضت الفصاحة أن يعبِّر لها عمَّا بُشِّرت به بلفظ «البيت» وإن كان فيه ما لا عينٌ رأت، ولا أذنٌ سمعت، ولا خطر على قلب بشر، ومِن تسمية الجزاء على الفعل بالفعل في عكس ما ذكرناه قولُه تعالى: {نَسُواْ اللّهَ فَنَسِيَهُمْ}[التوبة:67]، {وَمَكَرُواْ وَمَكَرَ اللّهُ}[آل عمران:54].
          وأمَّا قوله: «لَا صَخَبَ فِيهِ وَلَا نَصَبَ») _فاعلم أنَّه ما ذكره البُخاريُّ في هذا الحديث، ولكن ذكره فيما يأتي قريبًا [خ¦3819]، وقد ذكره السُّهيليُّ جملةً، فلم أحذفه، وقد ذكرتُه كما ذكره، وإذا جاء ذاك المكان؛ أحلْتُ عليه إن شاء الله تعالى_ قال السُّهيليُّ: (فإنَّه(3) أيضًا مِن بابِ ما كُنَّا بسبيله؛ لأنَّه ◙ دعاها إلى الإيمان، فأجابته عفوًا، لم تحوجه إلى أن يصخب كما يصخبُ البعل إذا تعصَّت عليه حليلته، ولا أن ينصب؛ بل أزالت عنه كلَّ نَصَب، وآنسته مِن كلِّ وحشة، وهوَّنت عليه كلَّ مكروه، وأراحته بمالها من كلِّ كَدٍّ ونصبٍ، فوصف منزلها الذي بُشِّرت به بالصِّفة المقابلة لفعالها وصورته.
          وأمَّا قوله: «من قصب» ولم يقل: من لؤلؤ، وإن كان المعنى واحدًا، ولكن في اختصاصه هذا اللفظَ مِنَ المشاكلة المذكورة والمقابلة / بلفظ الجزاء للفظ العمل؛ أنَّها ♦ كانت قد أحرزت قصَب السَّبق إلى الإيمان دون غيرها من الرِّجال والنِّسوان، والعرب تُسمِّي السابقَ مُحرِزًا لقصب السبق، قال الشاعر [من الطويل]:
مَشَى ابْنُ الزُّبَيْرِ القَهْقَرَى وَتَقَدَّمَتْ                     أُمَيَّةُ حَتَّى أَحْرَزُوا القَصَبَاتِ
          فاقتضت البلاغة أن يُعبِّر بالعبارة المشاكِلة لعملها في جميع ألفاظ الحديث؛ فتأمَّله)، انتهى لفظُه، وهو كلامٌ حسنٌ مليحٌ مناسبٌ لجلالة الرَّجُل.
          والقصب في الحديث فُسِّر باللؤلؤ المجوَّفُ، وقد ذكره البيهقيُّ في «سننه» مفسَّرًا: «من قصب اللؤلؤ»، انتهى، وفي كلام شيخنا في «القاموس» في اللُّغة: (والقصَب: الزَّبَرْجَد الرَّطب المرصَّع بالياقوت، ومنه: «بَشِّر خديجة ببيتٍ في الجنَّة من قصَب»)، انتهى، والصَّخَب: الصِّياح، والنَّصَب: التَّعَب، والله أعلم.


[1] في (أ): (قال)، والمثبت موافق لما في «اليونينيَّة» و(ق).
[2] في (أ): (ما)، والمثبت من مصدره.
[3] في (أ): (فإنها)، والمثبت من مصدره.