التلقيح لفهم قارئ الصحيح

باب موت النجاشي

          قوله: (بابُ مَوْتِ النَّجَاشِيِّ): اعلم أنَّ البُخاريَّ إنَّما ذكر موته هنا؛ لأنَّه لمَّا ذكر هجرة الحبشة _وكان النَّجاشيُّ إذ ذاك ملكَها_؛ ناسب أن يذكر موته هنا، وسيأتي تاريخُ وفاتِه، وقد تَقَدَّمت في (الجنائز) [خ¦1245]، و(النَّجاشيُّ): اسم لكلِّ مَن مَلك الحبشة، وقد قدَّمتُ ذلك مع نظائره [خ¦7]، وتَقَدَّم ضبطُه، والاختلافُ في اسمه [خ¦1199]، وقد أسلم في السنة السابعة مِنَ النُّبوَّة فيما يظهر لي، وقد ذكر ابنُ سيِّدِ الناس إسلامَهُ في قصَّة عَمرو بن العاصي وعُمَارة بن الوليد حين بعثتهما قريش إليه من حديث ابن مسعود موقوفًا عليه بإسناده، وفيه تصديقُه برسول الله صلعم، وأنَّه الذي بشَّر به عيسى في الإنجيل، ثُمَّ ذكر بعد ذلك ابنُ سيِّد الناس بيسير جدًّا: أنَّه لمَّا كان في ربيع الأوَّل _وقيل: المحرَّم_ سنة سبعٍ مِنَ الهجرة إلى المدينة؛ كتب رسولُ الله صلعم كتابًا إلى النَّجاشيِّ يدعوه فيه إلى الإسلام _وكذا قال ابنُ قَيِّم الجوزيَّة في «الهَدْي»_ وبعث به مع عَمرو بن أميَّة الضَّمْريِّ، فالظَّاهر مع ما سيأتي أنَّه ◙ لم يعلم بإسلامه حين أسلم، ولكن يُعَكِّرُ على هذا أنَّ الموقوف الذي ذكرتُه على ابن مسعود فيه رجوعُ ابن مسعود / من الحبشة إلى مكَّة، والظَّاهر: أنَّ ابنَ مسعودٍ لمَّا رجع، وهاجر مَن هاجر المرَّة الثانية؛ بعثت قريش عَمرًا وعُمارة، وكانت قصَّة النَّجاشيِّ وابنُ مسعود إذ ذاك بمكَّة، فحُكِيَ له ما جرى لهما مع النَّجاشيِّ وتصديقه، فذكرها هو من قِبَل نفسه، ولم يسندها لأحدٍ، وبهذا يتَّفق الكلام.
          وفي سند الموقوف على ابن مسعود حُدَيجُ بن معاوية، وهو مختلَف فيه، وقد استنكرتُ منه لفظةً، فإنَّه ذكر فيه الزكاةَ، ولفظُه: (قال جعفر: إنَّ الله تعالى أرسل فينا رسولًا، وأمرنا ألَّا نسجد لأحدٍ إلَّا لله ╡، وأمرنا بالصلاة والزكاة)، فقوله: (الزكاة) فيها نكارة؛ لأنَّها إنَّما فُرِضَت _على القول الصحيح_ بعد الهجرة في السنة الثانية كما قدَّمتُه في (الزكاة) [خ¦24/1-2199]، ولم تكن فُرِضت حين هذه القصَّة، والله أعلم، إلَّا أن تُحمَل الزكاة على غير الشرعيَّة.
          وقد راجعتُ «سيرة مغلطاي الصغرى»؛ فوجدته قد ذكر فيها: أنَّ النَّجاشيَّ أسلم في السنة السابعة، وتُوُفِّيَ في السنة التاسعة، وقد كتب بعضُ الفضلاء مِنَ الحنفيَّة ممَّن قرأها عليه تجاه (السنة السابعة): (أي: من النُّبوَّة)، وتجاه (في السنة التاسعة): (أي: من الهجرة)، والظَّاهرُ أنَّ هاتين الحاشِيَتَين مِن مغلطاي، فإنَّ هذا الفاضلَ ما يَعرف السِّيَرَ، فالوفاة معروفةٌ، والإسلامُ قد صرَّح غيرُ واحدٍ بأنَّه في السنة السابعة من الهجرة، والله أعلم.
          وقال ابن قيِّم الجوزيَّة في أوائل «الهَدْي» في (رسله وكتبه إلى الملوك): (فأوَّلهم عَمرُو بنُ أميَّة الضَّمْرِيُّ بعثه إلى النَّجاشيِّ، فعظَّم كتابه، ثُمَّ أسلم، وشهد شهادةَ الحقِّ، وصلَّى عليه النَّبيُّ صلعم، هكذا قال جماعةٌ منهم الواقديُّ وغيرُه، وليس كما قال هؤلاء، فإنَّ أصحمة النَّجاشيَّ الذي صلَّى عليه النَّبيُّ صلعم ليس هو الذي كتب [إليه]، وهذا الثاني لا يعرف إسلامُه، بخلاف الأوَّل، فإنَّه مات مسلمًا)، ثُمَّ ذكر حديث «صحيح مسلم»: (كتب إلى كسرى وقيصرَ والنَّجاشيِّ، وليس بالنَّجاشيِّ الذي صلَّى عليه رسولُ الله صلعم)، قال: (وقال أبو محمَّد ابن حزم: إنَّ هذا النَّجاشيَّ الذي بعث إليه عمرو بن أميَّة لم يُسْلِم، والأوَّلُ اختيارُ ابنِ سَعْدٍ وغيرِه، والظَّاهرُ قولُ ابنِ حزم)، انتهى.
          ويُعَكِّرُ على هذا أنَّ النَّجاشيَّ الذي صلَّى عليه رسولُ الله صلعم تُوُفِّيَ في السنة التاسعة، والكتابةُ كانت في السنة السابعة على ما قاله ابنُ القَيِّم _وسيأتي الخلافُ فيها [خ¦64/82-6368]_ فيكون على هذا لهم نجاشيَّان في الحبشة، وفيه نظرٌ، اللَّهمَّ إلَّا يكونا في بلدين، أو أحدُهما دون الآخر أو فرعه، والله أعلم.
          والنَّجاشيُّ أصحمة الذي أكرم الصَّحابة، وزوَّج النَّبيَّ صلعم أمَّ حبيبة، وأصدق عنه، وبعث جعفرًا وأصحابه؛ هو الذي صلَّى عليه النَّبيُّ صلعم، وهو تابعيٌّ، وقد عُدَّ في الصَّحابة توسُّعًا، وتُوُفِّيَ في السنة التاسعة من الهجرة في رجب، وقد نقل شيخنا هذا عن البيهقيِّ في «دلائله»: أنَّه تُوُفِّيَ قبل الفتح، وهو غريبٌ، كما قال شيخُنا، والله أعلم.