التلقيح لفهم قارئ الصحيح

باب ما لقى النبي وأصحابه من المشركين بمكة

          قوله: (بابُ مَا لَقِيَ النَّبِيُّ صلعم وَأَصْحَابُهُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ بِمَكَّةَ): اعلم أنَّ ابن سيِّد الناس فتح الدين الحافظ ذكر في «سيرته الكبرى» أشياء ممَّا لقي النَّبيُّ صلعم من أذى قومه في ترجمة مفردة؛ فراجعها إن شئت.
          وقال الإمام السُّهيليُّ في «روضه»: (فصلٌ: ما لقي النَّبيُّ صلعم مِن قومه، ذكر ابن إسحاق والواقديُّ والتيميُّ وابن عقبة وغيرهم في هذا الباب أمورًا كثيرة تتقارب ألفاظُها ومعانيها، وبعضُهم يزيد على بعض؛ فمنها: حَثْوُ سفهائهم التراب على رأسِه، ومنها: أنَّهم كانوا ينضدون الفرث والأفحاث والدماء على بابه، ويطرحون رحم الشاة في بُرمته، ومنها: بصق أميَّة بن خلف في وجهه)، انتهى.
          وقال ابن عبد السلام في «تفسيره» في سورة الفرقان: (كان عقبة بن أبي مُعَيْط يأتي مجلس رسول الله صلعم، فحمله أميَّة إلى أن بصق في وجه رسول الله صلعم، فعاد بصاقه في وجهه، فأثَّر فيه...) إلى أن قال: (فقُتِل ببدر صبرًا)، وكذا قال غيره ممَّن تَقَدَّمه، فقوله: (قُتِل ببدر)؛ فيه نظرٌ، وإنَّما قُتِل بعرق الظُّبية بمضيق الصفراء، فيحتمل أنَّهما فعلا ذلك.
          قال السُّهيليُّ: (ومنها: وطءُ عقبة بن أبي مُعَيْط على رقبته وهو ساجد عند الكعبة حتَّى كادت عيناه تبرزان، ومنها: أخذهم بمخنقه حين اجتمعوا له عند الحجر، وقد ذكره ابن إسحاق _وزاد غيره في الخبر: أنَّهم خنقوه خنقًا شديدًا [خ¦3687]_ وقام أبو بكر دونه، فجبذوا رأسه ولحيته حتَّى سقط أكثر شعره، وأمَّا السبُّ، والهجاء، والتلقيبُ، وتعذيبُ أصحابه وأحبَّائه وهو ينظر؛ فقد ذكر ابن إسحاق ما في الكتاب، وقد قال أبو جهل _لعنه الله_ لسُميَّة أمِّ عَمَّار بن ياسر: ما آمنتِ بمحمَّد إلَّا أنَّك عشقته(1) لجماله، ثُمَّ طعنها بالحربة في قُبُلها حتَّى قتلها، والأخبار في هذا المعنى كثيرة)، انتهى.
          سؤال يقال فيه: إنَّ النَّبيَّ صلعم يُروى عنه: «ما أُوذي أحد ما أوذيتُ» _وسيأتي الكلام على هذا الحديث_ وقد بلغنا قتل بعض الأنبياء وأذاهم أكثر ممَّا ذُكِر في أذاه ◙؟
          والجوابُ: أنَّه أطلع اللهُ رسولَه صلعم على ما جرى للأنبياء قبله، فيحمل ما أُوذوا به فوق ما أُوذي به، فصار ما أوذي به أكثر.
          وجواب آخر قلته أنا وهو: أنَّ الرجلَ العظيمَ الكبيرَ الجليلَ إذا أُوذي بأدنى شيءٍ؛ كان كبيرًا باعتبار مقامه عند الناس، فما ظنُّك بمن هو عند ربِّه بالمقام الأعلى؟! وإذا كان كذلك؛ فأُوذي بما هو أعظم مِن أذاهم، والله أعلم.
          تنبيهٌ: حديث: «ما أُوذِيَ نبيٌّ ما أوذيتُ» ذكر الذَّهبيُّ في «ميزانه» في ترجمة محمَّد بن سليمان ابن هشام أبي جعفر الخزَّاز المعروف بابن بنت مطر _وهو وضَّاع_ ما لفظه: (قلتُ: ومِن أكاذيبه: حدَّثَنا وكيعٌ، عن مالكٍ، عن الزُّهريِّ، عن أنسٍ مرفوعًا: «ما أُوذِيَ أحدٌ ما أُوذِيتُ»)، انتهى، وذكره في ترجمة يوسفَ بنِ محمَّدِ بنِ المُنْكَدِر _وهو متروكٌ، قاله النَّسائيُّ، وقال أبو زُرْعَةَ: (صالح الحديث)_ في جملة أحاديثَ أُنكِرَت عليه، وقد ذَكَرَ له الذَّهبيُّ عدَّةَ أحاديثَ، ثُمَّ قال في آخِرها: (قال ابنُ عَدِيٍّ: لا أعلمُ ليوسفَ غير هذه الأحاديثِ التي ذكرتُها، وأرجو أنَّه لا بأسَ به)، انتهى.


[1] في (أ): (عشقتيه)، والمثبت من مصدره.