التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب الصلح بين الغرماء وأصحاب الميراث والمجازفة في ذلك

          ░13▒ (بَابُ: الصُّلْحِ بَيْنَ الغُرَمَاءِ وَأَصْحَابِ المِيرَاثِ وَالمُجَازَفَةِ فِي ذَلِكَ)
          (قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لاَ بَأْسَ أَنْ يَتَخَارَجَ الشَّرِيكَانِ، فَيَأْخُذَ هَذَا عَيْنًا وَهَذَا دَيْنًا، فَإِنْ تَوِيَ لِأَحَدِهِمَا لَمْ يَرْجِعْ عَلَيهِ).
          2709- ثُمَّ ساق حديثَ جابرٍ في وفاء دَين والده وفضل... بطوله. وقد سبق غيرَ مرَّةٍ.
          ثُمَّ قال: (وَقَالَ هِشاَمٌ عَنْ وَهْبٍ عَنْ جَابِرٍ: صَلَاةَ الْعَصْرِ... وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ عَنْ وَهْبٍ عَن جَابِرٍ: صَلَاةَ الظُّهْرِ) واختلف العلماء في أثر ابن عبَّاسٍ فقال الحسن البصريُّ: إذا اقْتَسم الشَّريكان الغرماءَ وأخذ هذا بعضَهم وهذا بعضَهم فَتَوِيَ نصيبُ أحدهما وخرج نصيبُ الآخر قال: إذا أبرأه منه فهو جائزٌ، وقال النَّخَعيُّ: ليس بشيءٍ وما تَوى أو خرج فهو بينهما نصفان، وهو قول مالكٍ والكوفيِّ والشَّافعيِّ، وحجَّة مَنْ لم يُجِزْ ذلك أنَّه غررٌ، إذ قد يتوى على ما على أحدهما، فلا يحصل للَّذي خرج إليه شيءٌ مِنْ حقِّ الشَّريكين أن يتساويا في الأخذ.
          وحجَّة مَنْ قال: لا يرجع أحدُهما على صاحبه أنَّ الذِّمَّة تقوم مَقام العين، فإذا تَوى ما على أحد الغُرماء فإنَّه يبيعه به دَينًا، وقال سُحْنُون: إذا قبض أحد الشَّريكين مِنْ دَينه عَرضًا فإنَّ صاحبه بالخيار إنْ شاء جوَّز له ما أخذ وأتبع الغريم بنصيبه، وإن شاء رجع على شريكه بنصف ما قبَض وأتبعا الغريم جميعًا بنصف جميع الدَّين، فاقتسماه بينهما نصفين وهذا قول ابن القاسم، وقال أبو عُبَيْدٍ: معنى الإتواء إذا كان المتاع بين ورثةٍ لم يقتسموه أو بين شركاء وهو في يد بعضهم دون بعضٍ فلا بأس أن يتبايعوه وإن لم يعرف كلُّ واحد نصيبَه بعينه ولم يقبضه. قال: ولو أراد أجنبيٌّ شراءَ نصيب بعضهم لم يجز حتَّى يقبضه البائع قبل ذلك، وظاهره خلاف هذا، وإنَّما معناه أنَّ بأيديهما عينًا ولهما دَينٌ، فيأخذ أحدهم الحاضر والآخر الدَّين، فهذا جائزٌ إذا كان مَنْ عليه الدَّين حاضرًا مقرًّا يعرف ملاءته مِنْ عدمه، وكان آخذ الدَّين يطَّوَّع لقابض الحاضر بالسَّلف، وهذا إذا كان الحاضر والدَّين عينًا كلُّه أو كان الحاضر يجوز بيعه بالدَّيْن المؤجَّل على هيئته، وأمَّا إنْ كان الحاضر فضَّةً والدَّين ذهبًا أو كانا طعامين مختلفين كالتَّمر والقمح فلا يجوز ذلك، والَّذي يدلُّ على خلاف قول أبي عبيدٍ قوله: (فَإِنْ تَوِيَ لِأَحَدِهِمَا) ولو كان كما ذكره مِنْ أنَّ ذلك بأيديهما ما قال ذلك لأنَّ كلَّ واحدٍ قبض ما ابتاعه.
          وقوله: (تَوِيَ) بكسر الواو على وزن عَلِمَ، ومعناه: هلك واضمحلَّ، وضبطه بعضهم بفتح الواو على وزن عَلا وليس ببيِّنٍ كما قاله ابن التِّين واللُّغة على الأوَّل.
          وفي حديث جابرٍ: الجلوس على الطَّعام، وذلك أنَّه لم يقصد به امتهانه.
          وقوله: (حَتَّى إِذَا جَدَدْتَهُ) أي قطعتَه، يقال بالدَّال المهملة والمعجمة، وكان الدَّين الَّذي على والد جابرٍ ثلاثين وسْقًا مِنْ تمرٍ كما ذكره البخاريُّ في باب: إذا قاضاه أو جازفه في دَينٍ فهو جائزٌ [خ¦2396]، وقال فيه جابرٌ: تُوُفِّيَ أَبِي وتَركَ عَلَيْهِ ثلاثينَ وَسْقًا لِرجلٍ مِنَ اليهودِ. وأسلفنا هناك أنَّه لا يجوز عند العلماء أن يأخذ مَنْ له دَينٌ مِنْ تمرٍ على أحدٍ تمرًا مجازفةً في دَينه لأنَّ ذلك مِنَ الغرر وإنَّما يجوز أن يأخذ مجازفةَ في ذلك أقلَّ مِنْ دَينه، وكذلك أيضًا لا يجوز عندهم أنْ يأخذ مِنْ طعامٍ مكيلٍ معلومِ الكيلِ طعامًا جزافًا مِنْ جنسه، إلَّا أنْ يكون طعامًا مخالفًا لجنس الطَّعام المَكيل يجوز التَّفاضل فلا يجوز إلَّا يدًا بيدٍ.
          وروى ابن القاسم عن مالكٍ أنَّه كَره لِمَنْ له دينٌ على رجلٍ أن يأخذ فيه ثمرةً يجتنيها أو دارًا يسكنها أو جاريةً يواضعها، وكذلك إن اشترى منه بدَينه كيلًا مِنْ حنطةٍ كره أن يفارقها حتَّى يقبض الحنطة لأنَّه يكون دَينًا في دَينٍ، وقال أَشهبُ: لا بأس بذلك كلِّه وهو قول أبي حنيفة، قالوا: وليس مِنَ الدَّين بالدَّين لأنَّه إذا شرع في اجتناء الثَّمرة وفي سكنى الدَّار فقد خرج مِنْ معنى الدَّين بالدَّين لأنَّ ما كان أوَّله مقبوضًا وتأخَّر قبضُ سائره فهو كالمقبوض، قال مالكٌ: ولا يجوز لِمَنْ له طعامٌ مِنْ بيعٍ أو سلَمٍ أن يصالحه على دراهم ليعجِّلها أو يؤخِّرها لأنَّه بيع الطَّعام قبل أن يُستوفى، فلم يجز لجابرٍ أن يعطيَ اليهوديَّ فيما كان على أبيه مِنَ التَّمر دراهم.
          ووجهُ حديث جابرٍ في هذا الباب أنَّه كان على أبيه دَينٌ مِنْ جنس تمرِ حائطه، فرغب إلى الغرماء أن يأخذوا تمر نخله ويُسقطوا عنه ما بقي مِنْ دَينهم لاتِّفاقهم أنَّ الثَّمرة لا تبلغ قدر الدَّين، ومثل هذا يجوز عند جميع العلماء، لأنَّه حطٌّ وإحسانٌ وليس ببيعٍ، ويجوز عند جماعة العلماء في الصُّلح ما لا يجوز في البيع، وإلى هذا المعنى ذهب البخاريُّ في ترجمته قاله ابن بَطَّالٍ.