التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب الصلح في الدية

          ░8▒ (بَابُ: الصُّلْحِ فِي الدِّيَةِ)
          2703- ذكر فيه حديثَ أنسٍ، عن محمَّدِ بن عبد الله الأنصاريِّ حدَّثني حُمَيْدٌ عنه في كسر سِنِّ الرُّبَيِّعِ بطوله وهو أحد ثُلاثيَّاته، (زَادَ الفَزَارِيُّ عَنْ حُمَيْدٍ عَنْ أَنَسٍ: فَرَضِيَ القَوْمُ وَقَبِلُوا الأَرْشَ) وهذا التَّعليق أسنده البخاريُّ في تفسير سورة المائدة [خ¦4611]، فقال: حدَّثنا محمَّدُ بن سَلَامٍ عن مروانَ بن معاوية الفَزاريِّ... فذكره، وفي رواية [خ¦4500] ابن مُنِيرٍ عن عبد الله بن بَكرٍ عن حُميدٍ عن أنسٍ أنَّ الرُّبَيِّع عمَّته، وذكره في الدِّيات أيضًا [خ¦87/14-10226]، وفي مسلمٍ مِنْ رواية حمَّاد بن سَلَمة عن ثابتٍ عن أنسٍ أنَّ أخت الرُّبيِّع أمَّ حارثة جرحت إنسانًا فقالت أمُّ الرُّبَيِّع: واللهِ لَا تُكسَرُ ثنيَّتُها. وكذا هو أيضًا في «سنن النَّسائيِّ» ورجَّح جماعةٌ مِنَ العلماء روايةَ البخاريِّ، وقال النَّوويُّ: هما قضيَّتان فالله أعلم.
          إذا تقرَّر ذلك فالكلام عليه مِنْ أوجهٍ:
          أحدها: الثَّنِيَّةُ: مقدَّم الأسنان، و(الأَرْشَ) الدِّية، قال ابن التِّين: وقيل: هو بفتح الهمزة وكسرها، وقال ابن فارسٍ: أرشُ الجراحة: دِيَتُها، وضُبِط بفتح الرَّاءِ، قال: وذلك لما يكون فيه مِنَ المنازَعة، قال: ويقال: إنَّ أصله الهَرْش فمعنى طلبوا الأرش أي طلبوا أن يعطوه ويُعفى عن القصاص، فأبى أهلها وتحاكموا إلى رسول الله صلعم، فأمر بالقِصاص.
          ثانيها: (الرُّبَيِّعَ) بضمِّ الرَّاء وفتح الباء الموحَّدة ثُمَّ ياءٍ مثنَّاةٍ تحتُ مشدَّدةٍ مكسورةٍ.
          و(أَنَسُ) هذا هو ابن النَّضْر عمِّ أنس بن مالكٍ، قُتل يوم أُحُدٍ، قال أنسٌ: وجدنا به بضعًا وثمانين ضربةً بسيفٍ أو طعنةً برمحٍ أو رميةً بسهمٍ ومُثِّل به، وما عرفه أَحدٌ إلَّا أختُه بِبَنانه، وفيه وفي أشباهه نزلت: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ} الآية [الأحزاب:23]، وفيه ثقتُه بالله وقَسَمُه لقوَّة رجائه.
          ثالثها: قوله: (كِتَابُ اللهِ القِصَاصُ) أي فرضُ الله على لسان نبيِّه وحيًا، وقيل: أراد قوله _تعالى_: {وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ} [المائدة:45] على قول مَنْ يرى أنَّا مخاطبون بشرع مَنْ تقدَّمنا مِنَ الأنبياء.
          وقيل: هو إشارةٌ إلى قوله: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ} الآية [النحل:126] فعمومه يأتي على السِّنِّ وغيرها مِنَ الأعضاء.
          وفيه تلطُّفه _◙_ لأنسٍ لعلمه بصحَّة مراده، وفيه أنَّ الله _جلَّ جلاله_ لعبده عند حسن ظنِّه.
          ومعنى (لَأَبَرَّهُ) أي أبرَّ قسمَه لكرامته عليه، وأتى الأمرُ على طِبق مراده لما فيهم مِنَ الفضل، وفيه أنَّ مَنْ له القَوَدُ ليس عليه قَبول الدِّية إلَّا أن يشاء.
          رابعها: فيه وجوب القِصاص في السِّنِّ _وهو إجماعٌ_ إذا قلعها كلَّها، فإن كسر بعضها ففيها وفي كسر العظام خلاف مشهورٌ للعلماء، والأكثرون على أنَّه لا قصاص، وذهب مالكٌ إلى أنَّ القِصاص في ذلك كلِّه إذا أمكنت المماثلة وما لم يكن مخوفًا كعظم الفخذ والصُّلب، أخذًا بقوله: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} الآية [البقرة:194]، وبقوله: {السِّنَّ بِالسِّنِّ} [المائدة:45].
          وذهب الكوفيُّون واللَّيث والشَّافعيُّ إلى أنَّه لا قَوَد في كسر العظام ما خلا السِّنَّ لعدم الثِّقة بالمماثلة، قال أبو داودَ: قيل لأحمدَ: كيف تقتصُّ مِنَ السِّنِّ؟ قال: تُبرَد، وذكر ابنُ رُشدٍ في «قواعده» أنَّ ابن عبَّاسٍ رُوي عنه أنَّه لا قِصاص في عظمٍ وكذا عن عمرَ، قال: وروي أنَّ رسول الله _صلعم_ لم يُقِدْ مِنَ العظم المقطوع في غير المَفْصِل، إلَّا أنَّه ليس بالقويِّ، وعن مالكٍ أنَّ أبا بكر بن محمَّدِ بن عمرو بن حزمٍ أقاد مِنْ كسر الفخذ، وفي «شرح الهداية» رُوي مثل هذا الأوَّل عن ابن مسعودٍ، قال في «الشَّرح»: ولا قِصاص بين الرَّجل وامرأته فيما دون النَّفس ولا بين الحرِّ والعبد.
          خامسها: قوله: (وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالحَقِّ، لاَ تُكْسَرُ ثَنِيَّتُهَا) ليس ردًّا لقول سيِّدنا رسول الله _صلعم_بل المراد الرَّغبة إلى مستحقِّ القِصاص أن يعفوَ، وإلى رسول الله صلعم في الشَّفاعة إليهم في العفو، وإنَّما حلف ثقةً بهم ألَّا يخيِّبوه أو ثقةً بفضلِ الله ولطفه أنَّه لا يخيِّبه ويجعل له مخرجًا لأنَّه كان ممَّن يتَّقيه كما سلف، بل يلهمهم العفو، ولم يجعله في معنى المتألِّي على الله بغير ثقةٍ، وفيه جوازُ الحلف فيما يظنُّه الإنسان، وجواز الثَّناء على مَنْ لا يُخاف عليه الفتنةُ بذلك، وفيه إثباتُ كرامات الأولياء واستحباب العفو عن القِصاص والشَّفاعة فيه.
          سادسها: ما ترجم له مِنَ الصُّلح في الدِّية ظاهرٌ فيما أورده، وقد قال _تعالى_: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ} الآية [البقرة:178].