التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب ما جاء في الإصلاح بين الناس

          ░1▒ (بَابُ: مَا جَاءَ فِي الإِصْلاَحِ بَيْنَ النَّاسِ)
          وقولِه _تعالى_: {لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ} الآية [النساء:114] وَخُرُوجِ الإِمَامِ إِلَى المَوَاضِعِ لِيُصْلِحَ بَيْنَ النَّاسِ بِأَصْحَابِهِ.
          2690- ثُمَّ ساقَ حديثَ سهلِ بن سعدٍ في خروجه ◙ ليُصلحَ بين بني عمرو بن عَوفٍ بطوله، وقد سلف في الصَّلاة [خ¦684].
          2691- وحديثَ مُعْتَمِرٍ: سمعتُ أبي قالَ: (إِنَّ أَنَسًا قَالَ لِلنَّبِيِّ _صلعم_: لَوْ أَتَيْتَ عَبْدَ اللهِ بْنَ أُبَيٍّ، فَانْطَلَقَ إِلَيْهِ وَرَكِبَ حِمَارًا...) الحديث، وقد أخرجه مسلمٌ أيضًا، كلاهما مِنْ حديث المُعْتَمِر عن أبيه عن أنسٍ، قال الإسماعيليُّ: يقال: سليمانُ لم يَسمع هذا مِنْ أنسٍ، ثُمَّ ساقه بلفظه عن أبيه أنَّه بلغَه عن أنسٍ... فذكره، وكذا قال أبو نُعَيْمٍ: إِنَّ هذا ممَّا لم يسمعه التَّيميُّ مِنْ أنسٍ، والرَّجل الَّذي قال: لَحِمارُ رسولِ الله _صلعم_ أطيَبُ مِنْ ريحِك، هو عبد الله بن رَوَاحة.
          والنَّجْوَى في الآية: السِّرُّ، قاله جماعةٌ، وقال النَّحَّاس: كلُّ كلامٍ ينفرد به جماعةٌ _سواءٌ كان سرًّا أو جهرًا_ فهو نَجْوى.
          وقوله: ({إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ}) يجوز أن يكون استثناءً ليس مِنَ الأوَّل، أي لكن مَنْ أَمرَ بصدقةٍ فإنَّ في نجواه خيرًا، ويجوز أن يكون المعنى: إلَّا نَجوى مَنْ أَمَرَ بصدقةٍ ثُمَّ حُذف.
          وقال الدَّاوُديُّ معناه: لا ينبغي أن يكونَ أكثرُ نجواهم إلَّا في هذه الخِلَال، ويكون أقلُّها فيما لا بُدَّ منه مِنَ النَّظر في أمر دُنياهم.
          ومعنى ({ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللهِ}): لوجهِه، وهو مثلُ قوله: ((إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ)) ولا شكَّ أنَّ الإصلاحَ بين النَّاس واجبٌ على الأئمَّة وعلى مَنْ ولَّاه اللهُ أمورَ المسلمين، وفعلَه الشَّارعُ لتتأسَّى به الأمَّةُ بعده.
          قال _تعالى_: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا} الآية [الحجرات:9] وكانت الصَّحابة إذا التَبَس عليهم أمرُ الطَّائفتين وذهبتا إلى التَّأويل ولم يتبيَّن ظلمُ إحداهما اعتزلوهما، ومَنْ يتبيَّن له أنَّ طائفتَه مظلومةٌ نَصَرَها.
          قال الْمُهَلَّبُ: وإنَّما يخرجُ الإمام ليُصلِحَ بين النَّاس إذا أَشكل عليه أمرُهم وتعذَّر ثبوتُ الحقيقة عنده منهم، فحينئذٍ يَنْهض إلى الطَّائفتين ويسمع مِنَ الفريقين، ومِنَ الرَّجل والمرأة ومِنْ كافَّة النَّاس سماعًا شافيًا يدلُّه على الحقيقة، هذا قول عامَّة العلماء، وكذلك ينهض الإمامُ إلى العقارات والأرَضينَ المُتَشَاحِّ في قسمتها فيُعاين ذلك، وقال عَطاءٌ: لا يحلُّ للإمام إذا تبيَّن له القضاء أن يصلح بين الخصوم، وإنَّما يَسَعه ذلك في الأموال المشكلة، فأمَّا إذا استنارت الحجَّة لأَحد الخصمين على الآخر وتبيَّن للحاكم موضعُ الظَّالم مِنَ المظلوم فلا يسعه أن يحملَهما على الصُّلح، وبه قال أبو عُبَيْدٍ، وقال الشَّافعيُّ: يأمرهما بالصُّلح ويؤخِّر الحُكمَ بينهما يومًا أو يومين فإن / لم يجتمعا لم يكن له ترديدُهما وأنفذَ الحكمَ بينهما، والحكمُ قبل البيان ظلمٌ، والحبسُ للمسلم بعد البيان ظلمٌ.
          وقال الكوفيُّون: إنْ طَمِعَ القاضي أن يَصطلح الخصمان فلا بأسَ أنْ يردِّدَهما، ولا ينفذ الحكم بينهما لعلَّهما يصطلحان، ولا يردُّهم أكثر مِنْ مرَّةٍ أو مرَّتين إن طمع في الصُّلح بينهم، فإن لم يطمع فيه أنفذ القضاء بينهم.
          واحتجُّوا بما رُوي عن عمرَ أنَّه قال: ردُّوا الخصومَ حتَّى يصطلحوا، فإنَّ فصْلَ القضاء يُحْدِثُ بين النَّاس الضَّغائنَ.
          وأمَّا مسيره _◙_ إلى عبد الله بن أُبيٍّ، فإنَّما فعله أوَّل قُدومه المدينة ليدعوَه إلى الإسلام إذ التَّبليغُ فرضٌ عليه، وكان يرجو أن يُسلم مَنْ وراءَه بإسلامه لرئاسته في قومه، وقد كان أهل المدينة عزموا أن يتوِّجوه بتاج الإمارة، لذلك قال سعد بن عُبادة لرسول الله _صلعم_: إنَّه صَنع ما صنع عن التَّوقف في الإسلام ما كانوا عزموا عليه مِنْ تَوْلِيَتِه الإمارة مع بعث الله _تعالى_ نبيَّه، فأبطل الباطلَ وصدَّق بالحقِّ وبلَّغ الدِّينَ.
          وفيه مِنَ الفقه أنَّ الإمام إذا مضى إلى موضعٍ فيه أعداءٌ له أنَّ على المسلمين أن يمضُوا معه ويحرسُوه، فإنْ جُنِيَ عليه نصروه، كما فَعل عبدُ الله بنُ رَوَاحة حين قال: (وَاللهِ لَحِمارُ رَسُولِ اللهِ أطيَبُ ريحًا مِنْكَ)، فإنْ نُوِزَع قاتلوا دونه.
          وقول أنسٍ: (فَبَلَغَنَا أَنَّها نَزَلَتْ {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا}) [الحجرات:9] يستحيل _كما قال ابن بطَّالٍ_ أن تكون نزلت في قصَّة عبد الله بن أُبيٍّ، وفي قتال أصحابه مع رسول الله _صلعم_ لأنَّ أصحابَ عبد الله ليسوا بمؤمنين، وقد تعصَّبوا له بعدَ الإسلام في قصَّة الإفك، وقد جاء هذا المعنى مبيَّنًا في هذا الحديث في كتاب الاستئذان مِنْ رواية أسامة بن زيد:مرَّ رسولُ اللهِ _صلعم_ بِمَجلسٍ فيه أَخْلاَطٌ مِنَ المشركينَ والمسلمينَ وعبَةِ الأوثانِ واليهود وفِيهِمْ عبدُ اللهِ بْنُ أُبَيٍّ، وأنَّ النَّبيَّ _صلعم_ لمَّا عرض عليهم الإيمانَ قال ابنُ أُبيٍّ: اجلسْ في بيتك فمَنْ جاءك يريد الإسلام... الحديث، فدلَّ أنَّ الآية لم تنزل في قصَّة ابن أُبيٍّ وإنَّما نزلت في قومٍ مِنَ الأوس والخزرج اختلفوا في حدٍّ فاقتتلوا بالعصا والنِّعال، قاله سعيد بن جُبيرٍ والحسن وقَتادة.
          قال: ويشبه أيضًا أن تكون نزلت في بني عمرو بن عوفٍ الَّذين خرج إليهم رسول الله _صلعم_ ليصلحَ بينهم.
          وقال مقاتلٌ في «تفسيره»: مَرَّ _◙_ على الأنصار وهو راكبٌ على حماره يَعْفُور، فبال فأمسك ابنُ أُبَيٍّ بأنفه وقال لرسول الله: خَلِّ للنَّاس سبيلَ الرِّيح مِنْ نتن هذا الحمار، فشقَّ عليه قوله فانصرف، فقال ابنُ رواحَة: ألا أراك أمسكت على أنفك مِنْ بول حماره، والله لهو أطيبُ مِنْ ريح عِرضك، فكان بينهم ضربٌ بالأيدي والسُّعف، فرجع رسول الله _صلعم_ إليهم فأصلحَ بينهم، فأنزل الله: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا} الآية [الحجرات:9].
          وقال ابن عبَّاسٍ في تفسيره: وأعان ابنَ أُبيٍّ رجالٌ مِنْ قومه وهم مؤمنون فاقتَتلوا، ومَنْ زعم أنَّ قتالَهم كان بالسُّيوف فقد كذب. قلتُ: وهذا يبيِّن لك ما أستبعدَه ابنُ بطَّالٍ، وفيه إباحة مشي التَّلامذة والشَّيخُ راكبٌ، وقال ابن التِّينِ: ما ذكره البخاريُّ عليه أكثرُ المفسِّرين، ثُمَّ قال: وقال مجاهدٌ: الطَّائفتان رجلان، والطَّائفة تكون رجلًا إلى ألفٍ.
          وقوله: ({اقْتَتَلُوا}) استدعى بعضُهم قتل بعضٍ، وإنَّما خرج _◙_ إليهم ولم ينفذ إليهم ليأتوه لكثرتهم ولِقُرْب عهدهم بالإسلام، وليكون خروجُه أعظمَ في نفوسِهم وأقربَ إلى مُحاسنةِ كلِّ واحدٍ منهم بنفسِه، وفي حديث أنسٍ أنَّه _◙_ كان يمضي بنفسه ليبلِّغ ما أنزل الله لِقُرب عهدهم بالإسلام.
          قال الدَّاوُديُّ: وكان هذا قبلَ إسلامِ عبد الله بن أُبيٍّ، وفيه ركوبُه الحمار وكان على سبيل التَّيسير، ركب مرَّةً فرسًا لأبي طلحة في فَزَعٍ كان بالمدينة، وركب يومَ حُنَيْنٍ بَغلتَه لِيَثْبُتَ المسلمون إذا رأَوه عليها، ووقف بعرفةَ على راحلته وسار عليها مِنْ هناك إلى مُزْدَلِفة، ومِنْ مُزْدَلِفة إلى مِنًى وإلى مكَّة.
          وقوله: (وَهِيَ أَرْضٌ سَبِخَةٌ) هو بكسر الباء أي: ذات سِباخٍ، وكان عبد الله بن أُبيٍّ مِنَ الخَزْرج، والقائلُ له: (حِمَارُ رَسُولِ اللهِ _صلعم_ أَطْيَبُ رِيْحًا مِنْكَ) مِنَ الأوس، وهو عبد الله بنُ رَوَاحة كما سلف لكنَّه خزرجيٌّ أيضًا، وعبارة ابن التِّينِ: قيل: إنَّه عبدُ الله بن رَوَاحة.