التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب كيف يكتب: هذا ما صالح فلان بن فلان وفلان بن فلان

          ░6▒ (بَابٌ: كَيْفَ يُكْتَبُ: هَذَا مَا صَالَحَ فُلاَنُ بْنُ فُلاَنٍ، وَفُلاَنُ بْنُ فُلاَنٍ، وَإِنْ لَمْ يَنْسُبْهُ إِلَى قَبِيلَتِهِ أَوْ نَسَبِهِ؟)
          2698- ذكر فيه حديثَ البراءِ قال: (لَمَّا صَالَحَ النَّبيُّ _صلعم_ أَهْلَ الحُدَيْبِيَةِ كَتَبَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ كِتَابًا، فَكَتَبَ: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ، فَقَالَ المُشْرِكُونَ: لاَ تَكْتُبْ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ، لَوْ كُنْتَ رَسُولًا لَمْ نُقَاتِلْكَ) الحديث بطوله مِنْ طريقَيه، وسيأتي قريبًا في الشُّروط [خ¦2731] بنحوه مِنْ حديث المِسْوَر ومروانَ يخبران عن أصحاب رسول الله صلعم.
          إذا تقرَّر ذلك فالكلام عليه مِنْ وجوهٍ:
          أحدها: الحُدَيْبِيةُ _مخفَّفة الياء وتشدَّد_ اسم بئرٍ هناك، وفي كونها مِنَ الحرم قولان: قال مالكٌ: نعم، وخالفه الشَّافعيُّ، ولا بأس عند مالكٍ أن ينحر هَدْي العُمرة في الحرم، وعندنا الأفضل له المروة والحاجِّ مِنًى، وكانت هذه الغزوة في ذي القَعدة سنة ستٍّ، وصالح قريشًا على سنتين وقيل: ثلاثٍ قاله ابن جُرَيجٍ، وقيل: أربعٌ قاله عُروة، وقيل: عشرٌ قاله ابن إسحاق، وأقام بالحديبية شهرًا ونصفًا وقيل: خمسين ليلةً.
          الثَّاني: أصل هذا الباب أن يُكتب في اسم الرَّجل مِنْ تعريفه ما لا يُشْكل على أحدٍ، فإن كان اسمه واسم أبيه مشهورين شهرةً ترفع الإشكال لم يُحتجْ في ذلك إلى زيادة ذكر نسبه ولا قبيلته، ألا ترى أنَّه _◙_ اقتصر في كتاب المقاضاة مع المشركين على أن كتب محمَّدُ بن عبد الله، ولم يزد عليه لمَّا أُمن الالتباس فيه لأنَّه لم يكن هذا الاسم لأحدٍ غير النَّبيِّ _صلعم_ واستحبَّ الفقهاء أن يكتب اسمه واسم أبيه وجدِّه ونسبه ليرفع الإشكال فيه، فَقَلَّما يقع مع ذكر هذه الأربعة اشتباهٌ في اسمه ولا التباس في أمره.
          وفيه رجوعه _◙_ إلى اسمه واسم أبيه في العقد، ومحوه بخطِّه النُّبوَّة إنَّما كان لأنَّ الكلام في الصُّلح وميثاق العقد كان إخبارًا عن أهل مكَّة، ألا تراهم قالوا: لو نعلم أنَّك رسول الله ما صددناك ولا قاتلناك، فخشُوا أن ينعقد عليهم إقرارُهم برسالته ◙، فلذلك قالوا ما قالوا هربًا مِنَ الشَّهادة بذلك.
          الثَّالث: قوله: (فَقَالَ عَلِيٌّ: مَا أَنَا بِالَّذِي أَمْحَاهُ) يقال: مَحَوْتُ الشَّيءَ أَمْحُوه، ومَحَيْتُه محيانًا وأَمْحَاه، مثل: قَلَى يَقْلي وسَقَى يَسْقي، والَّذي في القرآن: {يَمْحُو اللهُ مَا يَشَاءُ} [الرعد:39] ومحو الرَّحمن مِنَ الكتاب إنَّما هو لأنَّه ربَّما آل النسَّاخ في ذلك إلى فساد ما كانوا أحكموه مِنَ الصُّلح، ولئن مُحي فهو في الصُّدور باقٍ، وإباء عليٍّ مِنْ محوه أدبٌ منه وإيمانٌ، وليس بعصيانٍ فيما أمره به، والعصيان هنا أبرُّ مِنَ الطَّاعة له وأجملُ في التَّأدُّب والإكرام.
          قال الطَّبريُّ: وفي كتابه _◙_: ((بِاسْمِكَ اللهُمَّ))، ولم يأبَ عليهم أن يكتبَه إذ لم يكن في كتابه ذلك نقضُ شيءٍ مِنْ شروط الإسلام ولا تبديل شيءٍ مِنْ شرائعه، وإن كانت سنَّته الجارية بين أمَّته أن يستفتحوا كتبهم بالبسملة، وكان فعله ذلك والمسلمون يومئذٍ في قلَّةٍ مِنَ العدد وضعفٍ مِنَ القَّوة، والمشركون في كثرةٍ مِنَ العدد وشدَّةٍ مِنَ الشَّوكة، فتبيَّن أنَّ نظير ذلك إذا حدثت للمسلمين حالةٌ تشبه حالة المسلمين يوم الحُدَيْبيةِ في القلَّة والضَّعف، وامتنع المشركون مِنَ الصُّلح إلَّا على حذف بعض أسماء الله _تعالى_ وصفاته، أو حذف بعض محامده أو بعض الدُّعاء لرسوله _◙_ أو حذف بعض صفاته، ورأى القَيِّمُ بأمر المسلمين أنَّ النَّظر للمسلمين إتمام الصُّلح أنَّ له أنْ يفعله لفعله _◙_ في ذلك، ولو امتنعوا مِنَ الصُّلح على أن يبتدئ الكتاب: هذا ما قضى وأقرَّ عليه فلانٌ وفلانٌ، ويَحذف منه كل ما يبتدأ به مِنْ ذكر أسماء الله وصفاته في ابتداء الكتاب أو يحذف منه ذكر الخلافة أنَّه ليس في ترك ذلك ترك فرضٌ مِنْ فرائض الله تعالى لا يسعُ المسلمين تضييعه، لأنَّه _◙_ لمَّا أجابهم إلى ما أرادوا مِنْ كتاب محمَّدِ بن عبد الله لم يكن ذلك مُزيلًا لصفته مِنَ النُّبوَّة، ولا يكون للخليفة إذا لم يوصف بالخلافة دخول مَنْقَصةٍ عليه، ولا زواله عن منزلته مِنَ الإمامة، كما لم يكن في رضا رسول الله أن يكتب محمَّد بن عبد الله منقصةٌ عن النُّبوَّة الَّتي جعلها الله فيه.
          الرَّابع: قوله: (بِجُلُبَّانِ السِّلاَحِ، فَسَأَلُوهُ مَا جُلُبَّانُ السِّلاَحِ؟ قال: القِرَابُ بِمَا فِيهِ) وفُسِّرَ أيضًا بالسَّيف والقوس ونحوه، وقال في الرِّواية الأخرى: ((لا يدْخِلُ مَكَّةَ سِلاَحًا إِلَّا فِي القِرَابِ)) وفي لفظٍ: ((ولا يَحمِلُ سِلاحًا إلَّا سُيوفًا))، و(قَالَ: إِلَّا بِجُلُبِّ السِّلاَحِ) أنكره كلَّه القزَّاز، وقال: أحسب بجلباب السِّلاح أي ما يستره. قال: ولذلك فُسِّر بالقِراب بما فيه، وإنَّما يُراد به: استتاره، وقال الأَزهَريُّ: القراب غمد السَّيف، والجُلُبَّان مِنَ الجُلْبَة وهي الجلدة الَّتي تجعل على القتب، والجلدة الَّتي تغشى البهيمة؛ لأنَّها كالغشاء للقِراب.
          ورواه ابن قُتيبة بتشديد الباء وضمِّ اللَّام، وكذا ضبطه بعضُ المحدِّثين قال: وهو أوعية السِّلاح بما فيها، وما أُراه سُمِّي به إلَّا لجفائه، ولذلك قيل للمرأة الجافية الغليظة: جُلُبَّانةٌ، / قال الهَرَويُّ: والقول ما قاله الأزهَريُّ، وقَالَ الخَطَّابِيُّ: الجُلُبَّان يشبه الجراب مِنَ الأدم يضع الرَّاكبُ فيه سيفه بقِرابه ويضع فيه سوطه، يعلِّقه الرَّاكب مِنْ واسطة رحله أو مِنْ آخره، تحتمل أن تكون اللَّام ساكنةً وهو جمع جُلُبٍّ، ودليله قوله في رواية مُؤَمَّلٍ عن سفيان: (إلَّا بِجُلبِّ السَّلاحِ)، قال: وجُلُبُّ السِّلاح نفس السِّلاح، فجُلبُّ الرَّجل نفس عيبته، كأنَّه يريد به نفس السَّلاح، وهو السَّيف خاصَّةً مِنْ غير أن يكون معه أدوات الحرب مِنْ لَأمةٍ ورمحٍ وجحفةٍ ونحوها، ليكون علامةً للأمن، والعرب لا تضع السِّلاح إلَّا في الأمن.
          قال: وقد جاء: جُرُبَّانِ السَّيْفِ في هذا المعنى قال الأصمعيُّ: الجُرُبَّان: قِراب السَّيف فلا يُنْكَر أن يكون ذلك مِنْ باب تعاقب اللَّام والرَّاء، والَّذي ضُبِط في أكثر الكتب: (بجُلُبِّ السِّلاحِ) بضمِّ اللَّام وتشديد الباء، وهو يرد التَّأويل السَّالف، وضبط الجَوهَريُّ وابنُ فارسٍ: جُرُبَّان بضمِّ الرَّاء وتشديد الباء، قال ابن فارسٍ: جُرُبَّان السَّيف: قِرابه وقيل: حَدُّه.
          الخامس: قوله: (وَصَالَحَهُمْ عَلَى أَنْ يَدْخُلَ هُوَ وَأَصْحَابُهُ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ) وفي روايةِ ابن عمرَ في بابها: وَلاَ يُقِيمَ بِهَا إِلَّا مَا أَحَبُّوا، يحتمل ذلك في القضيَّة كقوله: {فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِنْدِكَ} [القصص:27] وقال ابن التِّين هناك: يجمع بينهما بأنَّ مجيئهم لمَّا كانت ثلاثة أيَّامٍ فعبَّر عنها بما آلت إليه وهو الثَّلاث.
          وقوله: (أَنَا رَسُولُ اللهِ وَأَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ) مِنْ خاصَّته أنَّه لم يصبه ولادة غير الحلال مِنْ آدم وحواء ♂ وهلمَّ جَرًّا، وقد قال: ((وُلِدْتُ منْ نِكَاحٍ لَا منْ سِفَاحٍ)).
          وقوله: (فَمَحَاهُ رَسُولُ اللهِ _صلعم_ بِيَدِهِ) أي بعدما أراه عليٌّ الخطَّ، ويحتمل أن يكون يعرفه بكثرة الدُّرْبة.
          وقوله: (فَأَخَذَ النَّبِيُّ _صلعم_ الكِتَابَ فَكَتَبَ) أي أمر عليًّا فكتب، كضرب الأميرُ: أَمَرَ به، وقيل: محاه رسول الله صلعم.
          وقوله: (فَكَتَبَ) يعني عليًّا، قال الشَّيخ أبو الحسن: ما رأيت هذا اللَّفظ (فَكَتَبَ) إلَّا في هذا الموضع، وقيل: إنَّه مختصٌّ بهذا الموطن، وقيل: إنه كالرَّسم لأنَّ بعض مَنْ لا يكتب يَرسمُ اسمَه بيده لتكراره عليه، وقيل: كتب، وأمَّا قوله: {وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ} الآية [العنكبوت:48] لأنَّه تلا بعدُ، وأمَّا قوله: ((إنَّا أمَّةٌ أُمِّيَّةٌ)) لأنَّه كان فيهم مَنْ يكتب لكنَّ عادة العرب يسمُّون الجملةَ باسمِ أكثرِها.
          فلذلك كان أكثرُ أمره أنَّه لا يحسن فكتب مرَّةً، وقيل: لمَّا أخذ القلم أوحى الله إليه فكتب، وقيل: ما مات حتَّى كتب، وقيل: كتب على الاتِّفاق مِنْ غير قصدٍ فانتظم ذلك منه.
          قال السُّهَيْلِيُّ: وكتب عليٌّ ذلك اليومَ نسختين، إحداهما مع رسول الله _صلعم_ والأخرى مع سُهيلٍ، وشهد فيها أبو بكرٍ وعمرُ وعبد الرَّحمن بن عوفٍ وسعد بن أبي وقَّاصٍ وأبو عبيدة بن الجرَّاح ومحمَّدُ بن مسلمة ومِكْرَز بن حفصٍ _وهو يومئذٍ مشركٌ_ وحُوَيْطِب بن عبد العُزَّى وسيأتي له زيادةٌ في كتابه.
          ووقع في بعض نُسخ «أطراف» أبي مَسعودٍ أنَّه _◙_ أخذ الكتاب ولم يحسن أن يكتبَ، فكتب مكان رسول الله: محمَّدًا، وكتب: هذا ما قاضى عليه محمَّدٌ؛ فزيادةٌ منكرةٌ والثَّابت ما أسلفناه.
          (فَكَتَبَ) أي أمر عليًّا كما سلف، وفي روايةٍ: فَأَخَذَ الكِتابَ وَلَيْسَ يُحْسِنُ يَكْتُبُ فَكَتَبَ. وإنَّ مِنْ معجزاته أنَّه يحسن مِنْ وقته لأنَّه خرق العادة، وقال به أبو ذرٍّ الهَرَويُّ وأبو الفتح النَّيْسَابُوريُّ وأبو الوليد الباجِيُّ وصَنَّف فيه وأُنْكر عليه.
          السَّادس: قوله: (فَتَبِعَتْهُم ابْنَةُ حَمْزَةَ) وفي حديث آخر: أَنَّ زَيْدًا أَتَى بِها، واحتجَّ حين خاصم فيها لأنَّه تجشَّم الخروج بها، فإمَّا أن يكون في إحدى الرِّوايتين وهْمٌ أو يكون خرج مرَّةً فلم يأتِ بها وسيقت إليه في هذه المرَّة فأتى بها فتناوَلها عليٌّ، ذكره ابن التِّين، وفيه تناولُ غير ذات المَحْرَم عند الاضطرار إليه قاله الدَّاوُديُّ، والصَّحيح أنَّها الآن ذاتُ محرمٍ لأنَّ فاطمة أختُها مِنَ الرَّضاعة، وهي تحت عليٍّ فهي ذات مَحرمٍ إلَّا أنَّها غيرُ مؤبَّدة التَّحريم، وفيه خروج فاطمة في هذه العمرة.
          وقولها: (يَا عَمِّ) إن قالته لرسول الله صلعم فهو عمُّها مِنَ الرَّضاعة، وإن قالته لزيدٍ فكان مصاحبًا لحمزة مؤاخيًا له، وقد تقول له ولعليٍّ ولجعفرٍ لسنِّهم وصغرِها، وقضاؤه _◙_ لخالتها فيه دِلالةٌ أنَّ للخالة حقًّا في الحضانة فقال هنا: (الخَالَةُ بِمَنْزِلَةِ الأُمِّ) وقال في روايةٍ أخرى خارج الصَّحيح: ((إِنَّهَا أمٌّ)) يعني في الحضانة وهو أصلٌ في الحكم لها بالحضانة، ومالكٌ يقول في «المدوَّنة»: هي أحقُّ مِنَ الأب، وهو مشهور مذهبه وقيل: الأب أولى منها، قال الطَّبريُّ: وفيه دِلالةٌ على أنَّ أمَّ الصَّغير ومَنْ كان مِنْ قرابتها مِنَ النِّساء أولى بالحضانة مِنْ عَصَبتها مِنْ قبل الأب وإن كانت ذات زوجٍ غير الوالد الَّذي هو منه، وذلك أنَّه _◙_ قضى بابنة حمزة لخالتها في الحضانة وقد تنازع فيها ابنا عمِّها عليٌّ وجعفرٌ ومولاها أخو أبيها الَّذي كان _◙_ آخى بينه وبينه، وخالتُها يومئذٍ لها زوجٌ غيرُ أبيها، وذلك بعد مقتل حمزة، فصحَّ قول مَنْ قال: إنَّه لا حقَّ لعَصَبة الصَّغير مِنْ قبل الأب في حضانته ما لم يبلغ حدَّ الاختيار مع قرابته مِنَ النِّساء مِنْ قبل الأمِّ وإن كُنَّ ذات أزواجٍ.
          فإن قلت: فإذا كانت قرابةُ الأمِّ أحقَّ وإن كُنَّ ذات أزواجٍ فَهَلَّا كانت الأمُّ ذات الزَّوج كذلك كما كانت الخالةُ ذاتُ الزَّوج أحقَّ به. قيل: فرَّق بين ذلك قيام الحجَّة بالنقل المستفيض وراثة عن النَّبيِّ _صلعم_ أنَّ الأمَّ أحقُّ بحضانة الطِّفل ما لم تنكح، فإذا نكحت فالأب أحقُّ بحضانته، وقد رُوي ذلك عن النَّبيِّ _صلعم_ مِنْ حديث عمرو بن شُعيبٍ عن أبيه عن جدِّه، وكلُّ واحدةٍ مِنَ المسألتين أصلٌ: إحداهما مِنْ جهة النَّقل المستفيض، والأخرى مِنْ جهة نقل الآحاد العدول، وغير جائزٍ ردُّ حكم إحداهما على الأخرى؛ إذ القياس لا يجوز استعماله إلَّا فيما لا نصَّ فيه مِنَ الأحكام.
          السَّابع: قوله لعليٍّ: (أَنْتَ مِنِّي) فيه مَنْقبةٌ جليلةٌ له، وأعظمُ منها قوله: (وَأَنَا مِنْكَ) وكذا قولُه لجعفرٍ وزيدٍ، ومقالتُه لزيدٍ هو مِنْ قوله _تعالى_: {فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ} [الأحزاب:5] وهو في هذا الموضع لا يصلح أن يكون إلَّا للانتساب فقط لا الموارثة لأنَّه قد كان نزل في القرآن تركُ التَّبنِّي وتركُ التَّوارث به وبالحِلْف، ولم يبق مِنْ ذلك إلَّا الانتساب أن ينتسب الرَّجل إلى حلفائه ومعاقديه خاصَّةً، وإلى مَنْ أسلم على يديه، فيكتب كما يكتب النَّسب والقبيلة غير أنَّه لا يرثه بذلك.
          وفي الحديث أنَّه قال: لمَّا قَالَ لِزَيدٍ حَجَلَ، قال أبو عبيدٍ: هو أن يَرفع رِجْلًا ويقفَ على الأُخرى مِنَ الفرح، قال: / وقد يكون بالرِّجلين معًا إلَّا أنَّه قفزٌ.
          الثَّامن: إن قلتَ: اشترطوا عليه ألَّا يخرج بأحدٍ مِنْ أهلها إن تبعه ثُمَّ خرجتْ بنتُ حمزة ومرَّت معه. قلتُ: إنَّ النِّساء لم يدخلْنَ في العهد، والشَّرط إنَّما وقع على الرِّجال فقط، وقد بَيَّنَه البخاريُّ في كتاب الشُّروط بعد هذا [خ¦2711]، وفي بعض طُرقه: فَقَالَ سُهَيْلٌ: وعَلَى ألَّا يَأْتيَكَ مِنَّا رَجُلٌ هُوَ عَلَى دِينِكَ إلَّا رَدَدْتَهُ إِلَيْنَا. ولم يذكر النِّساء، فصحَّ بهذا أنَّ أخذه لابنة حمزة كان لهذه العلَّة، ألا تراه ردَّ أبا جَنْدَلٍ إلى أبيه وهو العاقد لهذه المقاضاة.
          وقال البخاريُّ فيما سيأتي: يقول الله _تعالى_: {إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ} الآية [الممتحنة:12] ففيه نسخ السُّنَّة بالقرآن، قالَ السُّهَيْلِيُّ: وفي قوله: ولاَ يَأْتِيكَ مِنَّا رَجُلٌ... إلى آخره منسوخٌ عند أبي حنيفة بحديث سريَّة خالدٍ حين وجَّهه رسول الله _صلعم_ إلى خَثْعَم وفيهم ناسٌ مسلمون فاعتصموا بالسُّجود فقتلهم خالدٌ، فوداهم رسول الله _صلعم_ نصف الدِّية، وقال: ((أَنَا بَرِيءٌ منْ كلِّ مُسْلِمٍ بينَ مُشْرِكِينِ)) وقال فقهاء الحجاز: ذلك جائزٌ ولكن للخليفة الأكبر لا لِمَنْ دونه، وفيه نسخُ السُّنَّة بالقرآن على أحد القولين، فإنَّ هذا العهد كان يقتضي ألَّا يأتيَه مسلمٌ إلَّا ردَّه الله، فنسخ الله ذلك في النِّساء خاصَّةً، على أنَّ لفظ المقاضاة: لا يأتيك رجلٌ وهو إخراج النِّساء، وقيل: إنَّما جاز ردُّ المسلمين إليهم في الصُّلح لقوله: ((لَا يَدْعُونِي إِلَى خُطَّةٍ)) إلى آخره، وفي ردِّ المسلم إلى مكَّة عِمارةُ البيت وزيادة خيرٍ مِنَ الصَّلاة بالمسجد الحرام وطوافه بالبيت، فكان هذا مِنْ تعظيم حرمات الله تعالى، فعلى هذا يكون حكمًا مخصوصًا بمكَّة وبرسول الله _صلعم_ وغير جائزٍ لِمَنْ بعده كما قال العراقيُّون، وقيل: إنَّما ردَّ أبا جَندلٍ _واسمه العاص_ لأنَّه كان يأمن عليه القتل بحرمة أبيه سُهَيْل بن عمرٍو، وفيه اختصاص القوم فيما يراه جعالة في علمه، والحجَّة في ذلك مِنْ كل واحدٍ منهم، وهذه خواتم معجلة على روايات لم يذكرها البخاريُّ هنا.
          2731- 2732- وقد ساق البخاريُّ قصَّة الحُدَيْبِية مطوَّلةً مِنْ حديث مروانَ والْمِسْوَر في الشُّروط فلنشرحها هنا لتصير مجموعةً في موضعٍ واحدٍ، واسم العين الَّذي بعثه مِنْ خزاعة بُسْر _بالسِّين المهملة_ ابن سفيان بنِ عمرو بن عُوَيِمر الخُزاعيُّ قاله ابن إسحاق في «سِيَره»، وهو الَّذي بعثه أيضًا مع بُدَيْل بن أمِّ أَصْرَم عام الفتح ليستنفرا خُزاعة. وغديرُ الأَشْطَاطِ بطاءين مهملتين وبعضهم يقول بالمعجمتين، قال أبو عبيدٍ: هو تلقاء الحُدَيبية، وقيل: وراء عُسْفَان، وهو جمع شطٍّ وهو السَّنام، وشطُّ الوادي أيضًا جانبه.
          و(الغَمِيْمِ) وهو بغينٍ معجمةٍ وميمٍ مكسورةٍ، وذكر صاحب «المطالع» فيه ضمَّ الغين وفتح الميم، وردَّه صاحب «التَّثقيف» فقال: ويقولون لموضعٍ بقرب مكَّة: الغُمَيْم _على التَّصغير_ والصَّواب الفتح، جاء ذكره في «كتاب البخاريِّ» وغيره، وكذا هو أينما وقع في «شعر ابن أبي ربيعة» وغيره، وقال ابن حَبيبٍ: الغميم بجانب المَرَاض، والمَرَاض بين رَابِغ والجُحْفَة، وقال الحازميُّ: المصغَّر وادٍ في ديار حَنْظَلة مِنْ بني تميمٍ.
          والطَّلِيْعَةُ الَّتي تخرج لأخذ خبر العدوِّ.
          و(قَتَرَةِ الْجَيْشِ) هو غبرة حوافر الدَّوابِّ غبرةٌ سوداء، ومثله: {تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ} [عبس:41].
          وقوله: (حَتَّى إِذَا كَانَ بِالثَّنِيَّةِ) قال الدَّاُوديُّ: يعني الَّتي أسفل مكَّة، ومنها: ولمَّا برَكت ناقتُه _◙_ قال النَّاس: حَلْ حَلْ، وهو زجر النَّاقة إذا حملها على السَّير بسكون اللَّام، فإذا ثنَّيت قلت: حَلٍ حَلْ بكسر اللَّام والتَّنوين في الأوَّلى وسكونها في الأُخرى، كقولهم: بَخٍ بخْ وصَهٍ صهْ، ويجوز في الثَّانية كسر اللَّام كما ضبط في بعض الكتب، قال ابنُ سِيدَهْ: هو زجرٌ لإناث الإبل خاصَّةً، ويقال: حلا وحَلِي لا حَلِيتِ، وقد اشتُقَّ منه اسمٌ فقيل: الحَلْحَالُ في شِعر كُثيِّرِ عزَّةَ، قال الجَوهَريُّ: وحَوْبَُِ زجرٌ للبعير.
          ومنها قوله: (أَلَحَّتْ) وهو بحاءٍ مهملةٍ مشدَّدةٍ، أي لزمَتْ مكانَها ولم تنبعث.
          ومنها (خَلَأَتْ) وهو بالخاء المعجمة والهمز وهو كالحِران في الخيل، قال ابن فارسٍ والهَرَويُّ: ألحَّ الجمل وخَلَأَتِ النَّاقةُ، قال ابن فارسٍ: ولا يقال للجمل خَلَأ، وكذا قالَ ابنُ بَطَّالٍ: الخَلَأُ في النُّوق مثل الحِران في الخيل، فلمَّا قال ذلك وظنُّوا أنَّ ذلك مِنْ خُلُقها فقال _◙_: (مَا خَلَأَتْ، وَمَا ذَاكَ لَهَا بِخُلُقٍ) أي بعادةٍ، وهو دالٌّ على أنَّ الأخلاق المعروفة مِنَ الحيوان يحكم بها على الطَّارئ الشَّاذِّ، وكذلك في النَّاس إذا نُسب إنسانٌ إلى غير خُلُقه المعلوم في هفوةٍ كانت منه لم يحكم بها.
          وقوله: (وَلَكِنْ حَبَسَهَا حَابِسُ الفِيلِ) يريد أن الله _╡_ حَبسها عن دخول مكَّة كما حبس الفيل حين جيء به لهدم الكعبة، قَالَ الخَطَّابيُّ: والله أعلم أنَّهم لو استباحوا مكَّة لأتى القتلُ على قومٍ سبق في علم الله أنَّهم سيُسلِمون ويخرج مِنْ أصلابهم ذرِّيَّةٌ يؤمنون، فهذا موضع التَّشبيه بحبسها، قال الدَّاوُديُّ: لمَّا رأى _◙_ بُروك القَصْواء عَلِم أنَّ الله _╡_ أراد صرفَهم عن القتال ليقضي الله أمرًا كان مفعولًا.
          ومنها (الخُطَّة) وهي بضمِّ الخاء المعجمة وبالطَّاء المهملة؛ الحالة وقال الدَّاوُديُّ: الخَصْلة، وقال صاحب «المطالع»: قضيَّةٌ وأمرٌ.
          ومنها قوله: (يُعَظِّمُونَ فِيهَا حُرُمَاتِ اللهِ) يعني البلدة الحرام فيكفُّون عن القتال فيه تعظيمًا للحرم.
          قال ابن بَطَّالٍ: يريد بذلك موافقة الله في تعظيم الحرمات لأنَّه فهم عن الله _تعالى_ إبلاغَ الأعذار إلى أهل مكَّة، فأبقى عليهم لما سبق في علمه مِنْ دخولهم في دين الله أفواجًا.
          ومنها الثَّمَدُ وهو الماء القليل الَّذي لا مادَّة له، وقال الدَّاوُديُّ: هو العين، وقيل: هو ما يظهر مِنَ الماء زمن الشِّتاء ويذهب في الصَّيف، قال بعضهم: لا يكون إلَّا فيما غلظ مِنَ الأرض.
          وقوله: (قَلِيلِ المَاءِ) أكَّده لأنَّه لغةً: القليل مِنَ الماء كما سلف [خ¦2698] [خ¦2699].
          ومنها قَوْلُهُ: (يَتَبَرَّضُهُ النَّاسُ تَبَرُّضًا) أي يأخذونه قَلِيلًا قَلِيلًا، وأصله اليسيرُ مِنَ العطاء، وعبارة ابن بَطَّالٍ أنَّه جمع الماء باليدين، وزعم بعضهم في «شرح شِعر لَبيدٍ» أنَّه القليل مِنْ ماء السَّماء، قال صاحب «العين»: ماءٌ بَرْضٌ: قليلٌ، / وتَبَرَّضَ الماءَ: جمعَ البَرْضَ منه.
          ومنها قوله: (فَلَمْ يُلَبِّثْهُ النَّاسُ) وهو بثاءٍ مثلَّثةٍ، قال ابن التِّين: أي لم يتركوه، ولَبِث غير مُتَعدٍّ، وعدَّاه هنا لأنَّه رباعيٌّ مِنْ أَلْبَثَ يُلْبِثُ.
          وقوله: (حَتَّى نَزَحُوهُ) أي لم يُبْقُوا منه شيئًا، يقال: نَزَحْتُ البئرَ فَنَزَحَتْ لازمٌ ومتعدٍّ قاله ابن التِّين، وقال ابن بطَّالٍ: يقال نَزَحَتِ البئرُ: نَقَصَ ماؤها، وبئرٌ نزوحٌ: قليلةُ الماء عن صاحب «العين».
          وقوله: (فَانْتَزَعَ سَهْمًا مِنْ كِنَانَتِهِ) هي: الجَعْبَة الَّتي فيها النَّبل.
          وقوله: (يَجِيشُ لَهُمْ بِالرِّيِّ) هو بجيمٍ ثُمَّ مثنَّاةٍ تحتُ ثُمَّ شينٍ معجمةٍ؛ فاضَ، قالَ ابنُ سِيْدَه: جاشت تَجيش جَيْشًا وجُيُوشًا وجَيَشَانًا، وكان الأصمعيُّ يقول: جاشت _بغير همزٍ_ فارت، وبالهمز: ارتفعت، وقال الدَّاوُديُّ: معناه يأتي بالرِّيِّ.
          ومنها (صَدَرُوا) أي رجَعوا رِواءً، وهو مِنْ أعلام نبوَّته وبَركته، ومجيئه مِنْ غير أن يستأمن قريشًا وبينه وبينهم ما لا يخفى جريًا على عادة العرب مِنْ أنَّ مكَّة غير ممنوعةٍ ممَّنْ قصدها.
          ومنها: (بُدَيْلُ بْنُ وَرْقَاءَ) وكان مِنْ دُهاة العرب، قال أبو عُمَر: أسلم يوم الفتح بِمَرِّ الظَّهران وشهد حُنَيْنًا والطَّائفَ وتَبُوكَ وكان مِنْ كبار مُسْلِمة الفتح، وقيل: أسلم قبل ذلك، وتوفِّي في حياة رسول الله _صلعم_ وقال ابن حِباَّن: كان سيِّدَ قومه.
          وقوله: (فِي نَفَرٍ) النَّفر: مِنْ ثلاثةٍ إلى عشرةٍ قاله ابن فارسٍ، وقال ابن عُزَيْز: ما بين العشرة إلى الثَّلاث.
          ومنها العَيْبَةُ بعين مهملةٍ ثُمَّ مثنَّاةٍ تحتُ ثُمَّ باءٍ موحَّدةٍ، وهي هنا موضعُ سرِّه وأمانته، كعَيْبَةِ الثِّياب الَّتي يضع فيها الإنسانُ جيِّد ثيابه.
          ومنها قوله: (نُصْحِ النَّبِيِّ صلعم) قال ابن التِّين: ضُبِطَ بفتح النُّون على أنَّه مصدرٌ مِنْ ينصح، وفي بعض الكتب بضمِّها على الاسم مِنْ نصحٍ.
          و(تِهَامَةَ) بكسر التاء.
          ومنها: (أَعْدَادَ مِيَاهِ الحُدَيْبِيَةِ) قال الدَّاوُديِّ: يعني موضعًا بمكَّة، وقَالَ الخَطَّابيُّ وابنُ بطَّالٍ: هو جمع عِدٍّ، وهو جمع الماء الدَّائم الَّذي لا ينقطع، يقال: ماءٌ عِدٌّ ومياهٌ أعدادٌ، وأصل الماء مَوهٌ بدليل جمعه على مياهٍ، فالهمز إذنْ بدلٌ مِنَ الهاء، ولذلك يُقال في تصغيره: مُوَيْهٌ.
          ومنها: (العُوذُ المَطَافِيلُ) قال السُّهَيْلِيُّ: هو جمع عائذٍ، وهي النَّاقة الَّتي معها ولدُها، يريد أنَّهم خرجوا بذوات الألبان ليزَّوَّدوا بألبانها ولا يرجعوا حتَّى يناجزوك في زعمهم، وإنَّما قيل للنَّاقة عائذٌ وإن كان الولد هو الَّذي يعوذها لأنَّها عاطفٌ عليه، كما قالوا: تجارةٌ رابحةٌ وإن كانت مربوحًا فيها، لأنَّها في معنى ناميةٍ وزاكيةٍ.
          وقَالَ الخَطَّابِيُّ: (الْعُوذُ) الحديثات النَّتاج، قال: و(المَطَافِيلُ) قيل: الأمَّهات الَّتي معها أطفالُهَا، يريد أنَّ هذه القبائل قد احتشدت لحربه وساقت أموالها، وقال ابن التِّين: تجمع أيضًا على عِيذانٍ مثل راعٍ ورِعْيان، تقول: هي عائذٌ بيِّنة العُؤوذ إذا ولدت عشرة أيَّامٍ وخمسةَ عشرَ يومًا، ثُمَّ هي مُطْفِل بعد ذلك ذكره الجوهريُّ، وذكر الهَرَويُّ أنَّه يقال: المطافيل النِّساءُ معهنَّ أولادهنَّ، وقال ابن فارسٍ: هي سبعةَ أيَّامٍ عائذٌ إذا وضعت، قال: والمطافيل الَّتي معها أطفالُهَا، زاد: وهي قريبة عهدٍ بنَتاج، وقال الدَّاوُديُّ: (العُوذُ المَطَافِيلُ) سُراة الرِّجال، قال: وهو وهل، وقيل: هي النَّاقة الَّتي لها سبع ليالٍ منذ وَلدت وقيل: عشرةٌ، وقيل: خمسَ عشرةَ يومًا، ثُمَّ هي مطفلٌ بعد ذلك، وقيل: النِّساء مع الأولاد، وقيل: النُّوق مع فصلانها وهذا هو أصلها.
          وقوله: (نَهكَتْهُمُ الحَرْبُ) هو بكسر الهاء وفتحها؛ أي أبلغت فيهم، يقال: نَهِكته الحُمَّى إذا نقصته، يريد: ما كان مِنْ بدر وما تكلَّفوه يوم أُحُدٍ ويوم الخندق مِنْ نفقات الأموال.
          ومنها قوله: (مَادَدْتُهُمْ) أي ضربتُ معهم مدَّةً للصُّلح.
          ومنها قوله: (فَإِنْ شَاؤُوا) قال ابن التِّين: وقع في بعض الكتب بالواو بدل الفاء، وبالأوَّل يستثقل الكلام.
          ومعنى (ويُخَلُّوا بَيْنِي وَبَيْنَ النَّاسِ) أي يكفُّون عن حَرْبِي ويتركوني وإيَّاهم، فإن ظفرتُ بهم كانوا قد ربحوا أموالهم وما تأتي عليه الحرب مِنَ الأنفس، وإنْ ظفر بغيرهم فقد جَمُّوا.
          وقوله: (جَمُّوا) بالجيم أي استراحوا مِنْ جهد الحرب، وهم جامُّون أي مُسْتريحون، وأصله الجمع والكثرة، ومنه الجمُّ الغفير، وقال ابن التِّين: إنَّه مأخوذٌ مِنَ الجَمام وهي الرَّاحة.
          ومنها (تَنْفَرِدَ السَّالِفَةُ) قَالَ الخَطَّابِيُّ: أي: تبين عنقي، والسَّالفة: مقدَّم العُنُق، وقيل: صفحته، وفي «المخصَّص» السَّوالف: الطُّلى، وفي «المحكم»: أعلى العُنق، وأراد حتَّى أبقى وحدي، وقال الدَّاوُديُّ: أراد حتى تنقطع مدَّتي وأنفرد في قبري، قال: والسَّالفة قيل: العنق وهو العِرق الَّذي بين الكتف والعنق.
          ومنها قوله: (وَلَيُنْفِذَنَّ اللهُ _╡_ أَمْرَهُ) أي ليظهره على الدِّين كلِّه وإن كرهوا.
          ومنها قوله: (أَلَسْتُمْ بِالوَالِدِ؟ أَوَلَسْتُ بِالوَلَدِ؟) أي أصنع لكم ما يصنع الولد لوالده في النُّصرة وغيرها، واسم أمِّ عروة بن مَسعودٍ: سُبَيْعةُ بنتُ عبد شمسِ بن عبد مَنافٍ.
          ومنها قوله: (اسْتَنْفَرْتُ أَهْلَ عُكَاظَ) أي دعوتُهم إلى نصركم.
          وقوله: (فَلَمَّا بَلَّحُوا) هو بباءٍ موحَّدةٍ وبعد اللَّام المشدَّدة حاءٌ مهملةٌ؛ أي عجزوا، يقال: بلَّح الفرس إذا أعيا ووقف، وقَالَ الخَطَّابِيُّ: (بَلَّحُوا) امتنعوا، يقال: بلَّح الغريمُ إذا قام عليك فلم يؤدِّ حقَّك، وبلَّحت البِركةُ إذا انقطع ماؤها.
          ومعنى (اجْتَاحَ) استأصل أهلَه، ومنه سُمِّيت الجائحة.
          والأشْوَابُ مِنَ النَّاسِ يريد الأخلاط، قاله الخَطَّابيُّ، قال: والشَّوب الخلط، وروي: <أَوْشَابًا> وهو مثله، تقول: هم أَوْشابٌ وأشاباتٌ إذا كانوا مِنْ قبائلَ شتَّى مختلفين، وقال الدَّاوُديُّ: هم أرذال النَّاس، وقال القزَّاز: مثل الأوباش.
          وقوله: (خَلِيقًا أَنْ يَفِرُّوا وَيَدَعُوكَ) أي حقيقًا ذلك قاله الدَّاوُديُّ، وقال ابن فارسٍ: فلانٌ خليقٌ بكذا أي ممَّن يقدر فيه ذلك.
          وقوله: (امْصَصْ بَظْرَ اللَّاتِ) هو بفتح الصَّاد الأولى كما قيَّده الأَصِيليُّ وصوَّبه صاحب «المطالع» مِنْ مصَّ يَمَصُّ، وهو أصلٌ مطَّردٌ في المضاعف مفتوح الثَّاني، وفي رواية أبي الحسن / بضمِّها، والأوَّل أصحُّ لأنَّ ماضيه مَصَّ. قال ابن التِّين: وهي كلمةٌ تقولها العرب عند المشاتَمة والذَّمِّ، تقول: ليمصَصْ بَظْرَ أمِّه، واستعار أبو بكرٍ ذلك في اللَّات لتعظيمهم إيَّاها.
          و(البَظْرُ) بالظَّاءِ المعجمة قبلها باءٌ موحَّدةٌ ثُمَّ راءٍ، قال الدَّاوُديُّ: هو فرج المرأة، وقال ابن التِّين: هو عند أهل اللُّغة ما يُخفض مِنْ فرجها أي يُقطع عند خِفاضها، وقال أبو عُبَيْدٍ: البُظَارة ما بين الأَسْكتين وهما جانبا الحَياء، وقال أبو زيدٍ: هو البَظْرُ، وقال أبو مالكٍ: هو البُنْظُر، وقال ابن دريدٍ: البَيْظَرة؛ ما تقطعه الخاتنة مِنَ الجارية، ذكره في «المخصَّص»، وقال في «المحكم»: البَظْر ما بين الأَسْكتين، والجمعُ بُظورٌ وهو البَيْظَر والبَظَارة والبُظَارة، الأُولى عن أبي غسَّان، وامرأة بَظْراءُ: طويلةُ البَظْرِ، والاسم: البَظَرُ ولا فِعْلَ له، والمُبَظِّر: الخاتن كأنَّه على السَّلْب، ورجلٌ أَبْظَرُ: لم يُختَن.
          وقول عروة: (أَمَا وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَوْلَا يَدٌ...) إلى آخره قال ذلك وهو كافرٌ لأنَّهم كانوا يعرفون الله وبعض صفاتِه ويجهلون بعضَها، وكانوا يُسمُّون عبدَ الله، كذا ذكر الدَّاوُديُّ وأنكر هذا بعضُهم، وقال: إذا جهل بعض صفات الله لم يعرفه، وأسلم عروةُ بعد ذلك، وأرسله رسولُ الله _صلعم_ إلى قومٍ فقتلَتْهُ، ويقال: إنَّ مثله كمثل الَّذي قال: {يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ} الآية [يس:26] ذكره الدَّاوُديُّ.
          وقوله: (لَمْ أَجْزِكَ بِهَا) أي لم أكافئك بها مِنْ جَزَى يَجْزي، وفيه دِلالةٌ أنَّ الأياديَ يجب على أهل الوفاء مُجازاتُها والمعاوَضة عليها، ومسَّ عروةُ لحيةَ سيِّدنا رسول الله _صلعم_ جريًا على عادة العرب يستعملونه كثيرًا، يريدون بذلك التَّحبُّب والتَّواصل، وحُكِي عن بعض العَجم فعلُ ذلك أيضًا، وأكثر العرب فعلًا لذلك أهلُ اليمن، وكان المُغيرة يمنعه مِنْ ذلك إعظامًا لسيِّدنا رسول الله _صلعم_ وإكبارًا لقَدْره، إذ كان إنَّما يفعل ذلك الرَّجلُ بنظيره دون الرُّؤساء، وأين نظيرُه؟! ولم يمنعه _◙_ مِنْ ذلك تألُّفًا واستمالةً لقلبه وقلب أصحابه.
          و(الْمِغْفَرُ) شيءٌ يُعْمَل مِنْ سرد الدُّروع تستر الرَّأسَ إلى الكتفين.
          وقوله: (كُلَّمَا أَهْوَى بِيدِهِ) يُقال: أهوى الرَّجل بيده إلى الشَّيء ليأخذه.
          و(نَعْلُ السَّيْفِ) ما يكون أسفل القِراب مِنْ حديدٍ أو فضَّة، ويُسْتَدَلُّ بهذا على جواز قيام النَّاس على رأس الإمام بالسَّيف مخافةَ العدوِّ، وأنَّ الإمام إذا جفا عليه أحدٌ لزم ذلك القائمَ تغييرُه بما أمكنه.
          وقوله: (أَيْ غُدَرُ) يريد المبالغة في وصفه بالغَدر، قال ابن بطَّالٍ: وفي لين عروةَ وبُدَيلٍ لقريش دِلالةٌ على أنَّهم كانوا أهلَ إصغاءٍ وميلٍ إلى رسول الله صلعم.
          وقول عروة: (أَرَأَيْتَ إِنِ اسْتَأْصَلْتَ قَومَك) فيه دِلالةٌ على أنَّه _◙_ كان يومئذٍ معه جمعٌ يخاف منه عروة على أهل الاستئصال لو قاتلهم، وخوف عروة إن دارت الدَّائرة _والعياذ بالله_ على سيِّدنا رسول الله _صلعم_ أن يَفِرَّ عنه مَنْ تبعه مِنْ أخلاط النَّاس لأنَّ القبائل إذا كانت متميِّزةً لم يفرَّ بعضُها عن بعضٍ، فإذا كانوا أخلاطًا فرَّ كلُّ واحدٍ عن الآخر ولم يرَ على نفسه عارًا، والقبيلة بأصلها ترى العار وتخافه، ولم يعلم عروة أنَّ الَّذي عقده الله به مِنْ قلوب المؤمنين مِنْ محض الإيمان فوقَ ما تعتقده القرابات لقراباتهم، فلذلك ردَّ عليه الصِّدِّيق، وهكذا يجب أنْ يجاوَب مَنْ جفا على سَرَوات النَّاس وأفاضلهم ورماهم بالفِرار.
          وقوله: (أَلَسْتُ أَسْعَى فِي غَدْرَتِكَ؟) يريد أنَّ عروة كان يصلح على قوم المُغيرة ويمنع منهم أهل التَّنكيل الَّذين قتلهم المُغيرة لأنَّ أهل المغيرة بقُوا بعده في دار الكفر، وكان المُغيرة خرج مع نفرٍ مِنْ بني مالكٍ إلى المُقَوقِس، ومع القوم هدايا قَبِلَها منهم المُقَوقِسُ ووصلهم بجوائز، وقصَّر بالمغيرة لأنَّه ليس مِنَ القوم، فجلسوا في بعض الطَّريق يشربون، فلمَّا سَكِروا وناموا قتلهم المُغيرة جميعًا وأخذ ما كان معهم وقَدِمَ على رسول الله _صلعم_ فأسلم، فقال له أبو بكرٍ: ما فعل المالكيُّون الَّذين كانوا معك؟ قال: قتلتُهم، وجئت بأسلابهم إلى رسول الله _صلعم_ لِتُخَمَّسَ أو ليرى فيها رأيَه، فقال _◙_: ((أَمَّا المَالُ فَلَسْتُ مِنْهُ فِي شَيْءٍ)) يريد في حلٍّ لأنَّه علم أنَّ أصله غَصْبٌ، وأموال المشركين وإن كانت مغنومة عند القهر فلا يحلُّ أخذُها عند الأمن، وإذا كان الإنسان مصاحبًا لهم فقد أَمِنَ كلُّ واحدٍ منهم صاحبَه، فسفكُ الدماء وأخذ الأموال عند ذلك غَدْرٌ، والغدر بالكفَّار وغيرهم محظورٌ، فلمَّا بلغ ثقيفًا فِعْلُ المغيرة تداعَوا للقتال، ثُمَّ اصطلحوا على أن يحمل عنه عروة بن مسعودٍ عمُّ المغيرة ثلاثةَ عشرَ ديةً.
          والنُّخَامَةُ ما يصعد مِنَ الصَّدر إلى الفم ومِنَ الرَّأس.
          و(ابْتَدَرُوا أَمْرَهُ) استبقوا إليه.
          وقوله: (يَقْتَتِلُونَ عَلَى وَضُوئِهِ) قال الدَّاوُديُّ: فضلة ما يَتوضَّأ به مِنَ الماء، ويحتمل أنَّه يريد: أنَّه كان يتوضَّأ في إناء ليتبرَّكوا به ولئلَّا يضيع ما فيه منفعةٌ.
          وقوله: (خَفَضُوا أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَهُ) هذا كقوله _تعالى_: {لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ} الآية [الحجرات:2].
          قوله: (مَا يُحِدُّونَ إِلَيْهِ النَّظَرَ) أي ما يتأمَّلونه، ولا يديمون النَّظر تعظيمًا له، وكان أبو بكرٍ وعمرَ بعد أن نزلت الحجرات لا يكلِّمه أحدُهما إلَّا كالمناجي له حتَّى ربَّما استفهم أحدَهما لشدَّة الإخفاء.
          وقوله: (فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي كِنَانَةَ) كانت بنو كنانة ممَّن يُمَالِئ قريشًا على سيِّدنا رسول الله _صلعم_ / ودخلوا في عهد قريشٍ، كما أنَّ خُزَاعة دخلت في عهد المسلمين، وكان في بعض المدَّة عَدَا رجلٌ مِنْ كِنَانة على آخر مِنْ خُزَاعة، فعلمت قريشٌ أنَّ العهد انتقض، فأرسلوا أبا سفيان ليجدِّد العهد مع رسول الله _صلعم_ وظنُّوا أنَّه لم يعلم بقتل الخزاعيِّ، وكان الوحي جاءه بذلك، فلم يُفصِح لأبي سفيان بنقض العهد ولا أن يجدَّد، بل قال له: ((يَكْفِي العَهْدُ الأَوَّلُ)) وهذا مِنَ المعاريض، فمشى أبو سفيان إلى أبي بكرٍ وعمرَ ليكلِّماه بذلك فأجاباه بغلظ وإلى فاطمة وابنيها فأبَوا، فأتى النَّاس والنَّبيُّ _صلعم_ بين ظهرانيهم، فقال: إنِّي أجرت بين النَّاس فقال _◙_ وأراد أن يوهمه: ((اسْمَعْ مَا تَقُولُ أَبَا سُفيَانَ)) ثُمَّ رجع إلى قريشٍ فأخبرهم بما فعل فعلموا أنَّه لم يفد شيئًا.
          وقوله: سَهُلَ أَمْرُكُمْ هو تفاؤلٌ منه _◙_ باسم سُهيلٍ، إذ كان يحبُّ الفألَ الحسنَ، وكان تفاؤله حقًّا؛ لأنَّه يُلقى في رُوعه، وفي إنكار سُهَيْلٍ كتب البسملة ويمينِ المسلمين: (وَاللهِ لاَ نَكْتُبُ) فيه _كما قال ابن بطَّالٍ_ أنَّ أصحاب السُّلطان يجب عليهم مراعاة أمره، وتركه _◙_ إبرار قسمهم، وقد أمر به أمر نَدْبٍ فيما يحسن ويجمل، فإذا كان الحَلِف في أمرٍ يؤدِّي إلى انخرام المقاضاة والصُّلح كهذا فلا يُنْدَب إلى بِرِّه، مع أنَّ ما دعا إليه سُهَيْلٌ لم يكن إلحادًا في أسمائه تعالى، وكذا ما أباه مِنْ كتابة رسول الله ليس إلحادًا في الرِّسالة، فلذلك أجابه _◙_ إلى ما دعاه، ولم يأنف سهيلٌ مِنْ هذا لأنَّه كان متكلِّمًا عن أهل مكَّة، لا سيَّما وفي بعض طرقه: ((هَذَا مَا قَاضَى عَلَيْهِ أَهْلُ مَكَّةَ رَسُولَ اللهِ)) فخشي سُهيلٌ أن ينعقد في مقالتهم الإقرار برسالته، وليس في انتمائه إلى أبيه ما ينفي رسالته.
          وقول سُهَيْلٍ: لَا تَكْتُبْ إلَّا بِاسْمِكَ اللهُمَّ، أوَّل مَنْ قالها أميَّة بن أبي الصَّلْتِ كما قال السُّهَيليُّ، ومنه تعلَّمتها قريشٌ وتعلَّمها هو مِنَ الجنِّ فيما ذكره المسعوديُّ.
          وقوله إِذْ أتاهُ أَبُو جَنْدَلٍ: (إِنَّا لَمْ نَقْضِ الكِتَابَ بَعْدُ) يقتضي أنَّ مَنْ صالح أو عاقد على شيءٍ بالكلام أنَّه بالخيار في النَّقض في المجلس.
          وقوله: (فَأَجِرْهُ لِي) قال الحُمَيْدِيُّ فيما نقله ابن الجَوزيِّ: بالرَّاء، وبالزَّاي أليق، وكذا قال ابن التِّين: إنَّه يروى بهما، فمَنْ رواه بالرَّاء فهو مِنَ الأمان، قال _تعالى_: {فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللهِ} [التوبة:6] ومنه أيضًا: {وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ} [المؤمنون:88].
          وقول مِكْرَز: (أَجَرْنَاهُ لَكَ) أي: أمنَّاه لك إذ لم يفعل سُهيلٌ، وكان سهيلٌ مِنْ أشراف قريشٍ، ومعنى (أَجِزْهُ) بالزَّاي أي أَجز لي فعلي فيه قاله الدَّاوُديُّ.
          وقوله: (الدَّنِيَّةَ) يعني: الدُّون.
          وقوله: (إِنِّي رَسُولُ اللهِ وَلَسْتُ أَعْصِيهِ) تنبيهًا لعمرَ، أي إنَّما أفعل هذا مِنْ أجل ما أطلعني الله عليه مِنْ حبس النَّاقة، وإنِّي لستُ أفعل ذلك برأيي وإنَّما هو بوحيٍ.
          وما كان مِنْ عمرَ لرسول الله ولأبي بكرٍ فيه أنَّ للمؤمنين استفهامَ الأنبياء عمَّا تَلَجْلَجَ في نفوسهم لِيُزال ما في نفوسهم ويزدادوا يقينًا، وفيه أنَّ الكلام محمولٌ على العموم حتَّى يقوم دليلٌ على الخصوص، ألا ترى أنَّ عمر حمل كلامه في دخول البيت على عمومه، فأخبره الشَّارع أنَّه لم يَعِدْه بذلك في هذا العام بل وعدًا مطلقًا، ويؤخذ منه أنَّ مَنْ حلف على فعلٍ ولم يُعَيِّن وقتًا أنَّ وقته أيَّامُ حياته، وانظر إلى فضل أبي بكرٍ على عمر في جوابه بما أجابه سيِّدنا رسول الله _صلعم_ سواءً، وهو دالٌّ على توقُّد ذهنه وحُسْن قَريحته وقوَّة إيمانه، وفيه صلابة عمر وفضلُ الصِّدِّيق وأنَّه يُقصد بالمسألة حتَّى يُحتاج إلى علمه، وفيه سابقته في العلم وتوفيق الله إيَّاه لمثل قوله ◙.
          وقوله: (وَتَطَّوَّفَ بِه) هو مشدَّد الواو والطَّاء مثل قوله _تعالى_: {فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا} [البقرة:158].
          والغَرْزُ للرَّجل بمنزلة الرِّكاب للسَّرج فكأنَّه استعار ذلك، أي تمسَّكْ برِكابه واتَّبعْه، قال الدَّاوُديُّ في روايةٍ أخرى: بِعُرْوةِ اللهِ، أي بدل (بِغَرْزِهِ).
          وقول عمرَ: (فَعَمِلْتُ لِذَلِكَ أَعْمَالًا) يشير كما قال ابن الجَوزيِّ إلى الاستغفار والاعتذار، وقال ابنُ بَطَّالٍ: يعني أنَّه كان يحضُّ النَّاس على ألَّا يُعطوا الدَّنِيَّة في دينهم بإجابة سُهيلٍ إلى ردِّ أبي جَنْدَل إليهم، ويدلُّ على ذلك إتيانُه أبا بكرٍ وقولُه له مثل ذلك.
          وأبو بَصِيرٍ _بالباء الموحَّدة المفتوحة ثُمَّ صادٍ مهملةٍ مكسورةٍ_ اسمه عُتْبَةُ بنُ أُسَيْد بن جارية بن أُسَيْدٍ وقيل: عُبَيْدُ بنُ أُسَيْدٍ حالف بني زُهْرة.
          وقوله: (مِسْعَرَ حَرْبٍ) هي كلمة تعجُّبٍ، يصفه بالإقدام في الحرب والإيقاد لنارها، واشتقاقُه مِنْ سَعَرْتُ النَّارَ إذا أوقدتَها، والْمِسْعَرُ: الخشبة الَّتي تَسْعَرُ النَّارَ، وقال الدَّاوُديُّ: هي كلمةٌ تقال عند المدح والذَّم والإعجاب.
          و(وَيْلِ) مكسور اللَّام وموصول ألف (ٱمِّهِ)، قال ابن التِّين: كذا رويت هذه اللَّفظة، وقال ابن بطَّالٍ: إعرابه (وَيْلُ ٱمِّهِ مِسْعَرَ حَرْبٍ) فانتصب على التَّمييز، ولم يُرِد الدُّعاء بإيقاع الهَلَكة عليه، وإنَّما هو على ما جرت به عادة العرب على ألسنتها كـتَرِبَتْ يداك ونحوِه، وقَتْل أبي بصيرٍ أحدَ الرُّسل بعد أن أرسله رسولُ الله معه، فليس عليه حراسة المشركين ممَّن يدفعه إليهم ولا عليه في ذلك ديةٌ لأنَّ هذا لم يكن في شرطه ولا طالب أولياءُ القتيل رسولَ الله _صلعم_ بالقَوَد مِنْ أبي بَصِيرٍ، وظاهر الحديث_كما قال السُّهَيْلِيُّ_ رفع الحَرج عنه لأنَّه _◙_ لم يثَرِّب بل مدحه فقال: (وَيْلُ ٱمِّهِ مِسْعَرَ) وفي روايةٍ: ((مِحَشُّ حَرْبٍ)) لأنَّ أبا بصيرٍ دفع عن نفسه ودينه، ومَنْ قُتل دون واحدٍ / منهما فهو شهيدٌ، قال: ولم يزل أصحابه يكثروا حتَّى بلغوا ثلاث مئةٍ وكان كثيرًا ما يقول:
هُنالِكَ اللهُ العَلِيُّ الأَكْبَرُ                     مَنْ يَنْصُرِ اللهُ فَسَوفَ يُنْصَرُ
          قال: فلمَّا جاءهم الفرج مِنَ الله وكلَّمتْ قريشُ رسولَ الله _صلعم_ أن يُؤْويَهم إليه لمَّا ضيَّقوا عليهم ورد كتاب رسول الله _صلعم_ وأبو بَصِيرٍ يجود بنفسه، فلمَّا قرأ الكتابَ سُرَّ به ثُمَّ قُبِضَ والكتاب على صدره فَبُنِيَ عليه مسجدٌ، ولمَّا فهم مِنْ قوله: (لَوْ كَانَ لَهُ أَحَدٌ، خَرَجَ حَتَّى أَتَى سِيْفَ البَحْرِ) بكسر السِّين المهملة أي شاطئه وهو موضعٌ كما قاله الدَّاوُديُّ.
          وقوله: (وامْتَعَضُوا) هو بضادٍ معجمةٍ أي كرهوا، وروي بتشديد الميم، وصَحَّف مَنْ قاله بالظَّاء المعجمة، واقتصر ابن بطَّالٍ في أوَّل الشُّروط على قول صاحب «العين»: مَعِضَ الرَّجلُ وامتَعَضَ إذا غضب للشَّيء، وأَمْعَضْتُهُ وأمعضه ومَعَّضْتُهُ إذا أنزلتَ به ذلك.
          2733- وقول البخاريِّ في آخره: (قَالَ عُقَيْلٌ عَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ عُرْوَةُ: فَحَدَّثَتْنِي عَائِشَةُ أَنَّ رَسُولَ اللهِ _صلعم_ كَانَ يَمْتَحِنُهُنَّ...) الحديث، ذكره مسندًا في أوَّل الشُّروط فقال: حدَّثنا يحيى بن بُكَيرٍ حدَّثنا اللَّيث عن عُقيلٍ به.