التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب قول النبي للحسن بن علي: ابنى هذا سيد

          ░9▒ (بَابُ: قَوْلِ النَّبِيِّ _صلعم_ لِلْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ: إنَّ ابْنِي هَذَا سَيِّدٌ، وَلَعَلَّ اللهَ أَنْ يُصْلِحَ بِهِ بَيْنَ فِئَتَيْنِ عَظِيمَتَيْنِ، وَقَوْلِهِ _جَلَّ ذِكْرُهُ_: {فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا} [الحجرات:9])
          2704- ثُمَّ ساق مِنْ حديث سفيان عَنْ أَبِي مُوسَى قَالَ: (سَمِعْتُ الحَسَنَ يَقُولُ...) فذكره بطوله، وفي آخره: (مِنَ المُسْلِمِينَ) / قال البخاريُّ: (قَالَ لِي عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللهِ) يعني ابن الْمَدِينيِّ: (إِنَّمَا ثَبَتَ لَنَا سَمَاعُ الحَسَنِ مِنْ أَبِي بَكْرَةَ بِهَذَا الحَدِيثِ)، وقال البَزَّارُ: حديث إسرائيلَ عن أبي موسى لا نعلمُه رواه عنه إلَّا ابن عُيَينة.
          قلت: ذكره البخاريُّ في علامات النُّبوَّة [خ¦3629] عن عبد الله بن محمَّدٍ حدَّثنا يحيى بن آدم حدَّثنا حسينٌ الجُعْفِيُّ عن أبي موسى عن الحسن عن أبي بَكْرَة... الحديث، قال البَزَّارُ أيضًا: والحديث رُوي عن جابرٍ وأبي بَكْرَة، وحديث أبي بَكْرَة أشهرُ وأحسنُ إسنادًا، وحديثُ جابرٍ أغربُ، قلت: وذكره ابن بطَّالٍ مِنْ حديث المغيرة بن شعبة كما سيأتي، وزعم الدَّارَقُطنيُّ أنَ الحسن رواه أيضًا عن أمِّ سلمة قال: وهذه الرِّواية وهمٌ، ورواه داودُ بن رشيدٍ وعوفٌ الأعرابيُّ عن الحسن مرسلًا، قال: ورواه أحمدُ بن عبد الله النَهْرَوانيُّ عن ابن عُيَينة عن أيُّوبَ عن الحسن ووَهَمَ فيه، ومِنْ أوهام الدَّاوُديِّ قوله: الحسن مع قُرْبِه مِنْ رسول الله _◙_ توفِّي وهو ابن سبع سنين لا يُشَكُّ في سماعه منه، وأنَّه تُعَدُّ له الصُّحبة، وهو عجبٌ فالحسن هذا الَّذي أراده البخاريُّ هو ابن أبي الحسن البصريِّ في سماعه مِنْ أبي بَكْرَة فإنَّه رواه عنه، وأبو موسى الرَّاوي عن الحسن هو إسرائيلُ بن موسى البصريُّ، نزل الهندَ، عنه ابنُ عُيَينة وحسينٌ الجُعَفيُّ، قاله مسلمٌ في كُنَاه وانفرد به البخاريُّ، قال أحمد: هو مقارب الحديث.
          إذا تقرَّر ذلك فالفِئَة الفرقة مأخوذٌ مِنْ فَأَوْتُ رأسَه بالسَّيف وفَأَيْتُه.
          والكَتِيْبَةُ: ما جمع بعضها إلى بعضٍ، ومنه قيل للقطعة المجتمعة مِنَ الجيش كتيبةٌ، وقال الدَّاوُديُّ: سُمِّيت بذلك لأنَّه يُكْتَب اسم كلِّ طائفةٍ في كتابٍ فلزمها هذا الاسم.
          وقوله: (أَمْثَالِ الجِبَالِ) أي لا يُرى لها طرفٌ لكثرتها، كما لا يَرى مِنْ قَابل الجبلَ طرفيه، والحسن لمَّا مات عليٌّ بايع له أهل العراق وكانوا له أمثال أهل الشَّام لمعاوية، ذكر أهل الأخبار _فيما حكاه ابن بطَّالٍ_ أنَّ عليًّا لمَّا مات بايع أهلُ الكوفة ابنَه الحسنَ، وبايعَ أهلُ الشَّامِ معاويةَ، فسار معاويةُ بأهل الشَّام يريد الكوفة، وسار الحسنُ بأهل العراق، فالتقيَا بمنزلٍ مِنْ أرض الكُوفة، فنظرَ الحسنُ إلى كثرة مَنْ مَعه مِنْ جيوش العراق، فنادى: يا معاوية إنِّي اخترتُ ما عند الله، فإن يكن هذا الأمرُ لك فما ينبغي لي أن أنازعَك عليه، وإن يكن لي فقد خلعتُه لك، فكبَّر أصحابُ معاوية، وقال المُغيرة بن شُعبة عند ذلك: أشهدُ أنِّي سمعتُ رسولَ الله _صلعم_ يقول للحسن: ((إِنَّ ابْنِي هَذَا سَيِّدٌ، سَيُصْلِحُ اللهُ بِهِ بَيْنَ فِئَتَيْنِ مِنَ المُسْلِمِينَ)) فجزاك الله عن المسلمين خيرًا، وقال الحسن: اتَّقِ الله يا معاويةُ على أمَّة محمَّدٍ، لا تفنيهم بالسَّيف على طلب الدُّنيا وغرورٍ فانيةٍ زائلةٍ، فسلَّم الحسنُ الأمرَ إلى معاوية وصالَحه وبايَعه على السَّمع والطَّاعة على إقامة كتاب الله وسُنَّة نبيِّه ثُمَّ دخلا الكوفة، فأخذ معاويةُ البيعةَ لنفسه على أهل العراقَين، فكانت تلك السَّنَةُ سنةَ الجماعةِ لاجتماع النَّاس واتِّفاقهم وانقطاع الحرب، وبايع معاويةَ كلُّ مَنْ كان معتزلًا عنه، وبايعه سعدُ بن أبي وقَّاصٍ وعبدُ الله بن عمرَ ومحمَّدُ بن مَسلَمة وتباشرَ النَّاسُ بذلك، وأجاز معاويةُ الحسن بثلاث مئة ألفٍ، وألف ثوبٍ وثلاثين عبدًا ومئة جملٍ، وانصرفَ الحسن إلى المدينة، وولَّى معاويةُ الكوفةَ المُغيرة بن شُعبة، وولَّى البصرةَ عبدَ الله بن عامرٍ وانصرف إلى دمشق واتَّخذها دارَ مملكته.
          وقولُ عمرو بن العاص: (إِنِّي لَأَرَى كَتَائِبَ لاَ تُوَلِّي حَتَّى تَقْتُلَ أَقْرَانَهَا) أي إن قُوتلت بغير حيلةٍ غَلبت لكثرتها.
          وقوله: (فَقَالَ لَهُ مُعَاوِيَةُ، وَهُو خَيْرُ الرَّجُلَيْنِ: أَيْ عَمْرُو...) إلى آخره، يقول: لمَّا أشار إليه عمرٌو فَهِمَها وسارع إليها وعرف ما فيها مِنَ الصَّلاح فراسلَ الحسن، ومرادُه أنَّ معاوية كان خيرًا مِنْ عمرو بن العاص.
          وقوله: (إِنْ قَتَلَ هَؤُلاَءِ هَؤُلاَءِ) يدلُّ على نظر معاوية في العواقب ورغبتِه في صرف الحرب.
          وقوله: (اذْهَبَا إِلَى هَذَا الرَّجُلِ وَاطْلُبَا إِلَيْهِ واعْرِضَا عَلَيْهِ) يدلُّ على أنَّ معاوية كان الرَّاغبَ في الصُّلح، وأنَّه عرض على الحسن المال وبَذَلَه ورغَّبه حقنًا للدِّماء وحرصًا على رفع سيف الفتنة، وعرَّفه ما وعده به رسول الله _صلعم_ مِنْ سيادته والإصلاح به، فقال له الحسن: إنَّا بنو عبد المطَّلب المجبولون على الكرم والتَّوسُّع لِمَنْ حوالَينا مِنَ الأهل والمَوالي، وقد أصبنا مِنْ هذا المال بالخلافة ما صارت لنا به عادةُ إنفاقٍ وإفضالٍ على الأهل والحاشية، فإنْ تخلَّفت مِنْ هذا الأمر قطعنا العادةَ.
          (وَإِنَّ هَذِهِ الأُمَّةَ قَدْ عَاثَتْ فِي دِمَائِهَا) يقول: قتل بعضُها بعضًا فلا يَكُفُّون إلَّا بالمال، فأراد أن يسكِّن أمر الفتنة ويفرِّق المال فيمن لا يرضيه غيرُ المال، فقالا: يَفرض لك مِنَ المال في كلِّ عامٍ كذا، ومِنَ الأقوات والثِّياب ما يحتاج إليه لكلِّ ما ذكرت فصالحاه على ذلك، وبنو عبد شمسٍ منهم بنو أميَّة، وفيه أنَّ الرُّسل لا تُهاج ويُسمع قولُها.
          وقول الحسن: (أَصَبْنَا مِنْ هَذَا المَالِ) أي حكمنا فيه حياةَ عليٍّ وبعده بما رأيناه صلاحًا، وخشي أن يثاقل عليه فيضمن فضمن له الرَّجلان ذلك، وأنَّه لا يُطَالِب فقَبِلَ منهما لعلمه أنَّ معاوية لا يخالفهما، واشترط شروطًا وسلَّم الأمر إلى معاوية، وفيه ولايةُ المفضول على الفاضل لأنَّ الحسن ومعاوية وَلِيا وسعدٌ وسعيدٌ حيَّان وهما بدريَّان.
          وفيه أنَّ التَّصالح على الخلافة والعهد بها على أخذ مالٍ جائزٌ للمختلع والمالُ له طيِّبٌ، وكذلك هو جائزٌ للمُصالِح الدَّافع المال إذا كان كلُّ واحدٍ منهما له سببٌ في الخلافة يستند إليه وعقدٌ مِنَ الإمارة يعود عليه، ذكره ابن بَطَّالٍ، وفيه أنَّ قتال المسلم للمسلم لا يخرجه عن الإسلام إذا كان على تأويلٍ.
          وقوله: (إِذَا التَقَى المُسْلِمَانِ بِسَيْفَيْهِمَا فَالقَاتِلُ وَالمَقْتُولُ فِي النَّارِ) المراد: إن أنفذ الله عليهما الوعيد.
          والسَّيِّد: الرَّئيس، قال كُراعٌ: وجمعه سادةٌ، وعندي أنَّ سادةً جمع سائدٍ / وهو مِنَ السُّؤدد وهو الشَّرف، قال ابن سِيْدَهْ: وقد يهمز وبضمِّ الدَّال طائيَّةٌ، وقد سادهم سَوْدًا وسُؤْددًا وسِيادةً وسَيْدودةً، واستادَهم كسادَهم وسَوَّدَهُ هو، وذكر الزُّبَيديُّ في «طبقات النُّحاة»: أنَّ محمَّدًا الأعرابيَّ العُذْريَّ قال لإبراهيم بن الحجَّاج الثَّائر بإشْبيلِيَة: تالله أيُّها الأميرُ ما سيَّدَتْك العربُ إلَّا بحقِّك _يقولها بالياء_ فلمَّا أنكر عليه قال: السَّواد: السُّخام وأصرَّ على أنَّ الصَّواب معه، ومالأَه على ذلك الأميرُ لعظم منزلته في العلم، وقيل: اشتقاق السَّيِّد مِنَ السَّواد أي الَّذي يلي السَّواد العظيم مِنَ الناس، قال الْمُهَلَّبُ: والحديث دالٌّ على أنَّ السِّيادة إنَّما يستحقُّها مَنْ يَنتفع به النَّاسُ لأنَّه _◙_ علَّق السِّيادة بالإصلاح بين النَّاس ونفعِهم، هذا معنى السِّيادة.
          وقوله: (ابْنِي هَذَا سَيِّدٌ) هو مِنْ قوله _تعالى_: {وَحَلَائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلَابِكُمْ} [الناس:23] وقوله: {وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} [النساء:22] واتَّفق الجميع على أنَّ امرأة الجدِّ أبي الأمِّ محرَّمةٌ على ابن البنت وأنَّ امرأة ابن البنت محرَّمةٌ على جدِّه.